ما رآه بورخيس ـ أنور عبد العزيز
تناديه فلا يستجيب.. تستصرخه أن يبتعد عن الكتاب فلا يسمع.. تدعوه أن يرحم عينيه من عمى أكيد فيغلق بصيرته وأذنيه عن النداء.. تقول له بغنج مثير حبيب روحي وعقلي وجسدي فينتشي بالصوت والهمس الحنون وهو في حضرة عشق الكتاب والتماعات مهزوزة لحروف وكلمات ودنيا من الفرح ومع طيف ضئيل خافت من بقايا نور في عينيه.. الزوجة الصبية الحلوة تناغي الشيخ الجليل أن يهجر كتابه فلا تلتقط أي صدى لكلماتها.. الساحر الوقور وبكل ثقل جسده ساهٍ عن أي وجود آخر غير ما يضجّ في روحه من متع هذا الكتاب وتلاوينه وأسراره وخفاياه السحرية الأسطورية… أن ظللت معانداً ستعمى.. يستفزه القول، يرفع رأسه للحظات.. يصلها جوابه غاضباً مستنكراً لست أنا الأعمى.. أنا البصير والعميان من كارهي الكتب والغرباء عنها وهم كثر ومن وسخ الأرض وممن تلفظ روائحهم الكريهة أوراق النقاء وحروف الذهب وكلمات النور.. تصمت الحلوة الصابرة وهي تعرف أو تتوقع أن غضباً كاسحاً منه سيجرفها أن تمادت في ألحاحها.. لم تعرفه غاضباً لأي سبب إلا عندما يتعلق الأمر بأوراق وأقلام وسهر وكتابة وكتاب، فهذا العاقل الكبير الحكيم يظل موزوناً متماسكاً إلا من جنون القراءة.. هو شيخ مجانين القراءة التي لا تميز بين ليل ونهار ولا شيء يعطله عنها حتى الجوع ولساعات متواصلة متوالدة حتى باتت مقتنعة رغم حالة يأسها بمقولته أن الأعمى ليس أعمى العينين بل الأعمى عن عشق القراءة حتى لو بلغت حد الجنون وتيه الإنسان عما حوله من تفاهات واقعيات الحياة.. وبعد ساعة من هدأة وصمت وقور يصلها صوته أشبه باعتذار وحنين حلوتي الطيبة لو عرفت ماذا أقرأ.. لو عرفت من معي.. لو عرفت أي جنون خيالي مثير أقرأ.. أسمعت بها؟ هي معلمة القرون في غرائبياتها السحرية وبلا عقلانية عن أية واقعية راكدة.. أسمعت بها؟ هي شهرزاد حكايا اللامعقول وسيدة صنعة الغرائبيات قبل أن يهلل العالم لغرائبيات سحر اللاتين وأبداعاتهم، فأن ابداع المذهلة الراوية والروائية العراقية ابنة حضارة الماء والخضرة والجبل والصحراء والسحر والشعر والموسيقى والغناء والترف، كانت قد أهدت للعالم حكايا الألف ليلة وليلة ومع أول موسوعة شهية لحضارة الجنس والحب…
وبسندبادين بحري وبري ينقلان لها ما عجز العقل البشري وبواقعيته الجامدة عن فهم طقوى وأسرار وخرافات ولا معقوليات في البر والبحر ومما لا تستطيع عين بشر ومداركه المحدودة فهم رموزه وألغازه ومعمياته ومبهراته.. الزوجة الصابرة كانت مصغية وبشوق مثير لأن تسمع أكثر وأكثر عن هذا الأسم الذي يترنم به الشيخ الحالم، لكنها وبحرص الزوجة الحانية المشفقة ظلت تردد دع عنك الكتاب، أقبل إليَّ أيها الجليل وأقترب مني فقد حل الليل ومر عميقاً وأنت غافل عن مهجعك الدافئ اللذيذ تدفع عنك البرد بدفء شهرزاد ومخيلتها الجامحة وجنون الحكايا.. ظل صامتاً.. جاء صوته هذه المرة ضاجاً عالياً من قبل ألف سنة وألف ليلة وليلة وشهرزاد تتلو ترانيمها مذهلة كل مبدعي الحكي ومن كل أرض.. تتحسس خيبتهم في مجاراتها وتقليدها وفي كل اللغات.. ما وجد كلامه صدى عندها هي التي أدمنت قراءة الصحف والمجلات ليس غير، ورغم أنه أنهى كلامه بعبارة ما أسعد العمر عندما يكون كله قراءات قراءات قراءات، فأنها وبضاد أخذت تكرر ما بدأت تحرشها به أطفئ المصباح وأغلق الكتاب ولن ينتهي العمر وغداً صبح.. هلم للنوم وعش ليلتك معي فقد تنسى شهرزاد وأحلام شهرزاد…
لم يرتح لسماعه مثل هذا الكلام لأول مرة منها.. ألمته نبرة السخرية في كلامها رد عليها وبما يشبه الدفاع عن قضية حياتية جوهرية وهامة بل ومصيرية اهنأي بليلتك ونومتك فما عرفتك ساهرة أو حالمة ودعي لي يقظتي وسهري وكتابي شهرزاد سليلة أولئك البداة في خيم الشعر ومع الرمل والليل والنجوم والضواري وصحراء التيه لذا فقد خلقت لحاجات روحها ومليكها دنيا من الماء والبحار وندى الخضرة ومن الغناء والموسيقى والشعر في حكاياها الألفية وما أخترعته وأختلقته من عوالم وحيوات في البر وأعماق البحار والجزر المسحورة والمخلوقات العجائبية في أشكالها من طير وحيوان ومن أشكال ووجوه وهيئات بشر لا يمكن لإنسان أن يتصورها حتى لو شوهتها أحلام مرضية مضطربة في ليال من سهر مضنٍ وغفوات نوم متقطعة.. عندما تذكّر قارئ الألف وألف ألفية من ابداعات عصره وزمنه أن الصبية الحلوة ما ولعت به وشاركته الحياة إلا بسبب شهرته كعاشق ومجنون في رواية الحكايات وحب القراءة وميله لحياة هادئة مسترخية بعيداً عن ضجيج حفلات الشهرة والتمجيد وبكل مجاملاتها الخاوية المكذوبة في غالبيتها.. تذكّر ذلك الآن بوضوح فخفف من لجهة التحدي وركن للاعتراف بتأثير وسطوة الراوية شهرزاد على قرون من تاريخ المبدعين.. جاء صوته أنيساً يحاول سحب محاورته لقناعاته المطلقة علمتنا كيف نكتب وكيف نتجاوز كل مألوف.. سحرتنا بجنون أخيلتها وهي قد تدخلت وتغلغلت حتى في طرائق تعليمنا فنون ومواهب القراءة وأن نشطب على كل معقول ومقرر بشكل نهائي لدرجة أن نصدق أن طائراً من حديد ولهب يضع بيضة مضيئة مشرقة وبحجم شمس.. ذلك هو الطائر السماوي.. نداء الصابرة لم يتوقف وأن استحال متمهلاً ومتباعداً، لكن نداء القراءة في العقل المتوهج والقلب الفوار ومع العينين المرمدتين المضببتين ظل هو الأقوى.. صار الآن يتمتم ويتحدث لروحه كل رواد السرد وبكل لغات ولهجات البشر نهلوا وخرجوا من عباءة شهرزاد .. جاء أنين المرأة واهناً موجعاً للنفس كلكامش بقوته وهيمنته سلبك مني، ثم جاءت هذه الشهرزاد تعدل ألفاً من الضرائر.. وظل من هو بمواجهة العمى مهدداً به في كل لحظة..
