ليست بشيء يذكر

ليست بشيء يذكر

محمد الأحمد
زقزقةُ عصافير، وهديلُ حمام، وأطفالٌ تمرح حول القبور..
أوجد الصمت بيننا مساحة للتذكر.
المكانُ ذاته قبل عشرة سنوات. عندما استلمت من المستشفى الساق المبتورة التي افسدتها الغانغرينا ، انطلقت بها الى هنا. اخرجتها من كيسها النايلون ملفوفة بشاش أبيض. هُنا، ركنتُ دراجتي الى احدّ القبور وحفرتُ لها حفرة صغيرة. هُنا، طمرتها بتوتر وتشنّج وارتباك وخوف. لم اطل النظر إليها تلك ساق أبي المبتورة التي استحال لونها الى الازرق المائل الى السواد. تلك القطعة الادمية الزرقاء.. كانت تفوحُ منها رائحة كريهة لا تحتمل، ادخلتها حتى عمق الحفرة، وهلتُ فوقها التراب، ولم التفت إليها. من شدة خوفي. لم أعد الى المكان، كما لم اتخلص من كوابيسه، التي ما فارقتني. بحثتُ عن مدفن القدم، فلم اجد له اثراً. من بعد ان شخصت فوقه قبوراً. حملت زخماً كبيراً من اموات المدينة الجدد، قبور متراصة. حملت الوجه المطمور بالتأريخ القديم، والوجوه الغائبة. اقفاصٌ ميتة حولت قبورا محاطة بالورود الصناعية شوّهتها الشمس، وقحلّت أوراقها. مسخت الوانها عواصف الغبار، والنسيان. سيأتي بعدنا تاريخاً جديدا ووجهة نظر أخرى . الكلمة تضيق امام ذلك الامر. هُنا اتذكر ما كان يقوله لطلابه
التاريخُ هو صانع الإنسان كما ان التاريخ الحقيقي قد صنعه فعل الإنسان وليس خياله . فالذي تناقلته الناس وفرضه البعض على البعض منا هو مجرد تاريخ لغوّ ابتكره الحكائون في الأسواق العامة لبضاعة الحاكم. فغالباً ما كان التاريخ المُسرد منقوصاً، وغير مقنعاً، فالذي حلّ محله وهم وخرافه. فخضوع المجتعمات الانسانية لرغبات الملوك الاوائل الذين زعموا بأنهم كانوا ينحدرون من سلالة الآلهة.. استخدموا لذلك رواة أفّاقون يخبرون عنهم بأنهم إلهة حقيقية. همُ في حقيقة الامر ليسوا سوى ملوكاً تحولوا الى آلهة بقوة السيف في مجتمعاتهم.. هنا ثبّتوا اركان دولتهم بكلّ ما أُتوا من قوة، وخديعة. بكل تلك الصياغات الخياليّة اللاواقعية. فرضت نفسها على انها هي الاصل للتاريخ المروي بصيغة الحق، بات اليوم جداراً عالياً ليس من السهل عبوره. هنا، الانسان يشيّدُ التاريخ دون ان يعرفْ بذلك1 1′ . كتبهُ الرئيسة لا تتعدى الأخبار، السيّر، الطبقات، الاعلام، المناقبُ ، ولا تتجاوز الكاملُ، الوافيّ، التكملةُ، الصلةُ، المفصلُ، المختصرُ، المُنتقى، المُنتظمُ ، إذ ضمّ المغازيّ، العيون، التنبيه، التجارب، العبِّر، المقتبس ، خلال البداية والنهاية، المبتدأ والخبر . مثالبٌ، ومكائدٌ لن ينقصها سوى الاستقّصاء . كانت غربته تتسع، من اجل اعادة تصنيف ذلك الكمّ الهائل من الأوراق الصفر، وحسب اصولها. وإلا اختلط التاريخ بقصص الأدب. خاصة من بعد ان حضرت الراويات المُبكرة، والأخبار المُتأخرة في نهجٍّ واحدٍ لا يقرّهُ منطق التسلسل، وبحثه العلمي. تصاعدت رغبتي الى قراءة الحروف التالفة. يدفعني الفضول في معرفة الحروف الدفينة، تلك التي حوت تاريخاً مرصوفاً، تاريخاً