السيرة الشخصانية .. راويتها وروائييها -1-
متشابهات رموز تشترط التعارض والإذابة البيئية
اسماعيل ابراهيم عبد
راوي (الأحداث الشخصية ، يرويها بما يناسب فن الرواية الحديثة) قد انتشر إعلاميا بدرجة واسعة . إنه مادة المذكرات الشخصية ..
هو خميرة الـc.v. لكتّاب المدونات عبر شبكة (النت) .
صار مادة إنشائية للطلبة والشباب والصبايا ..
يعتقد الكاتب بأن تخفيه وراء راو مثالي ـ سيري ـ سيجعل كتابته اكثر صدقا في التعبير عما يريد وبمنأى عن الرقيب العام والرقيب الذاتي …
هذا كله الآن صار ماضيا . الجديد في الأمر ، أن راوي السيرة ، المتستر بتقنية الراوي المحايد ، ينقل الأحداث والشائعات والمساجلات والصور الحية اليومية والإستذكارية بقناع مموه ليقنع القرّاء بها ، وبأنه مثلهم لم يشارك بنسج الأحداث ، المكونة الحقيقية لأفعال الروي ، وله طريقة ـ وحده القادر على الإفاضة من خلالها ـ للتشويق والجذب والمرونة الروائية ، وحده يجيدها في الترويج للكذب الفني المقنع بالصدق الواقعي .
من الناحية الجمالية ، على راوي السيرة / أن يتطوّر بسرعة تغير وتطور الروي ـ تقنيا ـ محليا وعالميا .
عليه إنتقاء لغة بسيطة وعميقة .
له أن ينشّط خيالهما بما يناسب عطش الآخرين ونهمهم في الترقب والفضول .
عليه أن يستوعب شروط التفاعل النصي بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية .
له أن يحدد مرويته من خلال المضامير الموغلة في عمق المدونة الكتابية محملة إياها العلائم والإشارات الزمانية والمكانية والتشفيرية .
لقد فرقت الدكتوره بشرى صالح موسى ، من الناحية الفنية ، بين راوي الرواية ، وراوي السيرة ، على وفق ثلاثة معاييرسنوجزها بالآتي :
] أ ـ راوي السيرة يروي عبرضمير الذات وتتطابق شخصية الراوي مع شخصية صاحب السيرة ، فيما تزاوج الرواية بين السرد الذاتي والموضوعي .
ب ـ راوي السيرة يكرس هيمنة أجنحة البناء المونولوجي بينما راوي الروايــــــة يـــــروي عبــــر إطار يجمع المنولوجية والدايلوجية .
ج ـ يؤكد راوي السيرة على الأنوية ، بينما راوي الرواية يصاحب شخصيات كثيرة . ــ المفكرةالنقدية ــ د.بشرى موسى صالح ــ الشؤون الثقافية العامة ــ بغداد ــ 2008 ــ ص210، ص211 ] (154) .
ومع كل حذر الباحثة بشرى موسى صالح ودقتها في التمييز إلّا أنها لم تتنبه الى راوي السيري الذي يتقمص القناع السيري ليقدم رواية مكتملة فنيا ، وهو ما قمنا بالإشارة إلى صفاته قبل تقديمنا لرأي الباحثة بشرى .
الراوي المقنّع بتقنية راوي السيرة لهو جدير بالتمثيل والمتابعة . لننظر /
] تصوّر نفسكَ تخرج من بيتكَ صباحاً وتدخل مخزناً لشراء علبة سكائر أو رواية من كتب الجيب تريد أن تقطع بها رحلة القطار ، ثم يطالعكَ كتاب يحمل إسمكَ وصورتكَ على أنكَ مؤلفه . بينما أنتَ ليس فقط لاتستطيع أن تؤلف كتاباً بل لا تستطيع أن تكتب رسالة لصديق يلح عليكَ طيفه ورسائله المتراكمة عندكَ منذ سنين … هذا ما حدث لي . دخلتُ مخزناً قريباً من مكان عملي ، إسترعى إنتباهي كتاب على غلافه كلمـة (رواية ) وعنوان بحروف ذهبية بارزة ..
