سمير درويش
يوم 18 فبراير 2011- جمعة النصر- وصلت إلى ميدان التحرير نحو الحادية عشرة قبل الظهر، وجدته مكتظًا بالناس، الأغلبية يرفعون الأعلام ويهتفون مبتهجين، والأقلية (بينهم منقبات بشكل ظاهر) يفترشون الجرائد ويجلسون عليها في حديقة مجمع التحرير انتظارا للصلاة. استمعت إلى خطبة الشيخ القرضاوي، وصليت الجمعة واقفا دون ركوع أو سجود من شدة الزحام، كنت أقف إلى جوار قائم المنصة جهة شارع محمد محمود، وكان شباب كثيرون في العشرينات وأقل يلبسون يونيفورم أبيض بكابات حمر ينتشرون ممسكين بأيدي بعضهم بعضا ويمنعوننا من الاقتراب أكثر من المنصة (وقتها دخلت في نقاشات معهم: لماذا أنتم الذين تمنعوننا؟ لماذا لا نمنعكم نحن؟ (كنت طيبا وقتها، لا أعرف أن الميدان والثورة تمت مصادرتهما لصالح جماعة الإخوان المسلمين، الذين لم يشكرونا حتى الآن لأننا تسببنا في حملهم إلى السلطة بدمائنا، في وقت كانوا يتفاوضون مع عمر سليمان لذبحنا!!). بعد الصلاة رأيت شباب الإخوان وهم يمنعون وائل غنيم- أيضًا- من الصعود للمنصة التي انطلقت منها هتافات بصبغة دينية.. وقتها لم أكن أعرف الفروق بين أسماء الائتلافات الكثيرة التي كان لكل منها شعار، وكاب يلبسه مجموعة من الشباب الصغير الذين يحاولون تنظيم سير الناس، أو تقييده بالأحرى.
بعدها بأيام انطلقت حملة تشويه ضد وائل غنيم (عرفت بعد ذلك أنها إخوانية فلولية مشتركة، لأن الفلول والإخوان وجها عملة واحدة)، قالوا إنه ماسوني وعميل لأمن الدولة، ومُمَول من جهات أجنبية، وهو رأس حربة شركة جوجول التي أحدثت الثورة في مصر (نشروا تغريدات لرجل- قيل إنه يهودي- عن عزمه زيارة مصر أثناء الحوادث، وقالوا إنه رئيس وائل غنيم في جوجول، وإنه التقاه بالفعل بعد مجيئه، كما نشروا لهذا الرجل فيديوهات قديمة عن ضرورة حوادث ثورة في مصر وغيرها من البلدان المحكومة بنظم ديكتاتورية)، وقالوا إن بكاء وائل غنيم في العاشرة مساء كان تمثيلية محبوكة.. إلخ، وامتلأ الإنترنت بصور تشير إلى شعار الماسونية على كم التي شيرت الذي يرتديه، وفيديو له وهو يرقص ابتهاجًا بسقوط مبارك مع زملائه، مصحوبًا بتعليقات ساخرة، ومقارنات بين هذه الصورة وصور مجلس قيادة ثورة يوليو يظهر فيها عبد الناصر مهمومًا! أما لماذا وائل غنيم دون غيره، فلأنه تحول إلى رمز لشباب الثورة: شاب غني يعيش في الإمارات (قيل في فيللا بها حمام سباحة) ويعمل مديرًا لمنطقة الشرق الأوسط في جوجول بمرتب خرافي، ترك كل هذا وجاء إلى مصر ليشارك في الثورة من فرط وطنيته، هو بهذه المواصفات رمز لصورة (شباب يناير) التي روجوا لها: شباب نظيف راقٍ متعلم تعليمًا جيدًا في مدارس وجامعات أجنبية وينتمي للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة!! قبض عليه يوم 27 يناير (قيل بعد خروجه من الاجتماع مع اليهودي) وأفرج عنه تحت ضغط الميدان (كنت ألتقي شبانًا متحمسين يذكرون اسم وائل غنيم بفخر، ويطالبون بالإفراج عنه، وكانت البرامج الحوارية بالتليفزيون تردد اسمه كرمز للثوار)، حيث أخذه أمين عام الحزب الوطني وقتها د.حسام بدراوي من السجن إلى منصة التحرير في محاولة لتهدئة ثائرة الثائرين، وبعدها ذهب إلى برنامج العاشرة مساء مع منى الشاذلي، وهناك بكى الشهداء بحرقة وقال قولته الشهيرة: مش احنا السبب في قتلهم، السبب اللي ماسكين في الكراسي مش عاوزين يسيبوها، فأبكى مصر كلها. بعد أيام استضاف اتحاد الكتاب مجموعة من (شباب الثورة) وكرمهم (أصبحوا نجومًا بعد ذلك): أحمد دومة ونورهان حفظي (زوجته الآن) وعبد الرحمن فارس وطارق الخولي (مؤسس حزب 6 أبريل) وياسر الهواري ووليد عبد الرءوف (شاب قوي البنية، أحد أبطال موقعة الجمل، محامي وعضو حركة شباب من أجل العدالة والحرية، التي تكونت عام 2010 بمؤتمر تأسيسي عقد بنقابة الصحفيين، والتي استشهد منها مينا دانيال في موقعة ماسبيرو بعد ذلك، يحمل ذراعه المكسورة على صدره، وهو الوحيد بينهم الذي لم يذع صيته)، حكى كل منهم تجربته، وكالعادة لم أكن واعٍ لانتماءاتهم لأن الثورة عندي كانت ثورة شعب، لا ثورة فصيل أو جماعة، وبعد انتهاء الأمسية سألت وليد عبد الرءوف: من هو وائل غنيم؟ وما دوره في الثورة؟ قال إنه لا يعرفه شخصيًّا، كان يتواصل معه عبر صفحة كلنا خالد سعيد لكنه لم يره، وكان ميالاً للإشادة به وبدوره في الحشد ليوم 25 يناير. (بالمناسبة: حتى صفحة كلنا خالد سعيد ظهر من يقول إنه صاحبها الأصلي وليس وائل غنيم!).
