العراق مابعد الديكتاتورية حتى دخول داعش مبتدأ الإنهيار العربي جواد غلوم مضى على سقوط الدكتاتورية الصدامية أحد َ عشرَ عاما وبضعة شهور والعراق يتعثر بمشيته الواهنة وكلما قطع شوطا قصيرا نحسبهُ سيواصل خطاه ، عاد يلهث من جديد وشعرَ بتعبٍ شديد فهذا الوطن السقيم يريد رعاية وعقارا شافيا وصالات انعاش تعيد ولو قليلا من عافيته ليستمرّ في مساره المليء بالمطبّات والحفر والاخاديد المخيفة ، ومما يؤلم اكثر أنْ لاجدران صلبة يستند عليها ولاساعد أيمن أو حتى أعسر يمتدّ اليه لانتشاله من كبواته المتكررة ، ومعظم من اعتلى منابر القيادة لم نسمع منهم سوى الخطابات الفارغة والثرثرة والمناكفة والسعار الطائفي والنزوع العِرقيّ ومحاججة خصومه الساسة الذين سمّوا أنفسهم شركاء في الحكم لكنهم في حقيقة الامر لم يكونوا سوى فرقاء وخصوم وطامعون تبنّوا نهج المحاصصة ؛ فهذا لكَ وذاكَ لي وتلك الوزارة للمكوّن الفلاني والهيئة الثانية للمكوّن الكردي أو الشيعي والمؤسسة الاخرى لأشقّائنا السّنة وهكذا دواليك وكأنّ العراق بكل ثرائهِ الحضاري وغناه وثرواته التي لاتحصى صارت غنيمة قابلة للقسمة ومائدة تنهشها اسنان المحاصصة ، والاغرب انهم لم يُبقوا للتنمية والخطط المستقبلية وللإعمار والبناء شيئا ذا بال يمكن ان يُغني من فاقةٍ او يسمن من جوع أو يروي من ظمأ حتى وصل الامر ان بدأنا نستورد ماء الشرب من البوادي و الصحاري وصرنا نكسوا أجسامنا ونستر عوراتنا من بلدان كانت في الامس القريب شبه عارية ونأكل مما يجود به الجوار وغير الجوار من طعام وغذاء كان قسمٌ منه منتهي الصلاحية وغير صالح للاستهلاك البشري ، أما المحتل الغازي من أصلاب العم سام واليانكي ومن التفّ معه فقد حزم حقائبه وولّى هاربا بعد غزو البلاد وإسقاط حكم البعث الصدامي الغارق في الديكتاتورية وترك لنا تركة من المصاعب والمصائب محالٌ ان يتمّ القضاء عليها او تذليلها والتقليل من مخاطرها أمام عقول لم تمتهن ادارة الحكم من قبل وليس لها الدربة والدراية في الانسلال الى دروب السياسة ومعرفة مخارجها ومداخلها وأسرارها ومخابئها وطرقها الوعرة والسالكة ، أعدّ الاميركان العدّة فهجروا العراق وأخلفوا وعدهم بإعماره وترميم ماخلّفته غزوة المارينز في نيسان من العام / 2003 ولم يُبقوا غير سفارة حصينة وكبيرة جدا في المنطقة الخضراء بكادرٍ هائل ينفذ مخططات لاندري فحواها لمقبلٍ مليء بالغموض والسريّة ولايعرفها سوى الله والراسخون في اقبية البيت الابيض وبين جدران البنتاغون العصيّة على تسلّقها مما زاد الطين بلّة – كما يقال في أمثالنا العربية – ان العراق الان يتعرض لهجمات خليط من اجناس بشرية زحفت اليه مثل جراد جائع من اكثر المخلوقات الثيوقراطية تطرّفاً وانتشرت في سهل نينوى وبعض اقضيته ونواحيه وفي اجزاء من محافظات صلاح الدين والانبار وديالى والحرب بين كرّ وفرّ مخلّفة العديد من الضحايا من الطرفين المتنازعين دون ان تظهر بارقة أمل بالنصر على غزاة