(( طفل الـCNN )) ، تناولتها مستغرباً وكانت المفاجأة ، إسم الؤلف : جميل صابر … ظننته مجرد تشابه أسماء ، لكني وجدتُ على ظهر الغلاف صورة قديمة لي ، عندما كنتُ في بغداد وأنا في العشرين من العمر . كانت الرواية بالعربية وهذا المخزن كمعظم المخازن العامة أو المخصصة لبيع الكتب في أمريكا ، لا تجد فيه الكتب العربية إلّا إذا وجدتَ سمكة من العصور الجيولوجية السحيقة ماتزال تسبح في مضخة بانزين !….
وبقيتُ ملتاثاً وقد إختلطت عليَّ الأحوال وتداخلت هواجسي وتموّهت كما تتداخل أشرطة ملونة معلقة في الريح وإلتماعات الشمس ، ولم أعد أتذكر ، أحدثَ ذلك في اليقظة أم في المنام ؟
ولكن كل ذلك لم يعد مهما . ففي اليوم التالي وجدتُ على مقعد سيارتي رواية (طفل الـ CNN) بغلاف ذهبي وحروف ناتئة برّاقة وسنجاف أحمر ، كانت بالإنكليزية هذه المرة . وإسم مؤلفهاMr. Zero مكان إسمي تماماً . ترى هل صرتُ أنا مستر زيرو أم أن هناك مؤلفاً آخرَ جاداً رصيناً إسمه مستر زيرو . ثم من وضع الكتاب هنا ؟…..
كان المؤلف يطلق للوجود الطفل الغريب الذي يبدو أنه تكوّن فعلاً من السائل المنوي العائد لضابط قتيل . يبدو أن الحكاية صحيحة !
كان لأحد الضباط أو الجنود الذين أودعوا سائلهم المنوي في البنك وذهبوا للحرب . لكن المؤلف يجازف بمنح طفل الـ ((CNN)) سن الرشد وهو مايزال يبول في لفافه … بل يحشو رأسه الصغير المركّب على جسده الهش كمية من الفلسفة والحكمة والمعرفة تفوق مايحشو به الجنود الطائرات من صواريخ وقنابل وكأنه إذ وجد نفسه في زمن الحرب أراد أن يسابق بالكلمات قذائف الموت .
وقد تغاضيتُ عن ألاعيبه البائسة الغريبة أو هفواته الكثيرة الشنيعة ليس فقط لأني قدّرتُ ما يضج برأسه المتعب من صخب وضجيج وإضطراب ، إذ قد يكون كتبَ روايته تحت دوي القنابل بل لأنه شغفني معه ، إذ أخذ طفل الـ CNN في رحلة خيالية الى العراق ، وطاف به على ركام ما تُنبِيء بحدوثه بعد الحرب أو قد يكون حدث فعلاً وأنا مازلتُ في هلوستي وجنوني وضياعي في ديترويت .
بعد برهة وشيئا فشيئا أخذت مخاوفي تتبدد وظنوني تخفت وأنا أُسافر على متن الخيال مع طفل الـ CNN الى وطني البعيد الذي ماعدتُ أجروء على الحلم بالعودة إليه . ـ رواية طفل الـ CNN ــ إبراهيم أحمد ــ دار المنفى السويد ــ توزيع دار الكنوز الأدبية ــ بيروت ــ 1996 ــ ص29 ، ص30 ، ص31 ] .
لنركز على ملامح الراوي الفني الذي يتقنع بتقانة راوي السيرة فينتج رواية تشبه رواية السيرة لكن الفاعل فيها يتشبه بالمؤلف ، أي مؤلف .
في المشهد أعلاه يتصيّر الراوي لباسا للمؤلف يتوجه نحو رواية لا علاقة له بها ، ولا علاقة لها بالكاتب مطلقا ـ من الناحية الظاهرية ـ …
هذا الراوي يتميز بما يأتي /
1ـ أن إسمه المؤلف ولم يقل أنا الكاتب .