أيهدأ من كان يرى القدر متربصاً بنور عينيه؟ ولكن راهب الفكر واللغة والخيال الأسطوري كان هادئاً تتداور في عقله كلمة العمى.. عمى.. عمى.. عمى.. عمى بعد أعمى بعد أعمى.. كل هذا العماء أكان قراءات سحرية باطنية غير منظورة حتى للعيون المفتوحة المبحلقة في ألف ألف كتاب عبر الدهور.. سلالات من عميان أخترقوا العصور، لم يروا طريقهم ورأوا وأستشرفوا كل طرق الآخرين ومتاهاتهم ونبض عقولهم ومشاعرهم السرية الدفينة.. تجاوز الوقت منتصف الليل ووصلته منها آخر تنهيدة شكوى أذهبي لنومك ولملمي الألحاح والتأنيب والعتاب والمناكدة.. أغرقي في خدر النوم.. أشبعي نوماً ولن أشبع أبداً من ترف القراءة.. الأثنتان لذتان وحلمان.. ولكل لذته وأحلامه.. جنون الأرجنتيني الذي صار أعمى ظل مع مكتبات الفخاريات وألواحها، مع أحجار الأزمنة الذكية والجدران الصخرية المترفة بحفريات المسامير والكتابات الهيروغليفية بقصائد وملاحم الحياة في قمة أبهتها وبرسومات الكهوف بتلاوين ثابتة عاندت الرطوبة ومساكب المياه الراشحة وتيارات أعاصير الهواء والريح العاصفة الثلجية أو الساخنة مما لم تعرفه معامل الأصباغ والألوان بعد ألف من السنين، وما بذرته مطابع الحجر والصوان والمسامير من حكمة الحياة وأسرار الوجود ومن أشعار وأناشيد القلب والروح والجسد..
لذا القراءة كانت أبداً مصاحبة للذة السرد والحكي والبوح.. يُحكى أن.. ويحكي سليل الرواة من أجداده ضاماً إليهم جلجامش وشهرزاد.. ويكرر هذا الحكي في كل محفل وندوة ومحاضرة ولقاء… يقول وبكلمات مختارة من قواميس المجد والفخر والاعتراف يحلم أي قاص وروائي أن تخلد شخوصه وأبطاله أو يخلد هو لشهور وسنين معدودة، وتأتي شهرزاد ببطلها السندباد ليخترق العصور لا يوقف جريانه وسريانه وشعلته الفوارة الدوارة وحتى مع تغيرات واشتراطات النقاد والمنظرين للملامح الواجبة لخلود البطل الأسطوري…
ويردد شيخ الرواة وفي كل محفل وكتاب وجريدة ويكرر ذلك مع تغير المناسبات إذا كان عدد من الروس قد خرجوا من معطف كوكول بواقعيته الإنسانية الباذخة، فقد دخلنا كلنا وسيدخل آخرون في قابل السنين إلى عري شهرزاد وجرأتها على البوح الجميل، والمنفلت بلياليها ومسامراتها وأساطيرها وخرافاتها ورموزها السرية، ومن جنون ذائقتها ومخيلتها المشتعلة التي لا حدود موقفة وخائفة وكاتمة لأي من اشتعالاتها.. الأسطورة والرموز المضللة والخيالات المجنحة الطائرة… أية غرائبيات وأي لا معقول؟ هي هي من دلنا وحفزنا للنبش والتنقيب والبحث عن أساطيرنا اللاتينية التي ظلت لدهور مختفية غامضة ومجهولة وبكل ما فيها من سخريات القول والعقل والجنون ومع كل خفاياها المستورة في ظاهر الكلام عندما تنطق بها جدة عجوز ورجل معمّر حكيم عاش عمره الطويل مأسوراً بأوامرها ونواهيها وتخديراتها رغم كل ما شابها من تخريف لا عقلاني، لكنها ظلت أساطير وكل الأساطير في أي موطئ على أرض الدنيا تظل حمالة وعي باطني ومعرفة بالأسرار وبإبداعات الوجود الإنساني حتى ما كان منه منغلقاً مستعصياً على الفهم ومع العقول القاصرة.. بعد أن انتهكت عقله وروحه فجيعة العمى، صار الشيخ ميالاً أكثر للقاء العقول والأسماع وعيون الآخرين لا الكتب ربما تعويضاً لما خسره من متعة الكتب