عتاة ولم نلمح انهم تزحزحوا من مواقعهم حتى نراهم بعد حين قد توغلوا في تلك القرية او تينك القصبة ليملأوا الارض دماءً وقتلى ومجازر رهيبة لاتصدّق مثلما حدث في قرية البشير التابعة لمدينة طوزخورماتو وفي احياء من قضاء تلّعفر وفي مدينة تكريت حيث ارتكبت مجزرة يندى لها جبين الانسانية لطلبة في احدى المؤسسات العسكرية الجوية اضافة الى الاعتداء المتكرر على النواحي القريبة من سامراء حيث قتل عدد من الضحايا قبل بضعة ايام ومن ضمن القتلى ناشطة سياسية بفعل شظايا قنابل سقطت على ناحية العلَم بغزارة . ولشدّ ما آلمنا ان هناك من ينكر مثل هذه الاعمال الوحشية وينفي حدوثها ويعتبر ماحدث ” ثورة سنيّة ” لتأجيج النزاع الطائفي وهم كثرة كاثرة وبضمنهم مثقفون وسياسيون ولا ادري ما الذي يجعلهم ينحون منحى بعيدا عن ابراز الحقائق وطمس معالم مثل تلك الجرائم المفرطة في الوحشية وكأن بقية الخلق من مواطنينا العراقيين مختلفي الالوان والمشارب والأعراق والمذاهب يعيشون نعيم الحياة ورفاهيتها ولم ينلهم سعير الصراع المذهبي والطائفي ، فالعراق الان بكل طوائفهِ وشرائحه الاجتماعية وقومياته يعيش ظروفا في منتهى القسوة والإذلال اذا مااستثنينا أشقّاءنا في كردستان العراق لست هنا من المدافعين عن النظام العراقيّ الفاسد في غالبية مرافقه الرسمية وعن السلطة التي حكمت مايزيد عن احدى عشرة سنة ولم نلمس منها شيئا يوحي بانها تراعي شعبها فقد عجزت عن ان تبني جيشا صلب العود رغم التخصيصات المالية الهائلة من ميزانية العراق الانفجارية التي تعدّت 120 مليار دولار سنويا ولم يتم تجهيزه بالمعدات الحربية الكافية ومعظم صفقات السلاح والآليات العسكرية المستعملة قديمة الصنع (الخردة ) كانت تشوبها الرشا والقومسيونات المريبة اضافة الى نكول الولايات المتحدة بالتزاماتها في تعزيز القوة الجوية العراقية بالطائرات الحربية والسمتية وتكثيف طلعاتها لإضعاف العدو وضعضعته وإنهاكه كي يتم مسك الارض بيد الجيش من قبل قطعاته البريّة وهذا ماسمعناه من القادة العسكريين الذين شكَوا من الولايات المتحدة وإخلالها بالتزاماتها تجاه تعزيز الجيش فلنقل بصريح العبارة ان ليس الجيش وحده قد بُنِيَ على اساس هشّ فهناك اهمال شديد في تقديم خدمات التعليم والصحة والإسكان والكهرباء وفرض الامن فمازال التعليم في ادنى مستوياته الان بعد ان كان العراق في مصاف الدول المتقدمة تطورا تعليميا في الشرق الاوسط ثمّ بروز ظاهرة السكن العشوائي ونمو العشش الموزعة في كل احياء المدن العراقية والتي لم يألفها العراق قبلا وتفاقم الاعراض المرَضية بشكل مخيف ولا من أخصّائيين ومشافٍ تفي بالغرض لتستوعب اعداد المرضى وفقدان وغلاء الخدمات الصحية في الداخل مع انها لاتشفي سقيما ويضطر الموجوع المُعنّى الى السفر في ديار الله الواسعة بحثا عن بارقة امل في الشفاء لو امتلك سيولة مالية تغطي مصاريف العلاج والاّ فهو في عداد الاموات وينتظر أجلَه في بيته اذ لاتأمين صحي