لماذا لم يندمج عراقيو الخارج مع مجتمعات الهجرة ؟ (2-2)

لماذا لم يندمج عراقيو الخارج مع مجتمعات الهجرة ؟     (2-2)

 حمل العراقيون الذين هاجروا بعد عام 1980 هذه الصفات والخصائص معهم في شنط سفرهم ،  وقد ظلت ملازمة لهم حتى بعد مضي سنين طويلة على هجرتهم . وبهذه الصفات والخواص التي يحملونها اصبح العراقيين يعيشون في ظل مجموعة ازمات تركت اثارها عليهم وجعلتهم في وضع صعب وحرج للغاية . ويمكن حصر ازمات العراقيين المهاجرين من الفئة التي هي مدار البحث بما يأتي :

1-         ازمات نفسية : ان اندلاع الحروب في العراق بعد عام 1980 أدى الى تدهور احوال البلاد ووقوع الخراب في كل شيء وخلق ظروف نفسية صعبة لدى جميع العراقيين . ومما زاد في سوء الاحوال أن هذه الحروب سببت حصول هجرات الى الخارج حدث معظمها نتيجة لاسباب قسرية اما فرارا من تلك الحروب او كنتيجة لها . ان هذ الاحوال جعلت من الذين اجبرتهم الظروف الى مغادرة البلد في اوضاع نفسية سيئة للغاية . وحتى بعد استقرارهم في دول المهجر فان معاناة هؤلاء بسبب تلك الظروف جعلت احوالهم النفسية تتردى اكثر وتتفاقم بسبب المحن التي قاسوا منها في الماضي وويلات الحروب التي فروا منها والتي كانت واقع قائم وحاضر وماثل أمامهم باستمرار ،  اضافة الى ظروف الاغتراب الذي اصبحوا فيه . ان ألاف العراقيين الموجودين في دول اوربا واميركا يعانون من أمراض نفسية ويعيشون بظل الكوابيس المتكررة ،  ولا يتلقى العلاج منهم سوى نسبة صغيرة نظرا لمحدودية موارد برامج الرعاية الصحية المتاحة لهم . ان هذه الامراض النفسية تركت اثارها على تصرفات الجاليات العراقية المهاجرة مما جعلها جالية منطوية على نفسها تجتر امراضها ومحنها دون ان تستطيع ان تنتزع نفسها من ألام الماضي وتعيش في حياتها الجديدة بصورة طبيعية .

2-         الازمة الاقتصادية : كانت نسبة كثيرة من المهاجرين العراقيين الذين اضطرتهم الظروف الى الهجرة الى الخارج بعد عام 1980 في احوال مالية جيدة واوضاع اقتصادية ممتازة . وفي ليلة وضحاها وجد هؤلاء انفسهم مضطرين لمغادرة البلد فجأة ودون تخطيط واعداد مسبق . لقد ترك معظم هؤلاء خلفهم املاكهم وثرواتهم وغادروا فقط بحقيبة ايديهم ،  وفي بعض الاحيان بمجرد الملابس التي على جلودهم . لقد سافر هؤلاء وهم لا يعرفون ماذا سيحل بممتلكاتهم وكيف سيكون مصيرها وبأي ايدي ستقع . وفي دول المهجر وجد هؤلاء انفسهم مضطرين لأن يعيشوا على مدخولات صغيرة مما توفره لهم دول اللجوء بينما كانوا متعودين في الماضي على العيش بحالة ميسورة . وبعد 2003 واجهت الموجات المهاجرة اوضاع الكساد الاقتصادي الذي حل بدول العالم وقلة فرص العمل اللائق مما جعلهم في اوضاع مالية سيئة للغاية وزاد من حدة المحن النفسية التي يعيشون بها . لهذا فان من غير المنتظر ان يصبح الاشخاص الذين هم بمثل هذه الاحوال مقبلين على الحياة في دول المهجر وراغبين بالبقاء والاندماج في المجتمعات التي أوتهم ،  بل بالعكس فان من الطبيعي جدا ان نجدهم يتطلعون الى العودة الى بلدهم الاصلي بأقرب فرصة للأستفادة من اموالهم ،  او على الاقل تصفيتها بالطريقة التي تلائمهم .

3-         الازمة الاجتماعية : ان العرب بصورة عامة ،  والعراقيين بصورة خاصة يعيشون في ظل ظروف اجتماعية وعادات تنبع من اصولهم العرقية وبيئتهم التي عاشوا بها وهم معتادين عليها ومتأقلمين معها . وحين انتقل بعض هؤلاء الى دول الغرب وجدوا انفسهم فجأة يعيشون ضمن مجتمعات تختلف كليا بعاداتها وتقاليدها عنهم . ان المشكلة تكمن في ان الكثير من عادات العراقيين وتقاليدهم تتقاطع مع عادات وتقاليد المجتمعات الغربية التي انتقلوا اليها ،  خصوصا فيما يتعلق بالاختلاط بين الجنسين . لقد سببت هذه الاوضاع مشاكل كثيرة للعراقيين ووضعتهم في عض الاحيان امام طائلة المحاسبة القانونية حين لم يسكتوا على تصرفات بناتهم واخواتهم . كما ان هذه الاحوال خلقت المشاكل ايضا بين الجيل الاول والجيل الثاني لان الاولاد والبنات الذين نشأوا في مجتمع المهجر لم يستسيغوا فرض القيود والمحددات التي فرضها عليهم ابائهم . لقد وضعت هذه المحن الكثير من العراقيين باوضاع صعبة ونغصت عليهم حياتهم وجعلتهم يفكرون جديا بالعودة الى العراق ،  او الى اي مجتمع عربي لانهم لم يستطيعوا ان يتأقلموا مع الظروف الاجتماعية السائدة في بلدان الغرب والتي لا قدرة لهم على تغييرها .