ومحاورتها، فصار يحاور الآخرين حتى لو كان الآخرون واحداً فيروح ينقل إليه شيئاً أو أشياء من مخزونه المعرفي الثريّ.. يقول الشيخ والحديث هو هو يظلّ مأسوراً عن عالم الحكي والرواية والقصة والأساطير أرض العراق وبتأثير سلالات وحضارات الماء في الجنوب ومع الأهوار تلك المسطحات المائية الهائلة كبحور راكدة وبقصبها ونبتها الشيطاني المتطاول ومشاحيفها وطيورها وأسماكها ومغاور وكهوف الماء المخيفة.. ومع سمرة وجوه النساء الأليفة الأنيسة وصرامة وجوه الرجال ومرح وجوه الأطفال وهم يتسلقون مشحوفاً أو جاموسة أو قصبة.. أحفاد شهرزاد من قصاصي هذه الأيام في الجنوب، هالهم سحر أساطيرهم فتجرأوا وجربوا حظوظهم ومع الثقة أنهم من سلالات حكائين وقصاصين وشعراء ومغني الرباب، ولم ينسوا أبداً حكاية ملحمة جلجامش وشهرتها.. وظلت شهرزاد تهزج لأحلامهم أن يتحركوا ويفعلوا ويقولوا ويكتبوا شيئاً مثلما فعلت هي وقامرت وضحت وتحدت وتلونت وتجددت وغامرت بأختراع ألف حكاية وحكاية ومع رعب ما عاشته في لياليها مضطربة الأمان لتحقيق هدف إنساني كبير بإيقاف سيل من دماء بنات جنسها لمجرد شكوك متذبذبة لملك طاغية مسلوب الإرادة أودى به جنون الشك لمجزرة ما توقفت إلا عندما نطقت البارعة بأول كلمات للحكي الأثير بفاعليته كان يا مكان إذ أثبتت للأجيال أن فعل الكلمة أن كان في حالات كثيرة سبباً للقتل والموت، فأن هذا الفعل هو من أستطاع أن يوقف مجزرة النساء.. مبدعو الجنوب هؤلاء ورثة عباقرة الماء والبردي وسماء النجوم وحكايات العقل والجنون جربوا أن يكتبوا ويرووا عن حفيظ ، فبلادهم وحتى شمالها عرفت وحكت واستوعبت أسراراً كثيرة عن فريش الأكرع و طنطل طويل و عوج بن عنق و شيخ الشط و زمزم القبور وعن الديو و السعالي وحيوات متقلبة تستحيل برمشة عين لحيوانات فقدت أشكالها وملامحها لتتلبس ملامح إنسانية أو إنسانيات ضجرت من مكبوتاتها فاستحالت لتشكيلات حيوانية.. حفيظ هذا شيء آخر أقترب قاص جنوبي وثان وأكثر من تكوينه وهيكليته ومادة تشكيله.. أهو حيوان ضار شرس عات ترتعب لمجرد سماع حروف أسمه النساء وترتجف خوفاً أعتى الشوارب المبرومة وهي تشق بمشاحيفها الماء الهادر وسماء القصب.. حفيظ مخلوق إنساني حيواني قد يكون عاقلاً ولكنه أبداً يعشق الاختفاء بحرص جنوني على أسرار وجوده وكرهاً للبشر، لذا ما أن يسمع حركة أو همسة إنسان حتى ينفلت كريح عاصفة مختفياً في مغارات الطين ومجمعات الأفاعي وبخفّة ومراوغة لا تستطيع أسرع الطلقات أن تتجاوزها.. حفيظ أسمه.. قد يكون حلماً لا وجود له ومن صناعة ومخترعات خوف الآخرين.. يضيع ويذوب كحبة سكر.. هذا الأسم حفيظ من الحفظ والحفاظ والأمان ، لكنه وهو على البعد يستطيع أغراق المشاحيف وبكل حمولتها ورجالها الذي لا يخشون عواصف الرمل والريح وأعتى عواصف الماء والغبار مهما أظلمت وتجبرت وهم أبناء الظلمة وأسمار الليل وعشاق أغاني القهر الإنساني.. هذا الأسم يستلّ الاطمئنان من النفوس وما أستكان أحد لحروف أسمه وظل رعباً أبدياً.. أكان من روح الموتى؟ أم من وجود عدمي يتشكل كما يريد وبثوان لا تدع لملاحقيه وفي أسرع مطارداته فرصة لرؤية واضحة تحدد تكوينه…