يسنده ولا وزارة صحة ترعاه . اما عن الطاقة الكهربائية فحديثها يثير شجونا شتى اذ تم تخصيص اكثر من ثلاثين مليار دولار ( الرجاء التركيز على هذا الرقم الفلكي ) طوال السنوات العشر الماضية دون تحسّن ملموس في خدمة تلك الطاقة والرجال التكنوقراط كلهم الذين استوزروا وزارة الكهرباء قبلاً عبأوا جيوبهم اموالاً هائلة من السحت الحرام وغادرونا الى بلدانهم التي اكتسبوا جنسيتها من غير رجعة فمازالت العائلة العراقية تستنزف الكثير من مدخولاتها لتشتري الكهرباء من القطاع الخاص وتحديدا من مالكي المولّدات الرابضين في احياء العراق كلها عدا المنطقة الخضراء الحصينة التي تتزوّد بها من الدولة طيلة اربع وعشرين ساعة في اليوم وللحديث عن البطالة المتفشية في كل شرائح المجتمع وبالاخص الشباب العاطل فهذه علة العلل ومصدر من مصادر الهمّ العراقيّ والقلق الدائم ، فمعظم شبابنا الذي يفوق عدده نصف مجتمعنا مشلول بلا عمل منتج ولم يعودوا مجدا مخلدا وليس لهم غدٌ مشرق يتطلعون اليه الاّ من ابتسم الحظ اليه وهم قلّة قليلة وليس امامهم سوى التطوّع في الجيش او الشرطة للانضمام الى ماسمّي المجتمع المتعسكر مقابل رشى تدفع لشخوص يرتبطون بمراكز تعيين هؤلاء العاطلين ووسطاء لهم علاقات متشابكة مع المسؤولين عن ادارة اتخاذ قرارات التعيين ، او الانضمام الى صفوف الاحزاب الاثنية ليعمل حارسا امنيا لاحدى مقراتها او مرافقا وعنصرا لحماية رؤوس تلك الاحزاب فهذه فقط هي الاعمال المتاحة في الوقت الحاضر بسبب اغلاق غالبية المنشآت الصناعية المنتجة وتعطّل القطاع الخاص وعزوف الفلاّح عن الزراعة وتضاؤل الصناعة الوطنية والحرَف اليدوية التي كان يتميز بها الحرفي العراقي نتيجة الفوضى العارمة من قبل التجار وإغراق البلاد بالسلع الرخيصة الرديئة النوعيّة وعدم وجود اية معايير او ضوابط تحكم التاجر ان يخضع لمقاييس السيطرة النوعية وفق خطط سليمة تبيّن مدى الحاجة واهميتها من الناحية الاستهلاكية او الانتاجية بحيث عمّت الفوضى في السوق وأثّرت بشكل كبير على طمس الحرفنة العراقية وتدمير القطاع العام والخاص المنتج . هناك العديد من الشباب الباحث عن عمل ممن اضطرته الظروف القاسية والحاجة المادية الى الانخراط في شبكات عصابات السرقة والخطف والابتزاز وما أكثرها في بلادنا وآخرون لم يجدوا امامهم غير الرصيف لعرض بضاعة بائسة بخسة من نفايات تايوان وهونكونغ والصين وايران وغيرها التي ملأت اسواقنا ليبيعها وينال رزقا متواضعا يعيل اسرته مادام لايمتلك مبلغا مقنعا ليقدمه رشوة مقابل حصوله على وظيـــــــفة متواضعة ويفتقد الى قريب او صديق يعينه على ايجاد عمل له في هذا الوطن المتعسكر او عنصر امن وحماية في احد الاحزاب والجمعيات والمنظمات المدنية المخادعة التي يفيض بها العراق. كلّ هذه السلبيات نعرفها ، دمار وقهر وظلم وانعدام الهدوء والاستقرار والسكينة وفساد طاغٍ حتى وصل مؤسسات وهيئات النزاهة والرقابة المالية ودوائر المفتش العام