متى ندرك ثراء تنوعنا البشري؟

مبدأ للفعل الإبتكاري

 

متى ندرك ثراء تنوعنا البشري؟

 

 معتصم السنوي

 

مؤلف (التنوع البشري الخلاق) تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية (الطبعة العربية) طبع بإشراف وتقديم جابر عصفور وبترجمة مجموعة من الأساتذة في جامعة القاهرة عام2009 من قبل المركز القومي للترجمة. يحمل التقرير الذي أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية سنة 1995 عن الأمم المتحدة عنوان (تنوعنا الخلاق)، وهو عنوان يكشف عن منزع جديد في فهم الثقافة الإنسانية من منظور (النزعة الكوكبية) الوليدة التي كانت بمثابة الإطار المرجعي للتوجه الغالب على أبواب التقرير الذي اتخذ شكل الكتاب، ولذلك تحمست لترجمة التقرير ضمن المشروع القومي للترجمة الذي يشرف عليه المجلس الأعلى للثقافة في جمهورية مصر العربية، إدراكاً لأهمية تقديم بعض التجليات الإيجابية لهذه النزعة إلى القارئ العربي الذي لم تتضح له أبعادها الإنسانية المتعددة..! والواقع أن (التنوع البشري الخلاق) هو مبدأ الفعل الأبتكاري في الثقافة التي تتوثب بعافية الحرية، وتشيع معاني التسامح وحق الأختلاف واحترام المغايرة، ولا تنفر من إعادة النظر في تقاليدها، لأنها تنطوي على الوهج الداخلي الذي يحول بينها والركون إلى المعتاد أو السائد. ولا يتحقق (الفعل الأبتكاري) في مثل هذه الثقافة إلا بحلول استثنائية للمشكلات المستعصية ونظرة أكثر جسارة إلى العقبات القائمة، ويستلزم ذلك مجاوزة التناقضات القديمة، والإسهام (الحواري المتكافئ) في رسم خرائط عقلية جديدة تتأسس بها علاقات النزعة الكوكبية الوليدة. ولا تهدف هذه النزعة، إلى تسلط أمة على أمة، أو سيادة ثقافة على أخرى، فيما نعرفه من وعودها الموجبة حتى الآن، فقد مضت (أزمنة التسلط والتسيد) منذ أن تعلمت الشعوب الدفاع عن حقوقها في (الوجود المتكافئ) الذي تؤكده معاني الحرية والعدالة والمساواة، وإنما تهدف إلى أحترام الاختلاف بوصفه سبيلاً للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلاً على العافية، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهراً سياسياً أو فكرياً أو أخلاقياً على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها، وهناك مقولة (ماركسية) ثبت صحتها من قبل الشعوب المستعبدة، (إن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً). فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم الذي لا رجعة فيه بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء. ويعني ذلك احترام الهويات الثقافية لكل شعب من الشعوب بالقدر نفسه، والتخلي عن مركزية أو أحادية التوجه، والإيمان بالحوار بين القوميات والمعتقدات والمذاهب والأنظمة والأفكار دون تمييز بين (أغلبية وأقلية)، أو شمال وجنوب، أو عالم أول وعالم ثالث، أو أغنياء وفقراء، ومن ثم الأعتراف بمنطق السؤال الذي طرحه الكاتب (المكسيكي) الكبير (كارلوس فوينتس)، حين: لقد ثبت عجز كل من الرأسمالية والاشتراكية عن رفع البؤس عن غالبية الشعوب، وذلك فالسؤال الثقافي الذي يجب أن نسأله هو: هل هناك حل آخر خاص بنا؟ أليس لدينا في تراثنا وخيالنا ورصيدنا الفكري والتنظيمي ما يدفعنا إلى تطبيق نماذجنا الخاصة للتنمية بما يتفق وهويتنا وحسب طموحنا وآمالنا؟ ومن هذه المنطلق، فإن (النزعة الكوكبية في ملامحها الإيجابية نزعة تبدأ من الإيمان بعلاقات متكافئة بين كل أمم الكوكب الأرضي الذي تحوّل إلى قرية كونية بالفعل. وذلك إيمان لا يفارق معنى الاعتماد المتبادل بين الأمم والشعوب من حيث هو معنى يناقض المعنى  القديم للتبعية وينقضه، مضيفاً دلالة جديدة إلى مفهوم الاستقلال الذي يتأكد بالتعاون المتبادل بين الحضارات والثقافات، وذلك لمواجهة المشكلات العالمية الكبرى التي لا يقدر على حلها بلد بعينه أو دولة بمفردها، مثل مشكلات البيئة أو الإرهاب أو التغيرات الجذرية في الخارطة (الديموجرافية) لسكان الكوكب الأرضي، فلأول مرة في التاريخ، وبعد سنوات قلائل، لن تعيش أغلبية سكان العالم على الزراعة في الريف بل في المدن، وهو أمر له نتائج بالغة الأهمية في العلاقة المتبادلة بين البيئة والتقنية والثقافة. ويترتب عليه وعلى غيره من المتغيرات الجذرية المماثلة حتمية مشاركة كل البلدان والأمم في صياغة البدايات الحقيقية لحقبة جديدة من تاريخ البشرية، والإسهام في تأصيل نوع جديد من الأخلاق العالمية. والبحث عن مواصفات جديدة لشروط مدنية