الغريب أنه بعد هذه الحملة المسعورة ضده من أتباع جماعة الإخوان المسلمين، ساند وائل غنيم مرشحًا إخوانيًّا في الانتخابات الرئاسية هو عبد المنعم أبو الفتوح، واستُخدم اسمه في الدعاية الانتخابية بشكل مكثف، كونه ممثلاً للثوار(!) الذين يقفون خلف مرشح الثورة(!!)
حملة التشويه نفسها تحدث الآن ضد 30 يونيو وحملة تمرد وقادتها: محمود بدر وحسن شاهين ومحمد عبد العزيز، وبنفس الأسلوب، لأن جماعة الإخوان المسلمين لا تتعلم من أخطائها، كونها جماعة أصولية متكلسة تفتقد إلى العقل والمنطق والكوادر والثقة بالنفس والعلم. ثمة كتابات متفرقة، غير مسئولة وغير مسندة بوثائق دالة، تتحدث عن تمويل فلولي للحملة (يتحدثون عن صاحب وهمي للشقة التي كانوا يعملون منها- في وسط القاهرة- مع أن الفنانة شيريهان أعلنت أنها أهدتها لهم فترة العمل، وشيريهان كانت موجودة بالميدان طوال الـ18 يومًا ضد نظام مبارك)، كما يتحدثون عن علاقة تربط شبابها بالمخابرات، وعن اجتماعات سرية وأوامر واجبة التنفيذ من جهات عليا.. إلخ هذا الكلام العبيط، (إذ إن الذي يجتمع بالمخابرات لا يقول هذا، والمخابرات لا تقول، فلا تعرف من أين جاءوا بالمعلومات!). ولضيق الأفق وانعدام التفكير فإن هذه الحملة المسعورة تفترض أن تشوه الحملة وقادتها- إذا كان صحيحًا- يضرب يلغي الواقع نفسه الذي رأيناه بأعيننا، وهو أن 22 مليونًا من أبناء الشعب المصري وقعوا على استمارات تطالب بسحب الثقة من حاكم فاشل وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة (وقعوا بالاسم الكامل وأثبتوا الرقم القومي، رغم تضييق نظام الإخوان المسلمين عليهم، واعتداء أفراد الميليشيات على المتطوعين في الحملة)، كما تفترض أن ثلاثة وثلاثين مليونًا من المواطنين الذين خرجوا للشوارع والميادين، في القاهرة ومدن المحافظات والقوى والنجوع، من 28 يونيو إلى 30 يوليو 2013 (في أعلى التقديرات، 17 مليونًا في أقلها)، هذه الملايين الغفيرة لم تخرج أصلاً لأن الملاكات يتلقون أوامر عليا!! أو- في أحسن حالات التفكير المريض المجتزأ- خرجوا بأوامر من مخابرات حسني مبارك! أنا من الذين يعتقدون أن (تمرد) ليست سوى فكرة مرحلية نبتت في رأس ثلاثة شبان في ظرف سمح بنجاحها، وأتصور أنه بتحقق الهدف (خروج الناس للتظاهر وتغيير النظام) فإن تمرد أضحت في ذمة التاريخ، وأعتقد أن استمرارها حتى الآن غباء سياسي ينم عن ضيق أفق هذه المجموعة الشابة، وأن حديثهم باسم جموع 30 يونيو يعد استفزازًا لا ضرورة له.. مع ذلك فإن حملات التشويه الإخوانية تلك ليست سوى صبيانية وحمقًا ليسا غريبين عن جماعة لا تمتلك عقلاً ولا منطقًا، لأنها إن امتلكتهما كانت ستتخذ قرارًا صعبًا بحل نفسها والانصهار في فئات الشعب المصري، بعد فشلها الذريع في إدارة شؤونه لعامين ونصف: منذ سقوط مبارك، حتى سقوط الفاشل!