2ـ أن مدونته تشمل مرحلة إجتماعية تأريخية طويلة نوعا ما وليس فيها ما يوحي بالخصوصية أو الشخصية ـ ظاهريا ـ .
3ـ يؤلف مادة حكائية تخلط بين الحقيقي والمتخيل ، وحجم المتخيل أوسع كثيرا من حجم الحقيقي الموهم (!)
4ـ ينقل الأحداث بما يناسب إتجاه الرواية من علائق إجتماعية وفنية .
5ـ لغته تحافظ على مقدار جيد من الجذب والتشويق والقول المقنع بالصدق ، أو الكذب المُقنِع للقرّاء .
6ـ يحافظ على التفاعل بين الفردي والجماعي للفني والإجتماعي .
7ـ يحتفظ للمدونة المعروضة بالمضامير للعلائم التشفيرية والزمانية والمكانية
كما تتميز عملية التسجيل الروائي لديه بإشاعة إتجاه علمي في مجال الجينات الوراثية وهو إتجاه ليس فيه ما يوحي بنتائج على المستوى الروائي ، ولم تحرث الرواية فيه كثيرا .
هذا الشيوع لم يكن سوى إشاعات ومساجلات فقط بل هوعمل شبه إعلامي ، ستتوثق خطاه العلمية في ما بعد ، فهو في عداد العلوم الإحتمالية المؤكدة ، استثمر الكاتب هذه التجارب والتكهنات وبعض الممارسات الواقعية في مجال حفظ السائل المنوي مختبريا ، ليوجه لنا خطابا روائيا ليس فيه خروقات فنيةبل فية غرائب مكانية وحكائية .. المهم أن الراوي جعل من إسم الروائي المقنّع رديفا لإسم مؤلف آخر وتخلى عن إنتساب الرواية له ، كما أنه لم يحتج على أن يكون (زيرو) ولم يستغل هذه المضيعة الإنسانية بين الكتابة والحياة لطرح قضية (المغتربين والحنين الى أصولهم) ، إمنا إستغلها لتكون شهقة الإحتجاج على المسخ والجشع الذي ينخربشخصية الأمريكي ، مهاجرا أو أصيلا، سواء بسواء .
في تصير عملية الروي معتمدة على التدرج في الإفاضة بالحادثة ، حيث تكون الحادثة نفسها عنصرا هاما في التركيب الجمالي للدلالة بجملتين هما
جملة (ممسوخ جميل صابر= zero )
وجملة ( السائل المنــــــــوي = طفل الـ CNN )
والغريب أن هاتين الجملتين صارتا ثيمتين قيميتين للرواية الممتدة على 350 صــفحة .
لعل أهم الشيفرات التي لم يصرح بها الروي مباشرة تتمركز حول فكرة /
(العدالة الإلهية لن ترضى بالإعتداء مهما كانت المبررات) ، فـ :
ـ الإعتداء يولد الإنهيار للمعتدي وللمعتدى عليه .
ـ إن العنصرية واحدة وإن تغلفت بأثواب جديدة .
ـ أن التكنولوجيا ستقيم مجتمعاً يستغل حتى السائل المنوي للموتى لصالح التجارة التي بلا أخلاق ، كأنها الوجه الحقيقي للبنوك الرأسمالية .
ـ من الملامح الصياغية لمشاهد الحوادث الروائية وإسميْ المؤلفين جميل صابر وزيرو يبين أنها تعبر ببساطة ودقة وترابط إنشائي عن قضيتي (المواطنة المستلبة ، والمؤامرة الدولية على الحضارة الأخلاقية) .
ـ أن المشاهد تقدم الفاعل
جميل صابر = الراوي جمـــــــيل صابر .
والمؤلف أحمد إبراهيم = جميل صابر.
وجميل صابر = زيرو .