كيف ولد وتجمع كل هذا الرعب وكل قواميس لغات الدنيا تراه ملاكاً أنيساً وديعاً محباً للخير والنور؟ ولم أختلف وصفه ومرآه عند هؤلاء الناس وهم بفطرة حب الخير والأمان؟ وظل الأمل في رؤيته حلماً في ضوء أعينهم المرتعشة، وظل هو الانطفاء وكما نجم ملتهب يستحيل في ارتجافة عين لرماد… أي مبدع في أرض سومر لم يستطع ومع كل المرويات عن حفيظ أن يحدده ويقيده بملمح إنساني وأن ينقب وينبش عن رمزية وحشية هذا الخوف لمجرد التورط بذكر حروف أسمه كلعنة ومع الاقرار الجمعي أن وجوده بات حقيقة مروعة لا رد لها تشل العقول والبصائر والأبدان ليبلغ هلع الأرواح مداه.. هي كلها حضارات ماء وحكايات ماء والوجود المثير لكل ما في الماء من أسرار وهو ما أدام كل الوجود ومنذ أن التمعت أول قطرة ماء بعد ذلك العماء المجهول.. والحفيظ هذا راتع بالماء ولمجرد ذكر أسمه بسوء تنقلب المشاحيف بثوران الهور وتغرق لتغور في ظلمة الماء وكواسر مخلوقات الأعماق المخيفة.. تموت الأرواح والنفوس قبل الأجساد بفالاتها المتكسرة وتطرح النساء حمولات الرأس من الأشواك وتنفض بطونهن نسمات حياة وليدة، تنفق الجواميس، يتسمم الهواء بسخونة ثقيلة راكدة خانقة للأنفاس ، لذا ما عادت أية شفاه وألسنة تتجرأ لنطق ولو حرف من أسمه، وحتى المبدعين في زمننا تصيبهم رجفة رعب عندما يلملمون حروف أسمه فهم يشيرون الآن وكما هي عادة سكنة الماء منذ قرون بمرموزات وإشارات تجاوزاً للمجاهرة بأسمه وكأنه مرض سرطاني عندما يجيء أسمه يكتفون بالقول ذلك الذي لا يُسمّى يتشبّهون بالمرعوبين من ذكر مرض السرطان فلا يسمّونه ، فحفيظ هذا ما كان طارداً لشر عنهم، كان هو الشر والبلوى للجائعين الحفاة المرهقين بلهيب الحر وقرص البعوض لجلودهم المتهرئة ومن لدغات العقارب والأفاعي الغادرة ومع رعب ليالي الأهوار الغامضة وحرائق شمس النهار إذ تستميت فالاتهم من أجل فرصة لطعن واصطياد سمكة وبالانتظار المر وهم يحلمون أن تصطاد لهم شباكهم المثقوبة أيّ طائر.. ظل حفيظ لغزاً ليس كوجود مشكوك فيه فقط بل وحتى كتنظير على طاولة الكشف والتشريح في مصهر السرد العراقي.. ومثل هذا الرعب ومعه الحيرة قرأناه فقط في أدب الصحراء العربية عندما تشطرها جبال ووديان وكهوف مظلمة تناسل فيها الودان من عصور غائرة.. الصيادون ترتجف أصابعهم وهم يصوبون إليه بنادقهم، فهو لوجوده الراسخ في الزمان والمكان وتصلّبه وصمته ووقاره بدا لهم شيخاً وقوراً جسوراً حاملاً لسره الدفين لا يأبه ليس فقط لبنادقهم وتهديداتها بل حتى لوجودهم فبات عندهم كياناً من روح سحرية غامضة تختزن كل أسرار حضارة الرمل والصحراء وماضيهم، فالودان وكما أدركه خوفهم الغامض منه لم يكن غزالاً أو وعلاً أو يحموراً أو ظبياً أو أيلاً بقرون غصنية متشعبة، بل كان ربيب قرون من أزمان سحيقة لم يبق منها غير وجوده المهيمن ليحكي قصة الرمل والهجير وحرائق الشمس وصلابة العناد بمواجهة ما يحيط به من قوى خارقة ما استطاعت أن تلغي إرادته ووجوده الأزلي… بعد صراع مرّ وعجز وخيبة بنادقهم أدركوا أنه هو الحقيقة الوحيدة في هذا المكان مع رمل الصحراء وصخر الجبل بل وبدا لهم أنهم لم يتعاملوا مع كيان واضح بل مع روح خالدة سمت بسحر هذا المكان وأن أوهام بنادقهم بوجود أكيد لجسد حي ينالونه ما كان إلا وهماً طالت سنواته..