سمحة، تهدف إلى تأصيل معاني التنوع البشري الذي يقوم على التفاعل لا الصراع، وعلى الحوار بين أطراف متكافئة وليس بين أطراف متراتبة في علاقات الهيمنة والتسلط والتبعية التي هي الوجه الملازم للاتباع..! ويغدو لهذا (الكتاب) معناه المتميز في عالمنا العربي حين يؤكد أن (التنمية الاقتصادية مآلها الفشل إذا صاحبتها ثقافة تقوم على القهر والقسوة والتعصب)، وحين يربط القهر بالتمييز بين المواطنين على أساس من جنس أو دين أو عقيدة أو طائفة، ويربط القسوة بألوان الظلم السياسي والاجتماعي الذي يسلب الإنسان حقوقه الطبيعية من حيث  هو إنسان، وأخيراً حين يربط التعصب بنقائض المجتمع المدني، وكل ما يقضي على معنى التسامح الذي يتأسس به التنوع البشري نفسه. وتتجاوب دلالة هذا الربط مع واقعنا العربي بوجه خاص حين نصل سياقات القهر والقسوة والتعصب بالخلل الناشئ عن المسافة الكبيرة بين حركة التحديث متسارعة الإيقاع والثبات الذي تأبى أن تفارقه قيم التقاليد الجامدة، وهو الخلل المترتب على ما يفرضه تدافع التغير من تحولات وما يولده من أنواع العداء للقيم الجديدة التي يحملها التحديث ضمن ملامح وجهه الفكري والإبداعي: الحداثة..! وأتصور أن المثقف العربي وخاصة العراقي الذي يعيش في مجتمع مزق نسيجه بالمحاصصة بين كتله السياسية (المتنفذة) متجاهلين إن الثقافة تشكل فكرنا وتحكم سلوكنا، وإنها طاقة الجماعات والمجتمعات وروحها في مختلف معاني التمكين والمعرفة وقبول الاختلاف الذي يعني الاعتراف بالتنوع والتعددية، وإذا كانت الثقافة (وراءنا وحولنا وأمامنا) كما يقول (كلودليفى شتراوس) فإن علينا أن نتعلم كيف نتيح لها فرصة أن تقودنا إلى التعايش والتعاون وليس الصدام أو الصراع..! ولابد من التوقف طويلاً عندما يشير إليه هذا (الكتاب) من وجود وحدة كامنة في تنوع الثقافات الإنسانية، وقيام هذه الوحدة على أخلاق عالمية مقبولة من الجميع، تمثل المعايير الدنيا لما ينبغي على كل مجتمع أن يلتزم به، هذه الأخلاق تنطوي على وسائل تخفيف معاناة الإنسانية، وتطوير المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وحماية الديمقراطية التي تعني ضمن ما تعني حق (الأقليات) في العيش الكريم وفي الإبداع المستقل داخل إطار الوحدة التي لا تتناقض والتنوع والتي لا تتحقق إلا بالحرية والعدل..! وإذا كانت (الانتخابات) هي الوسيلة السياسية المباشرة لممارسة الحرية في حدودها الدنيا، في موازاة مختلف أشكال الحرية الفكرية والاجتماعية والإبداعية والاعتقادية، فإن رعاية الفقراء وتأمين مستقبل الأجيال هي بعض السبيل إلى تأكيد المعنى الاجتماعي للعدل، في موازاة معناه الإنساني النابع من التسليم بأن (كل البشر يولدون متساوين في الحقوق والواجبات، وأنهم يتمتعون بحقوقهم الإنسانية بعض النظر عن الطبقة أو الجنس أو العرق أو الجماعة أو الجيل)، ولابد أن يتوقف العرب كثيراً على ما يشير إليه هذا الكتاب في مناقشة أبعاد التعددية السياسية والثقافية، فالكل يتحدث كثيراً عن هذه التعددية التي (لا نمارسها) ولا نراها متجسّدة في واقعنا إلا بما يؤكد (غيابها) ولعل ما يشير إليه الكتاب (من أن تأكيد الهوية القومية رد فعل عادي وصحي لضغوط النزعة الكوكبية في بعض تأويلاتها)، يستحق مناقشة خاصة من (مثقفينا) خصوصاً أولئك الذين يؤمنون أن النزعة القومية ليس (زناداً) لإطلاق الصراعات العنيفة إلا حين يتم تعبئتها وتحريكها في اتجاه الصراع العرقي أو الطائفي أو الاعتقادي، من منظور التعصب لا التسامح، وعلى أساس من (تغليب الفكر الواحد)، بدل الحوار بين الاتجاهات المختلفة، وقد يجد هؤلاء بعض ما يدعم أفكارهم فيما ينطوي عليه الكتاب من تأكيد أنه (لا يمكن لهيمنة أحدى الطوائف العرقية أو الدينية) أن تؤدي إلى استقرار طويل الأجل في أي مجتمع، ففي ذلك ما يناقض المعنى المدني للمجتمع وينقلب بالهيمنة العرقية أو الدينية إلى سبب أساسي للتخلف المرتبط بالصراع المدمر لمعنى الأمة..!

 

وصفوة القول: أن المتعة الفكرية قرينة الفائدة العلمية التي يسعى هذا الكتاب إلى تحقيقها بوساطة ما يفرضه على القارئ من الإسهام في حوارات راقية صاغتها عقول متميزة، وهي حوارات تدفعنا إلى أن نضع أفكارنا القديمة عن السياسات الثقافية وخرائطنا القديمة عن الاختلافات الإنسانية موضع المساءلة، وذلك من منظور التحديات التي يفرضها مغيب قرن بأكمله وبزوغ قرن جديد بإمكانات لا حدود لها في دائرة (تنوعنا البشري) الذي لم نـــــــدرك ثــــراء معنـــــاه إلى الآن..!