وستكون النتيجة :
الفاعل = الراوي = زيرو = أحمد إبراهيم
أحمد إبراهيم = العراق المنتهك
ـ سيحافظ إبراهيم أحمد ، زيرو ، جميل صابر ، على بنية راو حقيقي يتقنّع بتقانة راوي السيرة الشخصية .ضمن هذا الإتجاه يتألف نمط جديد للروي الشخصاني هو الروي بحال الهامشية ، إستوجبته تقنيات الروايات التي تحاول أن تكون قوليّة بأوسع مايكون من الدلالة الخطابية ، فهو هامشي من حيث كونه نتيجة تداولية ، أي أنه راوي المشاهد تواصليا عبر شبكات التواصل الجديدة ، وهو يبث الدلالات المغايرة للمتن المتضمن لها لأجل إطلاق طاقة التأويل المكملة للمرتبة الضابطة لإيقاع النغم الفكري المنظم للروي . يمكن توخي مضمونات مثل هذه الفرائض في /
– نموذج جاك لاكان
ـ الراوي يروي المدونة بصيرورة الدلالة المتواصلة .
ـ يفسرالنموذج الصيرورة التي تقطعها إندلالية فرويد بالأسقاطات النفسية.
ـ يتجاوز المظهر النسقي وبنية الجملة الى التوليد الدلالي اللانهائي ، على طريقة كرستيفيا في كتابها ـ التناصـية ] .
– النموذج الثاني :
يقع في المستوى الثالث بين المتن الأعلى والأسفل فيربطهما ، إذا كانت المدونة مقسمة الى نصفين علوي وسفلي .
– النموذج الثالث :
يتصل مباشرة بمصادر المروية الحكائية وحمولاتها الحدثية ويوجه الفعل نحو خفاء إشاري غير يقيني ليزيد من لذة الحيرة ونشوة الإكتشاف .
– النموذج الرابع : يضبط مفاصل النص المنعكس في ذات الفاصلة الجملية بعد إجتيازه لهيكل الدلالة في (رسالة) الخطاب .
هذا التموذج لا يتأتى إلّا للنصوص الروائية المركبة التي تغطي مساحات متنوعة من التأويلات .
ليس من قبيل الصدفة مثلا أن يشيع في القصص القصير الذي يفسح مجالا واسعا للتأويل ، فيما لم يقم بمثل هذا التركيب ، لوظيفة راوي الهوامش ، إلّا أندر ما ندر من الأعمال الروائية .
على الرغم من صعوبة الإشتغال الروائي لمثل هذا النوع فقد نجد تطبيقات مناسبة في فرادة بعض الروايات كرواية (أوراق ابراهيم الناصري) لعبد الإله عبد الرزاق ، لنتابع بعض مقاطعها .
متن[ حين وصلت البيت وقبل أن رأيتُ شبح فتاة تنظر إليَّ من بين فتحة القصب في البيت الذي يقابل بيتنا في مساحة ترابية منخفضة عن الشارع قليلا . شعرتُ بحرارة نظراتها المسلّطة عليَّ بقوة .ولم تتركني إلّا بعد أن دلفتُ وأغلقتُ الباب ورائي . فاجأني سمير بسؤال ونحن نأوي الى أسرّتنا في ساعة متأخرة من الليل :
ـ ما رأيك بربيعة ؟
رفعتُ رأسي عن الوسادة وأنا أرنو إليه مستفهما :
ـ ربيعة ! رأيته يومئ الى جهة خارخ الغرفة . هززتُ رأسي :
ـ لا أعرف عمن تتحدث ؟
ـ ربيعة البنت التي تسكن في بيت القصب في الساحة المقابلة لنا .
قلتُ بصورة لا إراديّة :
ـ آه !
أجابني بسرعة : هل رأيتها ؟
قلتُ محاولا تغيير مجرى الحديث :
ـ رايتُ وجه صبية فعلاً ، إنها صبية صغيرة .ماذا في ذلك؟
ضحك سمير وهو يعتدل في فراشه مادّاً يده ليصل زر النور . غرقت الغرفة في الظلام …. تحرك سمير في فراشه .