4-         أزمة الوطنية : لقد بينا سابقا بان الفئات المهاجرة من العراقيين بعد عام 1980 قد هاجرت معظمها لأسباب قاهرة وقسرية . لقد كان هؤلاء المهاجرين مرتبطين ببلدهم الام بقوة لاسباب ترجع اغلبها الى نواحي سياسية . وحين التجأ هؤلاء الى دول الغرب لم تنفصم علاقاتهم بالوطن بل ظل بعضهم يزاول نشاطه السياسي القديم ويتطلع الى تغيير الاوضاع هناك والعودة مرة اخرى . ان النشاط السياسي الذي يخص بلد الانحدار يجعل الناشط بشكل طبيعي لا يشعر بالانتماء الى بلد الاقامة ولا يرتبط به بأي رابطة . من جهة اخرى فان انخراط الابناء بالمدارس في دول المهجر ودراستهم لمناهجها الدراسية ومن بينها دروس التربية الوطنية التي تحاول زرع شعور حب البلد الذي يعيشون فيه ،  وكذلك ترديدهم مع بقية الطلبة لشعارات حب الوطن واداء مراسيم تحية العلم كل صباح كان يغضب بعض الاباء ويجعلهم ينهون ابنائهم عن مثل هذه الممارسات . وبالمقابل كان هؤلاء الاباء يزرعون في عقول اولادهم بانهم غرباء لا ينتمون لهذا الوطن وان وجودهم فيه هو وجود مؤقت سينتهي في يوم من الايام بالعودة الى الوطن الام . ان من الطبيعي ان تولد هذه الممارسات حالة شديدة من الصراع داخل نفوس الجيل الثاني ويكبرون وهم يعيشون بظل ازدواجية قاسية بين حب وطن لم يروه بحياتهم وبين نكران فضل وطن فتحوا عيونهم فيه وعاشوا بين ابنائه وأكلوا من خيراته . ان الاباء لا يدركون بانهم بهذه التصرفات فانهم يدمرون حياة ابنائهم تماما ويخلقون جيلا ضائعا سيضيع المشيتين ،  فهو لن يشعر ابدا بالولاء للبلد الاصلي الذي لم يروه في حياتهم ،  وفي نفس الوقت ينشأون غير موالين للبلد الذي يعيشون فيه فعلا بسبب ما زرعه فيهم اباؤهم .

5-         الازمة الدينية : علينا ان لا ننكر بان ديننا الاسلامي وبالرغم من افكاره ومبادئه المتسامحة وتصديقه واعترافه بجميع الاديان السماوية ،  الا انه في بعض مراحل الدعوة الاسلامية نزلت بعض الايات القرأنية التي تعادي هؤلاء وتدعوا الى محاربتهم . ان المسلم المعتدل والمتعقل يستطيع ان يدرك بسهولة ان هذه الايات القرأنية كانت محكومة في وقتها بظروف الدعوة الاسلامية وكان الغرض منها اظهار الدين وتثبيت قواعده واركانه . وبعد ان ثبتت الدعوة وانتشر دين الله في الارض اصبح العقل يدعوا الى العودة الى الافكار والمبادي السمحة التي ظهرت بالبداية . وحين هاجر العراقيون الى الخارج وجدوا انفسهم مضيفين من قبل مجتمعات لا تدين بدينهم بل تدين بدين أخر هو الديانة المسيحية . وفي ظل مثل هذه الظروف كان حري على العراقيين ان يمتثلوا لأحكام التسامح الموجودة في الدين الاسلامي واعترافه بالاديان السماوية الاخرى لكي يعيشوا بامان في مجتمعاتهم الجديدة الى جانب الدين المسيحي ،  خصوصا وان كل ما جاء في القرأن الكريم يعتبر صحيحاً ويمكن الامتثال له دون حرج . غير ان البعض من العراقيين وللأسف اخذ من الدين ما لا ينسجم مع الظروف الجديدة وتحولوا الى متشددين ومتعصبين يبثون افكار عدائية بين معيتهم وفي اوساطهم تجاه المحيط الذي يتواجدون فيه . ان هذه الحالة خلقت أجواء سلبية خطيرة وحولت الجالية المهاجرة الى عنصر خطر على المجتمع الذي تعيش فيه وزادت من تقوقعها وانعزالها . ان اقل ما يمكن قوله عن مثل هذه التصرفات هي انها مواقف لا تنسجم مع اخلاقياتنا الحميدة ولا تليق بما يفترض ان يقوم به هؤلاء من رد للجميل تجاه المجتمع الذي أواهم واحتضنهم وساعدهم في اصعب اوقات حياتهم .