خبيئاً في كراس دفن في مقبرة كانت أرضها في الاصل لتاجر من يهود المدينة التي تجاورها، واليوم صارت جزءاً من قلْبها. أيعقل ان لا يكون له اهمية هذا الذي وجدناه في ذلك الصندوق الانيق؟. يقول ابي التاريخ بمعناه الواسع هو قصة الانسان في الكون وتفاعله مع الطبيعة على مرّ الزمان، وهو في هذا يشبه نهرا يتدفق من المنبع الى المصبّ.. من بداية الوجود الانساني حتى اللحظة الراهنة حاملاً تفاصيل رحلة الانسان التي لم تتمّ عبر الزمان . هنا، على حافة السطر قرأت سرَدَ يَسرُد، سَرْدًا، فهو سارِد، والمفعول مَسْرود سرَد الدِّرعَ نسجها فشكّ طرفَيْ كلّ حلقتين وسمَّرهما أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ . هنا سرَد الجلدَ خرزه، ثقبه. سرَد الشَّيءَ تابعه ووالاه. هنا سرَد الحديثَ رواه وعرضه، قصّ دقائقه وحقائقه سرَد القصّةَ ونحوَها، سرَد أخبارًا، وقائعَ، تاريخًا هنا سرد الكتابَ قرأهُ بسرعة. سَرَدَ وَقَائِعَ الحَادِثَةِ ذَكَرَهَا كَمَا حَدَثَتْ حَسَبَ تَسَلْسُلِهَا. يومها كنت قد دخلت لوحدي الى ثلاجة الجثث، وكان قد بات ليلة كاملة مع مجموعة من الجثث ناقصة الايدي والأرجل والرؤوس، والمبقورة البطون، قد خلت من الاحشاء او امتزجت بأشياء لا يقدر العقل على فرزنتها، أو مسخها حريق أو هرأتها الانهيارات العاصفة. الجثث بعضها ملتحمة، ممتزجة، مفرومة مع جثث اخرى استقرت في حاوية معدنية، ركنت جنب بعضها البعض، في ثلاث صفوف من الارفف كل رفّ حوى ثلاثة طبقات كل طبقة حوت على جثة، يستدل اليها من رقم الحاوية. لم يجرؤ احد معي على الدخول، لحمله. لأول مرة احسّست بان الثقل تضاعف، وبالكاد وصلت به الى خارج الثلاجة، انزلته برفق الى دكّة غسل الموتى التي لا تبعد سوى عشرة أمتار. كنتُ فيها اول مرة أطيل النظر الى ذلك الوجه الذي كنت اخافه. فاحسست بأنه كان طيباً الى درجة كبيرة. لم اجرؤ على النظر اليه هكذا حتى وان كان نائماً، اول مرة تواتني الشجاعة، وانظر طويلا في قسمات وجهه، ولم انتبه طوال حياتي معه على خده الايمن تستقر فيه شامة واضحة، وبأن بشرته بيضاء، ووجهه حليق. بارد.. بقيتُ ارتجف هلعاً.. حتى بدأت مراسيمُ الغسل، بتعريته، وحشوِّ بعضه بالقطن الابيض النظيف، حتى إلباسه الكفن. كان في الخامسة والخمسين من عمره عندما رزخ تحت حاجته الى كرسي متحرك، ينتقل به، او ننقله عليه من البيت الى المدرسة، وبقية مشاويره. رفض بتشدد ان يبقى حجيز البيت، وان لا ينقطع عن بقية حياته. هُنا. كنا نحفر قبراً لأبي، ذات فجر تشريني تنشر فيه الشمس اول ضياءها. حملنا باكرين معولاً ومجرفتين، ثم نزلنا طريق المقبرة الصاعد بين البساتين، وما ان وصلنا الى هنا اخترنا مكاناً فارغاً، ثم بدأنا الحفر. يومها وجدنا الصندوق الخشبى المنقوش بالزخارف النحاسية الدقيقة، مدفونا لوحده في نفس المكان الذي قررنا ان ندفن فيها جثة والدي . تمليتُ ما فيه جيداً. ولم تكن العلبة عصيّة على الفتح، وجدت فيها ختم على شكل خاتم خشبي حالت