ـ إسمع يا إبراهيم . يجب ان نتعوذد على طبيعة الحياة هنا . أليس كذلك ؟
لم أفهم ما يعني . قلتُ بآلية :
ـ آه . طبعاً .
إستطعتُ في الظلمة أن أميز وجه سمير- ….
توسط مكمل بين متنين
[(إبراهيم على الرغم من أنه سهل وبسيط كما يبدو ، لكنه ينطوي على أشيا لايريد الإفصاح عنها . لاتبدو علاقته بمدينته طيبة ، أكثر من مرة لم يستطع إخفاء إنفعاله حين قال عبد الحميد ، لماذا لاتعرف ألستَ من هذه المدينة ؟ فردعليه في هدوء : أرجوك . وسكتَ . وظل عبد الحميد حائراُ .لم يملك إلّا أن قال بإعتذار : آسف . لاأقصد ذلك . سكتَ مرة أُخرى .
ومضى إبراهيم متشاغلاً بما بين يديه. قد تكشف الأيام القادمة شيئا عن إبراهيم لكن الرجل هاديء وطيب ومثل هذه الصفات مطلوبة هنا . إبراهيم جيد .
دعنا نرى ماذا يحدث له حين يجد ربيعة هنا في البيت )] .
أن المشهد الروائي يتحمل إحالات الروي على لسان راوٍ يتصيّر جزءا من متطلبات هوامش المروية على وفق الآتي /
ـ الراوي يواصل الروي بين المتن والهامش بواسطة العلامة (- ) التي أكملت المشهد وفتحته على قوى التواصل الأحالي بصيرورة التنامي بين المتن العلوي والهامش السفلي عبر منظومتين للروي ، الأولى الخارجية ، والتي وافقت ما قدمه الراوي في المتن (وهو مجهول) ، والثاني هو سمير ، والذي جعل الروي ظاهريا على لسان عبد الحميد ، وباطنيا على لسانه . بالطبع فأن الإيهام والتخمين سيلازمان المستويين من الروي ، العلوي والسفلي ، ويوضع الراوي المجهول بإزاء الراوي المعلوم ، على وفق العلائق الهامشية الإكمالية ، وهكذا نمو يعني ، تواصلا دلاليا بمواصفات نموذج جاك لاكان .
ـ كما أن الإسقاط النفسي يولد دلالاته المرحّلة من الظاهر المعلّم بدلالة اولية نحو أنلالية باطنية إقتضاها العمل المجزأ على نفسه ، متن علوي ، متن سفلي ، رابط وسيط .
لقد تمت آلية الترحيل على الوجه الآتي :
(شبح المرأة يعطي حالة نفسية عن لايقين المعلومة ، ثم هو يرسل إشارة دلالية نحو مجهول جديد ، الشعور بحرارة النظرة ، وهذه الإخبارية تقرّب الإحساس النفسي من مطامع غرائز الفاعل ، عبرسيرورة النظر ، وجسدانية الوضع المرسوم أمام البصر . هكذا تصير هذه النقطة (النظرة) دلالة مقصورة على هامش المعرفة للجزء الوسيط لتغدو كقلق نفسي لدى إبراهيم ، ومحطة إختبار لإبراهيم بإزاء عبد الحميد ، وحالة تحقق من تكتم إبراهيم بإزاء سمير وعبد الحميد خاصة في المتن الأسفل (دعنا نرى ماذا يحدث له حين يرى ربيعة هنا في البيت) ، وكأنهما ، سمير وعبد الحميد يريدان كشف وضعه النفسي ورغباته الحقيقية ، ومدافنه المتخفية وراء صمته وهدوئه .
كل هذا خيط سيوصل إسقاطات متتالية من مظاهر إبراهيم الى قوله ، الى حركته ، الى مكنونه النفسي ، عبر إحتمالات مترحلة من (قبو) الصمت الى مظهر الوجود ، وبالعكس ، بحسب فرائض فرويد .
