متى تٌنهي السيدة أنتظارها ؟ – عادل سعد
حتى الساعة ،لم توقف السيدة( ن ،خ) انتظار زوجها المغيب منذ عام 2014 بل انها عندما تسمع طرقاً على باب الدار تحث ابنها على الاسراع بفتحه (ابوك على الباب )فينظر الابن بمرارة الى امه مع هامش من الصمت المؤلم انشغالاً بحزنها ..
وفق معلومات موثقة ان زوجها خرج من داره في احدى احياء بغداد ،لكنه لم يعد إليها ،انتظرت وانتظرت ، وبعد ان اصابها اليأس طرقت كل الابواب ،حكومةً ،احزاباً ،وجهاء عشائر ،وسطاء اخرين ، للاستدلال على مصيره ،لكنها لم تحصل الا على اوهام ، لجأت الى احدى (العرافات) التي كرست الامل لديها بعودة زوجها ، قالت لها ( الحمد لله سالم مكّمل ) بعد حين تبدد لديها وعد العرافة… ثم اخذ الضغط النفسي العصابي يتسلل اليها بنوبات تشتد عليها اواخر الليل ،وتظل عيناها ساهمتين نحو الباب ، بل في بعض الاوقات يصيبها هوس الدوران في ارجاء البيت دون هدف معين .
شاب لم يتجاوز عمره العشرين ربيعاً ، تلقى ضربة على رأسه تسببت بخلل دماغي اثر محاولته منع ملثمين اقتحموا بيتهم منتصف الليل وتمكنوا من اقتياد والده على مرأى من فزع العائلة. أم في السبعين من عمرها ، كانت على وشك ان ينقلها ابنها الى المستشفى بسبب وعكة قلبية ألمت بها حين اقتحم البيت مسلحون ملثمون وكبلّوا الشاب امام عينيها واقتادوه ،وفي الحال توفيت الام نتيجة الهلع الشديد الذي اصابها . قصص اخرى تستطيع ان تكون افلاماً تسجيلية واقعية عن الفزع بكل صوره المرعبة .
الحال ، تحتفظ الذاكرة العراقية بملفات عديدة من هذه الأحداث المشؤومة الدخيلة على الواقع العراقي منذ ستينات القرن الماضي ثم تشعبت الظاهرة بنسخ عديدة بعد عام 2003 وتبين لي تباعا ان لدى بعثة الامم المتحدة الى العراق (يونامي) ملفات من هذا النوع تعاني الاندثار الزمني لأن المنظمة الدولية لم تسطع حتى الان تحديثها بمعلومات مستجدة عن عراقيين (خرج ولم يعد) او داهم بيوتهم ملثمون واقتادوهم الى جهات مجهولة على مرأى من عوائلهم في مشاهد مفزعة.
لقد اعتمدت الامم المتحدة الثلاثين من آب يوماً سنوياً للتنويه بمأساة هذا العنوان ، و لّخص الامين العام للمنظمة الدولية انطونيو غوريترش المناسبة بقوله انها يوم لتذكر كيف يحرم الاختفاء القسري ( العائلات والمجتمعات من الحق في معرفة الحقيقة عن احبائهم والمساءلة والعدالة والتعويضات).
الحال ان اغلب الذين يتعرضون للتغييب القسري عالمياً هم مدافعين عن حقوق الانسان ، صحفيون مواظبون على نشر أستطلاعات أسستقصائية ، محامون ، شهود اثبات على جرائم ، او لتغيير معالم ما ، بل وحتى بهدف ترهيبي لأحداث تغيير ديمغرافي ، واذا كانت لأغلب دول العالم التي خاضت حروباً هناك صروح لجنود مجهولين فٌقِدوا اثناء الحروب ، ظل الاختفاء القسري خالياً من أية معالم دالة رمزية حتى الان الا في نفوس محبيهم
لقد اشتهرت امريكا الجنوبية عالمياً بلوحة التغييب والاختفاء القسري ،اذ لا يخلو بلد من بلدانها الاثني عشر ، كولومبيا ، بوليفيا ،الارجنتين ، تشيلي ، الاكوادور، بيرو ،البرازيل ،اورغواي بارغواي ، فنزويلا ، غيانا ، سورينام من مغيبين في حين ابلتيت افريقيا به منذ وقت مبكر ، بعد ان كرًست الدول الاستعمارية الظاهرة في سيطرتها على مقدرات القارة السمراء ردحا من الزمن، من جنوب افريقيا الى الكونغو مروراً بغيرهما من دول الاتحاد الافريقي الخمسة والخمسين ، بل شهدت اوربا اختطاف لاجئين حقوقيين على يد مخابرات ن، منها ماحصل للمغربي الراحل المهدي بن بركة
لقد سيطرت الظاهرة ايضاً على عدد من دول جنوب شرقي آسيا الاحدى عشر ، بروناي ، كمبوديا ، اندونيسيا ،لاوس ،وماليزيا ،ميانمار ،الفلبين ، سنغافورة ، تايلاند ،تيمور الشرقية ،فيتنام ، وكان لتوحش الخمير الحمر في كمبوديا صور لا مثيل لها في الحجم الاسطوري للاختفاء القسري ، أما النسخة الاحدث منه فهي التي طالت اقلية (الروهينجا) المسلمة في مينمار (بورما) خلال عهد سوتشي الرئيسة السابقة للبلاد الحائزة على جائزة نوبل للسلام ، وقد كادت احداث التغييب القسري والقتل الذي طال تلك الاقلية السكانية ان تؤدي الى سحب الجائزة من سوتشي ،ثم تعمقت المأساة بعد الانقلاب العسكري الذي اطاح بها .
بخلاصة معلوماتية تحليلية ، تفتقر الامم المتحدة الى احصائية دقيقة عن عدد المغيبين بالاختفاء القسرية في العالم ، لأن هناك العديد منهم غيٌبوا وافتقدتهم عوائلهم ولم يتم الابلاغ عن هذه الجرائم خشية الانتقام وتكون المحنة مركبة .
هكذا ، بينما يظل هذا الملف المأساوي الدولي مفتوحاً على العديد من الاحتمالات ، تظل السيدة (ن ،خ) تحت وطأة هذه المحنة بدون اجوبة الا من هلوسة العرافة.