6-         التقولب وعدم القدرة على التغير : مما لا شك فيه ان مجتمعات دول الغرب هي اكثر تطورا من مجتمعاتنا الشرقية سواء بالعادات وبطرق العيش وفي استخدام التقنيات الحديثة بكل وسائل الحياة . وحين وصل العراقي الى تلك المجتمعات شعر بالفارق الكبير بين الطريقة التي دأب على العيش بها وبين ما وجده في هذه المجتمعات . لقد كان من المنتظر ان يتغير هذا العراقي ويتطور ليواكب المجتمع الذي اصبح فيه . غير ان هذا العراقي ظل محددا بعاداته ومعارفه القديمة وغير راغب بتعلم الجديد . كانت نتيجة هذا ان العراقي اصبح يعيش في واد والمجتمع الذي حوله في واد اخر مما ادى الى حصول انفصام بين الضيف المهاجر والمجتمع الذي استضافه .

7-         التطلع المستمر للعودة الى الوطن :  كانت الموجات الاولى من المهاجرين العراقيين بعد عام 1980 جلها من الشيعة الذين هجرتهم الحكومة بدعوى التبعية الايرانية ،  او من الذين كانوا يعادون النظام الحاكم وهاجروا من نفسهم الى الخارج هربا من بطش النظام . اما بعد 2003 فان معظم المهاجرين كانوا من السنة الذين فروا من عمليات التصفية التي طالتهم اثر اندلاع المواجهة بين الطائفتين في الاعوام 2006 – 2008 وكذلك عمليات التهجير القسري بسبب عمليات التطهير العرقي . وأثر تغيير النظام الذي حصل عام 2003 عاد 90 بالمئة من مهاجري الموجات الاولى الى العراق ،  وبعد مدة قصيرة فاز هؤلاء بالحكم والسلطة وورثوا ثروات البلاد بكل ما فيها وتحول الكثير منهم الى اغنياء بشكل فاحش بعد عشرات السنين من الغربة والقهر والفاقة . ان هذه الحالة جعلت مهاجري الموجات التالية يتطلعون الى نفس هذا المصير ،  ونما عندهم الاعتقاد بانهم سيعودون في يوم من الايام الى الوطن مرة اخرى ويكسبون الحكم ايضا ليتنعموا بكل فوائده وامتيازاته . لهذا فان من الطبيعي ان نجد هؤلاء المهاجرين غير مندفعين الى الاستقرار والتوطن في البلدان التي أنتهى مصيرهم فيها. جعلت هذه الازمات العراقيين المهاجرين يعيشون باوضاع صعبة وسببت لهم صدمات كبيرة ،  وقد اصيب الكثير منهم بحالات من الاكتئاب والانطواء بسببها ، الا انه لم يكن هناك من خيار امامهم يخرجهم من هذا الوضع الذي اصبحوا فيه خصوصا مع تضاؤل فرص عودتهم الي الوطن بسبب استمرار التدهور الامني وعدم استقرار الأوضاع السياسية وبقاء الاحوال التي اضطرتهم الى الهجرة على حالها تقريبا . ولعلاج هذه الاحوال الصعبة والخروج من دوامة هذه الازمات واصلاح الاحوال على العراقي المهاجر ان يتخذ قرارات مصيرية وصعبة في أن واحد . اولا على المهاجر ان يدرس حالته بعناية شديدة ويقرر فيما اذا كان عليه ان يبقى في بلاد المهجر ام يعود للوطن ثانية . فاذا قرر بعد دراسة مستفيضة بان عليه ان يعود فلابد من اتخاذ خطوات منظمة ومدروسة لتنفيذ ذلك . كما يجب ان يكون تنفيذ هذا القرار ضمن وقت معقول وليس في وقت متأخر لان التنفيذ السريع سيكون لمصلحة ابنائه ،  وان اي تأخرسيزيد من صعوبة اندماج هؤلاء بالمجتمع العراقي بعد عودتهم لأنه سيصبح هو جديدا علـــــــيهم هذه المرة .  اما اذا قرر العراقي البقاء في بلاد المهجر فلابد له من اجراء تغيير جذري لطبيعة الحياة التي يعيشها وتغيير نمط تفكيره وسلوكياته والاندماج بمجتمعه الجديد والتطبع باخلاقياته وعاداته وطباعه . ان من الاكيد بان هذا لن يكون سهلا ،  بل ربما سيكون (مرًا) ،  لكنه في الواقع الخيار الوحيد المتاح امامه للخروج من ازماته لان من المستحيل ان يتوقع بان هذا المجتمع يمكن ان يصبح مثلما يريد في يوم من الايام حتى لو بقى فيه مئات السنين .