ما عجز عنه مبدعو الجنوب والأهوار في تقديم حكاية حفيظ وأسطورة حفيظ ليتملاها شيخ القراءة ومجنون السرد الأسطوري والكتب والمكتبات، استطاع راوية الرمل الليبي أن ينعش فهم الشيخ منتشياً بحكايات الودان فراوية الرمل هو فقط من أشبع الرغبات المشتعلة لشيخ السرد وهو يجوس مع الودان مغاور أسرار الرمل فما كان ذلك الحي المقنع بالأسرار كياناً هلامياً مهلهلاً.. كان تاريخاً للرمل في لهب النهارات وصقيع الليل مع زينة النجوم المتلألئة الحانية، ومع روح الأجداد في صلابتهم ونبلهم وسلامهم وشهامتهم وبراءتهم، ومع الأصوات الهادرة لقتالهم المستميت لحماية عالمهم الثري البهيج…
ما كنا نقاتل أحداً، فقط يحدث الاستنفار عندما يهاجموننا، عندئذ تستحيل أجسادنا وأرواحنا لصلابة الحديد دفاعاً عن تاريخ الرمل رغم قسوة وجفاف الحياة.. المبدع الليبي ربما أدرك أو أقترب من سر الودان وأهل الرمل الذين ما تجاوزوا حافات الجبل وما غزوا أحداً ولم يثيروا حرباً ضد أحد، فقط حافظوا على كرامة الرمل وعشق الصحراء ضد سفهاء الغزاة.. مبارك صار عندنا الودان فقد حفظ لنا بوجوده وجوداً كريماً عزيزاً لنا وصار عندنا هو الذكرى والذاكرة… يتواصل الضرير منتشياً بحلو السرد والحديث ما دام الكلام عن الأساطير نترك بغداد ورنين مرويات شهرزاد، نصعد شمالاً ونقترب من تغييرات ملامح الأرض وهي ترتفع ومع أول حد وشريط لسواتر الجبال في الشمال، في نهر الموصل وتفرعاته نعايش أساطير أخرى لآشور غير التي ألفناها في سومر الأهوار مع مقاربات لها، فنحن هنا أيضاً مع حضارة ماء مضافاً لها عوالم من صخر صارت منحوتات ومكتبات زهت بها البشرية وما يزال بهاؤها ينعش العقول والأرواح.. أي نحت وأي فكر وفلسفة عندما تجتمع في الثور مرموزات رأس إنسان دليلاً على العقل وضخامة وصلابة الثور بحجمه وثبات أقدامه رمزاً للقوة مع جناحي طائر ربما رمز بهما مبدعهما لخفة وسرعة الحركة..
أي تشكيل وجودي مثير لمعت فكرته وهو يحرك أزميله قبل أربعة آلاف من السنين.. يضيف الأعمى مهووس الأساطير وتمر القرون ليجيء معها فريش الأكرع ذلك المخلوق الوهمي الكريه معايشاً أعماق دجلة ملحقاً الضرر والخوف والأذى بصيادي الأسماك مرعباً الصبية السابحين مخيفاً للنساء وهن يغسلن الملابس على حافات النهر أو مستحمات بثيابهن في عيون الكبريت.. ثمة مخلوق آخر من بيئة الماء هو طنطل طويل ، أما الأكثر إثارة فهو عوج بن عنق ذلك الذي يبلغ بطوله ورأسه قمة السماء، وهو صياد أسماك.. ليس كل الأسماك، بل الكبيرة المتوحشة القاتلة لصغار السمك فقط، ما أن تغوص يده كمذراة في عمق ظلمة الماء حتى تلتفّ عليها خانقة لها ثم يرفعها بيده لتطاول السماء مشوية في سعير قلب الشمس لينثرها مزقاً شهية يطفئ بها جوع الأسماك الصغيرة الضعيفة.. يضيف الراوي العليم أخبرني أهالي الموصل أن كل أساطيرها من أهل الماء عدا زمزم القبور فهو بهيئة حيوانية ترابية يتجول في ليل القبور حافراً ممزقاً ملتهماً الجثث معاوناً دود الأرض ليطهر المقابر من الروائح النتنة لمتفسخات الجثث المركومة، ومن أساطير عوالم غير