الرطوبة لونه الى أسود، تذكرتُ باني عبثت بآخر شبيهه كان لا يفارق جيب ابي . اما الكيس فقد نامت فيه كراسة صغيرة، مكتوبة بالحبر الأحمر، وقد زحف الحبر بفعل الرطوبة، الى حافات الورق، وتشوهتْ معظم الكلمات، فحالت دون قراءة معظمها. ولم تمكَّننى معظم المواضع من قراءة النص بيّسرٍ. لكني بقيت على يقين بأني سأقرها ذات يوم، حتماً، وقطعاً. رغبة الاكتشاف تستصرخني. بقيتُ أدمدم مع نفسي، كمن تسيطر عليه فكرة ما سـردَ درع مَسْرُودَةٌ، ومُسَرَّدةٌ بالتشديد. فقيل سردها؛ نسجها، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض، وقيل السَّرْدُ الثقب، والمَسْرُودَةُ المثقوبة، وفلان يَسْرُد الحديث إذا كان جيد السياق له وسَرْدُ الدرع والحديث … ان اتمكن من قراءته، وإعادة نسخه، لحظة بلحظة، فلم استطع ان احدث به أحداً. لعلهُ مخطوطٌ يسرد تاريخ الالم المختزل بأسطر. المتغير من زمن لآخر، ومن مكان لآخر. المتداخل خيالا، وخوفاً. لم أعرف كيف اقرأه. لاكتشف القعر السحيق، حيث يتصارع النسيان، والغمّ. صورةٌ تودّ الخروج من العمق الى اعلى كما في قصة سلحفاة التي اخطأت فنزلت الى العمق السحيق ومن بعد ان نفد الأوكسجين وجدت نفسها قد علقت بين صخرتين .. اضطراب، فوضى. او انها اشبه ببركان بقي يغلي طوال سنوات. هنا هكذا تخيلت . باني سوف اجد معلومة ما عن هذا الخنجر المتين، المرفق، المرصع بالنحاس، وما تعنيه تلك التنانين المتلاحمة، وكأنهما الواحدة قد امسكت بالأخرى لتصيب منها مقتلاً. لونُ المقبض الحائل الى لونِّ أخضر يمتدّ الى نصله المسنون، وكأنه قد تبيّس عليه دم قتيل، لن تفارقه الى الابد. النصل، له عوّجة خبيثة، كأنها زعنفة قرش، استعدّ لضربته القاضية.. بدى الخنجر ضارياً، وبقسوة تلك الاحداث التي شهدتها الايام الغابرة. معلومة الكاتب، ومكتوبه. كاني اطارد صورة ما، تجلجل في ذهني، وتمنعني عن التركيز والفهم. فيما كنتُ أقرأ؛ كنتُ احلمُ. صرتُ على يقينِّ باني لو تركته لما صرت فوق سرابه، فالتخيّل يخبرني العجب. وما عجبتُ بوصف الرجل الذي عرفته منذ اول سطر. اوقفتني متانتهُ، وبلاغتهُ، وعنوان رسوخه .. في ذلك اليوم لم نتوقع بأننا سنجد تلك العلبة الخشبية بذات الموضع الذي بدانا الحفر فيه. التفت عمي الي وقال
ماذا وجدت يا ولد؟
لم اقل شيئاً سوى اني وضعته أمامه.. محتاراً ماذا اجيب. لكنه لم يعرّ لذلك الشيء اهتماماً، وقال علينا ان نتعجّل بأمرنا وننّه الحفر، واستلام الجثة، ومن ثم الصلاة عليها في الجامع. علبةٌ حرفها مرسوم بدقة متناهية.. تؤكد بان كل تاريخ الدنيا تفرضه جغرافية المكان، فالمكان هو حاوية التأريخ، التأريخ الذي ابتدأ من نقطة فالتفّت حوله الانهر الكبيرة. هنا نشأت البلدان، وقامت العمران. التاريخ موقع النهر، او النهر موقع التاريخ . ويلتف من حوله الناس. عندنا المدن دائما تجرفها قراها ، مدنهمُ المتحضرة تجرف قراها . بقي والدي يتحدث عن التأريخ ومساراته العقلانية. في المستشفى كان يسرد في هذيانه سير