ـ يمكن القول ، أن النسق اللغوي للمشهد يحتمل أن يصير تعبيراً لحاضنة إجتماعية خاصة بتجمع مدني في جنوب العراق . تجمع فيه تمايز طبقي فاضح وأن العلائق المترتبة عليه ستكون ذات خواص تجعل القيم ، بمظهرها الخارجي متناً ، والقيم بطبيعتها الحقيقية هامشاُ . هذا معناه أن الراوي الهامشي تحوّل الى الهامشية عندما أراد أن يفضح مكنونات أبراهيم الناصري ، وكان راوياً مهيمناً حين تخفى وراء الضمير (هو) الغائب بفعله ، الحاضر بمظهره .
هذا النسق صيّر جملة السرد مزدوجة الأداء ، ملغّزة الإفصاح ، في آن واحد ، ليتيح للقول الهامشي أن يطلق لسان الراوي الهامشي في نقل وقائع أحداث مطلقة التأويل مفتوحة الدلالة تتعلق بحالة ربيعة التخمينية ، الفتاة التي كانت منظرا بصريا فصارت هامشافكريا عاطفيا عميقا ، خارج حدود الأخلاقيات ، مما سيؤثر في فتح حدود لانهائية في رغائب الرجل والمرأة ، بتعطيل الموروثات الإنسانية البعيدة عن متطلبات الجسد .
كل الذي جرى وسيجري مفاتيح لأحداث لاحقة ، بالآليات ذاتها ، لكن بتأويلات جديدة مختلفة الأهداف .
ـ المشهد المتقدم المجزأ ، علوي وسفلي ورابط ، غلّف الروي بحركة الراوي الهامشي ، المتبادلة بين المتن والهامش ، وكأن الراوي هو عنصر الإتصال الوحيد بين جزئيات المشهد ، على الرغم من وجود قدر كبير من الإتصالات اللغوية المظهرية والدلالية ، والواضحة والمضمرة ، لكن هيمنة الراوي الهامشي على عملية الربط والإتصال والتواصل غيّب الفعل المباشر لهذه الإتصالات ليتغلب على منظومة الروي التوفيقية بين جزئي المدونة ، العــــــــلوي والسفلي .ـ مصدر المروية كحدث أوجد ظرفا يستدعي هجرة إبراهيم الناصري الى بلدة بعيدة عن مكانه السكني بمقابل ظرف جديد أسكنه مع مجموعة سمير وعبد الحميد . المكانان ، المدينتان ، مصدِّرتان للحكاية الروائية وحمولات وقائعها ، والحكاية مرتبطة بثلاثة فواعل ، إبراهيم وسمير وعبد الحميد ، ولكن لا الحكاية ولا الفواعل يمتلكون المعرفة الكلية بأطراف ونويات وعمق الأحداث اللاحقة . بمعنى أن الراوي المجهول هو الوحيد من يتصل بمصدر الأحداث كلها (المدينتين) ، ويوجه الحكاية عبر إشارات توميء للأحداث السابقة واللأحقة ويخفي أحداثاً آنية ، ومن نتائج هذة الإشارات الخفائية /
أن الخفاء أضمر شخصية إبراهيم الناصري، فهو في المتن الحكائي أوراق.
ثم أن المرأة (ربيعة) هــي الخفاء الثاني ،
فهي مؤنث الربيع ،
وفي ربيع العمر ،
ومقابل ربعة النُزُل ،
وعند ربيع أو مقتبل فطرية القصب الحضارية ،
وهي ربع اللذة المؤجلة النادهة بعسل الجذب دون أن تدري (اللذة لعمر الستين مقسموما على أربعة = 15 هو عمر ربيعة )
أما الخفاء الثالث فهو في كون ربيعة وإبراهيم ذاكرة من أوراق الناصري.
الأوهام (الخفاءات) ستحيل المشهد الروائي الى نموذج من الأسرارتتطلب البحث عن اليقين ومن ثم الحصول على لذة اللاتيقن .