الماء تلك الأرواح الهائمة ليلاً في قناطر الجن وهي تعترض وتخيف فقط في لياليها البشر الأشرار ليس غير، أما الناس من ذوي النيّات الطيّبة السليمة فهي تنزوي عنهم وتبتعد عندما تتحسس دبيب أقدامهم المتعثرة في عتمة الليل.. وتأتي الحكايات وبأجوائها الميثولوجية المثيرة تترى وتتوالد.. يتابع الروائي والراوية الحكيم مدهوشاً لأسطورة شيخ الشط رواها له موصليون من أهل الأزمنة القديمة.. كانوا يروون عنه محبة وعشقاً وكأنهم يتحدثون عن صوفي أشراقي كبير من أهل الخرقة شيخ الشط هذا هو الخير كله وهو من سلالة ماء الطهر والنقاء.. يحتمي بعطفه ولطفته ورقته وعذوبته وسحر وصاياه ونصائحه الناس من الفقراء والمرضى والعاجزين والمعوّقين والمظلومين والحائرين بدنياهم التائهين اليائسين الباحثين عن طريق النور هداية.. الصابرين القانعين برغيف يومهم.. كان وسيظل لهم الملجأ والأمان شيخ الشط هذا عدّو الظالمين المتكبرين المتجبّرين على عباد الله الممسوخين بالشهوات المخزية الممتهنين لكل حرام بعد أن ماتت ضمائرهم فلم يعودوا يرون غير أنفسهم وقد ألغوا وجود الآخرين.. ومع كل صرخة وصيحة يا مدد يحضر شيخ الشط فيمسح عن المعذبين أوجاعهم وهمومهم وليصعق مؤذيهم بعقاب الله قبل أن يرف لهم جفن ويتركهم وكأنهم مرضى الجذام بقروحهم وجروحهم وقذارات آثامهم وقد تهرأت منهم الجلود ونزّت أجسادهم قيحاً وصديداً فعميت أعينهم فلا يبصرون وأنشلّت أرجلهم عاجزة عن الحركة وتخشبت أيديهم فما عادت تستطيع أذى لأي مخلوق… مدد مدد لك يا شيخ الرواة وأنت في حضرة شيخ الشط ومدينته ونهره العذب.
هرم الروائي وهو يوغل في عمر السنين والعمى ما منعه أن يلتقي بمحبيه ومن مرتلي أساطيره وحكاياته.. الحبيبة الخلاسية الأفريقية بعينيها الخضراوين وبسمتها الوديعة الأليفة تقود فتاها الشيخ بهامته الضخمة وعينين منطفئتين وبأذني فيل مشرعتين كصحون التقاط سمعية.. تسير به متمهلة محتضنة يده برشاقة وألفة حميمة وحب كبير لمدرجات قاعات الجامعات والمنتديات ومع دفء صحبة ماركيز في مقاهي الأدباء والفنانين بمدريد وباريس ولندن.. الصوت بات دليله وهو يلتقط كلمة من هذا وجملة من تلك.. مديحاً وإعجاباً يهلّ على أذنيه ومشاعره..
لم يكن مطمئناً لكل صوت، مع ذبذبات كل ذلك الصخب والضجيج عبر المحاورات خاصّة من الشباب وبعبارات الثناء كانت وبثوان سريعة متتابعة تترجم له ما صار يبصره وقد استحالت عنده كل الأصوات لبصيرة ناظرة حسّاسة تكشف له ومن خلال النبرات والكلمات الهاجسة صدق المشاعر من الأكاذيب الموحشة المضلّلة، ما عاد يشعر بعماه وقد تكفل الصوت بتلوين كل ما في الاحتفال بعيد ميلاده الأخير ليبلغ في روحه أقصى مداه.. في غالبية من لقاءاته وحوارياته مع محبيه من القرّاء وحتى من منتقديه كانت الموضوعة الرئيسة في الطرح والمعالجات والتنظير هي الأسطورة أو أساطير بورخيس.. وهي هي التي كانت مسرودة ومتناثرة في كل رواياته وتآليفه وحتى في قصائده.. كان الحضور غالباً ملمّاً بمضامين كتبه وتواريخها وظروف أصداراتها وطبعاتها المختلفة مع ترجماتها لعديد منها..