الملوك حمّداً لك يا ربُّ أنك جعلتني اشهد صيدهمُ لصياد الصيادين المغتّر بأهم الاسماء وأغلظها طغيانّاً، من بعد ان خلفَ دماراً لم يخلفهُ مدمّرٍ من دمار . وجدتُ الجملة ذاتها مدونة في متن المخطوط، التي لم تتلفه الرطوبة كلياً، وقرأت ما كنت اسمعه منه مراراً في ليلة باردة صعب فيها النوم كان كلبه يشترك سكنه مع بقرته في حظيرتها القريبة من سرير نومه فتصاعد عواء الكلب وزاد من كدر تلك الليلة البائسة ربي فديتك ان تأخذ روح الكلب وتخلصه من عذابه وتخلصنا من عواءه فسكت الكلب بعدها، ثم غفي حتى الصباح، ولما تذكر ما حدث ارسل خادمه الاعمى الى الحظيرة ليستطلع له ما جرى للكلب، فعاد الاعمى بخبر البقرة التي قد ماتت. تنهد عميقاً ورفع نظره الى اعلى قائلاً ربّي لك الحمّدُ والشكرُ فهذا الاعمى قد ميّزَ برحمتك البقرة من الكلب ، حكاية تنتهي لتبدأ حكاية بعدها، حكاية متواصلة ارتكز عليها التأريخ من الحكايات المسموعة التي باتت مكتوبة؟ اوقفتني عن الفهم، والتصديق. فثمة بوح عاقل يهدر من بين السطور، بهذه المساحة الضيقة، كشفت عن سرد كشف رؤية دفينة قد فدينا ملوكنا الأوائل اذ باتوا لا يستغنون عنا لأننا دروعهم البشرية التي لا تخيّب أمرهم . الكتابة اما ان تكون مقنعة بتسلسلها، متينة بمعناها الغني، وإما زائفة غايتها الاطناب، التي لا طائل من ورائها سوى المباهاة، بعدد صفحاتها. فكلما لامستْ جرحاً من جراح انسانيتنا التي ننتمي إليها، تأتي بالتشويقِ. كتبُ التاريخ تعني تحدّي عاصف، وارتباك فاضح، تشابكت فيه المصالح بالمطالح. أومن بنفسك اولاً قبل ان يؤمن بك أحد ؛ ليس حلماً ان تكون وحيداً» فالرواةُ كسرٌ» حروفهمُ رملٌ» عيونٌ لتاريخ أسلحة» ورغائب.. هنا كيفما سُحبنا تُخيًم» و تغيمُ» ينزل لغيرنا المطر» المشقةُ ليستْ غُربة» لكن ان تُنفى غريباً بين اهلك؛ لمشقّةٍ» ما بعدُها مشقّة . تحسستُ الشعر المسطور، المؤشر بقلمه الأحمر. شجرةُ التاريخ جذروها تمتدّ عميقاً في الأرضِ وجدته مدعوماً بهوامش، ومراجع تُحيلُها التضميناتُ، الملاحظاتُ، والتعليقاتُ الى امَّهات الكتب التي كانت اغلبها تستقرّ في سردابِ بيتنا القديم. هُنا، بقيت الدموع تسحُّ من ليلة المستشفى. هُنا، قرر الطبيب تسليمنا الجثة صباحاً. فذهبنا لاستلامها بعد تهيئة القبر. هُنا وجدنا الشرطة تطلب فتح تحقيق معنا كأصحاب شأن لجثة ناقصة الساق بتهمة لا منطق لها، انتحارياً قد فجّر نفسه على دورية شرطة ، و عليكم الادلاء بمعلومات حقيقية عن ميتكم، وسرد تفاصيل حياته، بدقة، وإلا اودعناكم السجن، ولن نسلمكم الجثة . أجبنا مات بالسكري وقد عَصَفتهُ الغانغرينا ومعنا شهادة من الطبيب المختص والمستشفى تؤيد صحة ادعائنا.
هُنا افسدوا القصة.. اليس كذلك؟
نعم كتبة رواة الدهر همُ كتبةٌ لتذكرٍّ عابر؟..
بقيتُ أقرأ مساحة التذكر، هنا بين القبور.
بغداد
/5/2012 Issue 4196 – Date 10 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4196 التاريخ 10»5»2012
AZP09

مشاركة