ـ في وضع فرضية لتساوي بُغى الراوي من كلا المقطعين ، العلوي والسفلي ، نجد المتقابلات الآتية /
أ ـ مارأيك بربيعة ـ لا أعرف عمن تتحدث (في المتن) ؟
ـ إبراهيم ينطوي على أشياء لايريد الإفصاح عنها (في الهامش) .
ب ـ رأيتُ وجه صبية فعلاً ، إنها صبية صغيرة (في المتن) .
ـ لماذا لاتعرف ـ يقصد ربيعة ـ ؟ رد عليه بهدوء : أرجوك . وسكت (في الهامش).
ج ـ إستطعتُ في الظلمة أن أُميز وجه سمير (في المتن) .
ـ مضى إبراهيم متشاغلاً بما بين يديه (في الهامش) .
المقاطع السابقة تحاول أن تؤشر المفاصل الأساسية في المتن والهامش والمشتركات التي أحدثها الراوي الهامشي ليتم التعرف على المنعكس بين لوازم الجزأين .
في الفقرة ( أ ) يخفي إبراهيم الناصري معرفته بربيعة ، وفي الهامش ينوه سمير على أن إبراهيم الناصري يخفي أشياء لايريد الإفصاح عنها ، علما أن إبراهيم هو الراوي المتخفي والمخُفي للأحداث المضمرة ، ومثلما يرى فأن العبارتين ممثلتين لمحور توصوالي توصيلي واحد بين حمل المتن والهامش و وهما متعادلتان من حــــــــيث القدرة السردية واللغوية والجمالية والدلالية ، لذا يمكن عـدّهـــــــــــــما لباسي الراوي أثناء ربــــــــــــطه الجمل الحدثية . وكذلك حال الفقرات ( ب ) ، ( ج ) .
وعليه فيمكن القول : أن الراوي الهامشي يساوي بين الفواصل ويردم فجوات التوقف الحدثي ، وهو عبور مؤكد بين الأعلى والأدنى من القيم الفنية والفلسفية ، الى حد ما .ولأجل إكتمال تسلسل التوليف المشهدي للروي الشخصاني نتقدم بتوصيف لرتب الأهميات لرواة (الشخصانية) مثلما هي في بعض الروايات العراقية . الروي بالأهميات هو الروي الديناميكي الذي يتصاعد من الحادثة الأصغر ثم الأكبر فالأكبر، وبالعكس .
إنه لايروي الأحداث ، ويؤلف النماذج ويقرر الأفعال بوتيرة واحدة ، لأنه يتصاعد أو يتنازل بالأهميات من الأدنى الى الأعلى ، ومن الأعلى الى الأدنى بموجب العلاقات بين قوى السرد وحصيلة الروي . يعتقد فوكو في حفرياته /
في تتبعنا لتسلسل المتشابهات والرموز سنجد أن الموضوعات الخطابية تحرّك قوّتها الأشكال الأكثر تعارضا قصد إذابتها فور ذلك بوحدة تتغير ببطء ] .
أجد أن العلاقة المظهرية التي يؤكدها ميشيل فوكو إشترطت التعارض والتغير البـــــــيئي والإذابة الفورية لكل تشكيلات الخـــــطاب بوـــحدة قولية .
أن هذا التصعيدى بالرمزية العالية يحتم على الراوي أن يتصف بالقدرة التجميعية والـــــــــتذويبية والترميزية لما يهذّب ثقافيا ليستوعب التعارض والتغير ، أي الفهم الأدق لأهميات أنماط الرتب الروائية (التصاعد ، التنازل ، التوافق ، التناقض) .
والأهميات السردية الصياغية لها ترتيبات تنظيمية عليها تقع مهمة إستمرار الروي ، بعد توقف البث السردي .
الأهميات لاتتآلف أو تنسجم بالعجالة أو العفوية أو الإنفعالية ، إنها تخضع لتبويب وتصنيف دقيق لقوام /
التشفير الإشاري تحققا للخطابية في ميدانها الطارد للحدودية والرتابة والمحفز للبناء النظري وللتحليلات الشكلية ـ برأي فوكو ] .