كانوا عندما يحاورونه وكأنهم يقرأونها جهراً ويقرأون حتى صاحبها.. من تلك الكتب الدنو من المعتصم، مكتبة بابل، كتاب الرمل، المعجزة السريّة، مقبرة أستيريون، كتابة الاله، الخلود، ثيمة الخائن والبطل، شكل الرمح، رجل في زاوية ، جدار وردي، الليلة الدائرية، الموت والبوصلة، تخييلات، مديح الظل، النزالات الثنائية، حارس الكتب .. وغيرها كثير من مقالات وقصص وأشعار نشرها في عديد من الصحف والمجلات وكانت في غالبيتها تترجم حال صدورها للغات عديدة.. مع كل هذا لم يكن الرجل عاشق شهرة باحثاً عن رنين وطنين أسمه مرتفعاً في كل محفل.. وعندما كانوا يلحون عليه بأسئلتهم بحثاً عن تفسير جوهري لأسباب الشهرة كان يصمت للحظات محرجاً متحسساً ثقل السؤال ومسؤولية الإجابة، وعندما كانوا يزيدون ويحاصرونه عن أي جنس أدبي يسبب وهجاً لكاتبه يقول معتذراً وحذراً من أن يغضب أي مبدع أرى أن المقالة وكذا الشعر لا يخلدان صاحبهما.. الرواية طقوس سحرياتها وخرافاتها وأساطيرها وألغازها ومساحة الحياة المتحركة فيها بأزمنتها وأمكنتها وشخوصها هي التي تخلّد الكاتب.. وعندما سُئل عن أهم الثيمات التي يعالجها في قصصه ورواياته وطروحاته أجاب بثقة مطلقة وبلا تردد أفضل ثيماتي هي الحقد البشري، العار، الأشمئزاز.. وكان صادقاً فأغلب نقاده انتبهوا واكتشفوا أن هاجسه الكبير من معالجات ثيماته هو الموقف الأخلاقي الذي ظل ملازماً له طيلة عمره ومع كل نتاجاته ومعالجاته.. وهو من رفع جنس الحكاية القصيرة لمصاف الأدب الوطني وكذا تأثره بالصورة والسينما وكل ألوان الفانتازيا ولأبعد حدود المخيلة البشرية حتى وأن تخالفت وتجافت مع منطق الأشياء وعقلانيتها..
ومرّت سنون.. تلتها سنون.. هرم الشيخ.. بات ثقيلاً موجعاً.. فقد جسده مرونته وتصلّب وحفرت التجاعيد على وجهه عمر السنين.. وهنت قواه وما بقيت منه غير تلك المخيلة النشيطة الجامحة تضيء له الماضي، وما عاد يستطيع التواصل مع حاضره وأوجاع جسده… حتى أذنيه صارتا تنوعران بصفير حاد مخدش هتك سلام أيامه.. وتغيرت الأدوار فالقارئ النهم الذي كأنه ما عدا يمتلك من كتبه غير تلمسّها وشمّ رائحة الورق المألوف لديه.. الخلاسية الجميلة وكانت تستنكر عزلة ماضي حبيبها مع كتبه، صارت هي القارئة له ولساعات وكما يشتهي.. كسبته الآن وهي تحس بوجوده قريباً منها ولكل الليالي… بدت أشبه ما تكون بشهرزاد غير أن تلك الساحرة كانت راوية شفاهية، وهي لم تكن غير ناقلة لما في الكتب، وغير ما توصل لأذنيه من أخبار الدنيا وآخر مغامرات مبدعي أمريكا اللاتينية في البحث عن مجدّدات وتحديث أبعد جرأة وإثارة من كل ما قرأه من غرائبيات روائية تجاوزت حتى لا معقولياته.. ومن أخبارها موت هذا وذاك من أقرانه الكبار.. كلما كان يلتقط منها خبراً عن رحيل أحد يلفه صمت عميق.. ورغم أحزانه للراحلين فقد كان يبدو سعيداً ومأخوذاً عندما تعاود القراءة بعد ذلك الصمت عن مكتشفات أسطوريات شعوب موغلة في عمق الأزمنة البعيدة أشد جنوناً وغرابةً وسحراً وجموحاً من كل ما قرأه من قبل…
AZP09