ماذا تعني خسارة شيوخ العشائر؟ – ناجي الغزي

ماذا تعني خسارة شيوخ العشائر؟ – ناجي الغزي

لم تكن خسارة هذا العدد الكبير من شيوخ العشائر في الانتخابات حادثة عابرة يمكن تجاهلها، ولا مجرد إخفاقات فردية متفرقة. ما جرى يشبه انكساراً ناعماً في بنية اجتماعية ظلّت متماسكة لعقود طويلة. فجأة، اكتشف الشيوخ أن العشيرة التي طالما بدت جسداً واحداً، بدأت تتحرك ككائن متعدد الرؤوس، وأن الصوت الذي كان يُفترض أنه «صوت الشيخ» لم يعد يخرج من فم واحد، بل من أفواه كثيرة ومتناقضة.

لقد تغيّرت العشيرة نفسها. تغيّر أبناؤها، وتغيّر وعيهم، وتغيّرت احتياجاتهم. لم تعد العشيرة كتلة صامتة تُقاد بالإشارة أو بـ «كلمة الشيخ». صار التشتت سلوكاً عاماً، والتمرّد الصامت لغة جديدة داخل البيوت والقرى والمضايف. جيل الشباب، الذي نشأ على ضوضاء المدن لا على خيمة الطاعة العشائرية، وجد في الانتخابات ساحة منافسة، لا ساحة «نخوة». رأى أن المقعد النيابي ليس امتداداً للعمود العشائري، بل امتداداً لمصالحه اليومية، لفرصته في العمل، لخدمته المباشرة.

في هذا المشهد، لم يعد الشيخ هو الممثل الطبيعي للعشيرة، ولا صوتها الوحيد. حلّت مكانه شخصيات أخرى: موظف يجيد التعامل مع الدوائر، ضابط له شبكة نفوذ، إعلامي مؤثر، رجل أعمال قادر على فتح الأبواب المغلقة. هؤلاء صاروا أكثر قرباً من الناس، وأكثر فهماً لمطالبهم، وأكثر قدرة على تحويل العلاقة الشخصية إلى صوت انتخابي.

هكذا وجد الشيخ نفسه في موقعٍ غير مألوف: له مكانة الاجتماعية، نعم… لكن ليس له ماكينة.

له هيبة مقدرة ومحترمة، لكن ليس له نفوذ انتخابي. فالهيبة الاجتماعية، مهما عظمت، لا تتحول تلقائياً إلى أصوات في صندوق الاقتراع. ولهذا جاءت الخسارة كبيرة،  ومتشابهة بين عشائر مختلفة ومناطق متعددة، أسبابها كثيرة، لكن جوهرها واحد:سلوك ومزاج الناخب تعب من الوجوه التي تمثل التاريخ أكثر مما تمثل الحاضر. الناخب يريد خدمة لا لقباً، منفعة لا وجاهة. يريد من يجيد لعبة السياسة الحديثة: إدارة، تمويل، تنظيم، إعلام، خرائط نفوذ. بينما دخل الشيوخ السباق بسلاح قديم لا يصلح لميادين اليوم.

حتى العشيرة نفسها لم تعد تسمع كلمة شيخها. الأبناء صاروا يصوتون لمن يلامس حاجتهم، لمن يحقق منفعتهم، لمن يشاركهم الحياة، لا لمن يشاركونه اللقب. ومن هنا، رأينا كيف صار الشيخ جزءاً من معركة أكبر منه، وكيف زُجّ ببعضهم في سباق لم يُعدّ له، سوى ديكور انتخابي أكثر منه مشروعاً سياسياً حقيقياً.

هل هناك رسائل أو دروس؟

نعم، هناك ثلاث رسائل واضحة وعميقة وثقيلة:

  • الأولى: أن العشيرة لم تعد حزباً سياسياً يسير بقرار واحد. انتهت مرحلة صوّتوا للشيخ.
  • الثانية: أن الشيوخ، مهما علت مكانتهم، لم يعودوا الرقم الأثقل في المعادلة الانتخابية. كبروا اجتماعياً لكنهم صغروا انتخابياً.
  • الثالثة: أن النظام السياسي نفسه تغيّر، وتقدّم على الجميع. القوى الحزبية، المال السياسي، النفوذ الحكومي، الجيوش الإلكترونية… كل هذه عوامل اخترقت العشيرة، وتفوّقت على سلطة المشيخة.

هذه ليست نهاية دور الشيوخ، لكنها بلا شك نهاية مرحلة من مراحل نفوذهم السياسي.

إنه زمن جديد، تتقدم فيه المصالح على الرموز، والأدوات على الألقاب، والصندوق على المضيف. الشيوخ خسروا لأن العراق دخل عصر «المصالح» وليس عصر «الألقاب». والانتخابات لم تعد معركة هيبة، بل معركة أدوات. والعشيرة نفسها تحولت من كتلة صمّاء إلى مجتمع متنوّع بصوت حر. هذه الهزيمة ليست إهانة للشيوخ… بل إعلان انتهاء مرحلة كاملة من السياسة العراقية.

□ عن مجموعة واتساب

مشاركة