في جُلّ مؤسسات الدولة وأينما تلتفت الى كل المرافق الخدمية والانتاجية ترى اهمالا وعجزا وفسادا وارتدادا نحو التخلّف والسير الى الوراء ؛ لكن كلّ هذا الذي ذكرناه لايبيح ان نرفع الضوء الاخضر مهللين ومرحبين لمجموعات مسلحة بالدخول الى بلادنا وجعلها ساحة لمضاعفة التدمير وزيادة الاذى والأسى بأهلنا المتعبين اصلا من ثقال سندان الحكومة الحالية وهو يكمد على صدورنا عبئا لايطاق فكيف بنا ومطرقة داعش تطرق رؤوسنا صداعا مخيفاً مرعبا ؟! كأننا الان نستجير بالنار ونحن نعاني لسعات الرمضاء في مثل اوضاعنا السياسية الساخنة فنحن نريد الان نوحا جديدا يعصمنا من فيض هائل سيعمّ أرضنا العربية والاسلامية كلها واذا كان هذا الفيض في أوّله قد غمر اجزاءً شاسعة من بلاد الشام واكتسح الموصل كلها وقسما من غرب العراق تمثّل في محافظات الانبار وصلاح الدين وديالى فليس من المستبعد ان يسير بحراكٍ سريع الى دول الخليج وغير الخليج ان لم نقف سدّاً منيعاً ومنيعاً جدا فهاهي دولة الخلافة قد اعلنت قبل بضعة ايام اذ كبرت داعش الان بغمضة عين وأصبحت بين عشية وضحاها ” الدولة الاسلامية ” متجاوزة تخوم بلاد الشام والعراق حيث دعا الخليفة الجديد (ظلّ الله على الارض ) ابو بكر البغدادي الى لمّ شتات هؤلاء من كل حدب وصوب للاستيطان في هذه الدولة الناشئة وربما ستمتلئ بقاعنا بمستعمرات ومستوطنات من الاعراب والاغراب ومن دبّ ومن هبّ الينا نازحا وتفتح احضانها للغربان ونرى الغبرة تملأ فيافي وطننا العربيّ بسمائهِ وأرضهِ فصارت ربوع الياسمين أرضا للغسلين وعراق مابين النهرين اضحى بين القهرين وها هو لبنان قد بدأ يقترب كثيرا من الهاوية اذ أعلنت جماعات اسلامية متطرفة لبنانية مؤخرا مبايعتها لابي بكرٍ البغدادي ،وماذا بعد … سنرى جموعا غريبة يقطنون ويحكمون بفتاوى تقيئها ألسنة الجهّال والموتورين في مهد الحضارات لتكون مهد القذارات طالما ان الهجرة المقبلة لأرض الميعاد الإسلامية ستكون واجبا كما صرّح قائد داعش وسمّى نفسه خليفة بلا بيعة حتى من صحـــبه وهو فقط من بايع نفسه ونصّبها على منبر الخلافة. احزموا أمركم وتيقّظوا ياسكّان الأجداث العربية ، يامن تنامون في قبوركم وانتم أحياء وتدفنون رؤوسكم في الرمال خوفا وهلَعا واستكانةً لمغول الألفية الثالثة ، لاوقت عندي للاستزادة في الحديث فقد نضيع كلنا في هنيهةِ سقوطٍ وانحدار هائل فالفيض آتٍ لاريب فيه في كل بقعة من بقاعنا العربية ان لم نحكم سدودنا بأيدٍ واثقة وننسى خلافاتنا فورا ، دعوني اختم مقالتي ببيتي ابي العلاء المعريّ فهما خير مايعبّران بمصداقية لامتناهية عن هؤلاء القوم الذين رفعوا شعار الدين زيفاً ولبسوا لبوس الايمان كذبا لأشباع نزواتهم الشرسة في القتل والتنكيل والمعبّئين بكراهية لامثيل لها : لـقد جـاء قـومٌ يــدّعـون فضيـلــةً وكلهــمُ يــبغــي لشـهـوتِهِ نـفـعـا وما انخفضوا كي يرفعوكم وإنما رأوا خفضكم طول الحياة لهم رفْعا jawadghalom@yahoo.com