يا أيها العراقيون، أيها الغارقون في وهم الثراء السهل، أيها المفتونون ببرميل أسود ينضب يوماً بعد يوم، كأنه إكسير حياة أبدي.
تخيلوا معي عالماً، حيث تتدفق الأنهار من ذهب سائل من باطن الأرض، ويظن السكان أنهم ملوك الكون، لكن في الواقع، هم مجرد حراس قبور لثروة ميتة.
هذا هو عراقنا، بلد الرافدين الذي كان مهداً لحضارات بلا نفط، يتكرر اليوم في نشيد ممل ومغرور: “بلدنا أغنى البلدان”، وليس لديهم غير برميل النفط!.
أي جهل هذا الذي يعمي البصيرة؟ أي غرور يجعلنا نردد كالببغاوات كذبة عفنة، بينما الأرقام الصارخة تدحضها بدم بارد.
انظروا إلى الشعوب التي صعدت إلى قمم الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، تلك التي لا تملك قطرة من الذهب الأسود: اليابان، كوريا الجنوبية، ألمانيا، سويسرا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، مدنها تتلألأ كنجوم في سماء حضارة، شعوبها تعيش في رفاهية نفسية وثقافية، بينما الدول المتخمة بآبار النفط – ونحن منها – تتخبط في درك أدنى من المدنية، غارقة في فساد وتخلف، كأن النفط لعنة إلهية تبتلع العقول قبل الأجساد.
العقل، يا قوم، هو الثروة الحقيقية! الابتكار والخلق هما الذهب الأسود الجديد، ذلك الذي لا ينضب، يتجدد مع كل فجر، ينمو كشجرة عملاقة في حديقة الخيال.
تخيلوا قطعة هاتف ذكي صغيرة، لا تزن سوى بضع غرامات من معدن وبلاستيك وزجاج، يدخل في صنعها أيدٍ عاملة متواضعة، لكنها تدر مئات الدولارات من الأرباح.. ثلاثمائة دولار في الهاتف الواحد!.
شركة كورية أو أمريكية تنتج الملايين يومياً، بينما دولة نفطية كبرى لا تحصد من برميلها سوى عشرين أو ثلاثين دولاراً، بعد أن تتقاسمه رسوم التنقيب والأمن والاستثمار.
هذه العقول المبدعة، هذه الأذهان الخلاقة، لا تنضب كالآبار، بل تتطور في تدفق أبدي، كأنها ينابيع سحرية في دول
تجني المليارات في كل دقيقة.
انتهى عصر الثراء الذي تضخه الآبار، ذلك العصر الوهمي الذي يجعلنا نعيش في فقاعة نفسية من الغرور.
اليوم، شركات الاختراع في الإلكترونيات والمعلوماتية والبرمجة ووسائل الميديا تفوق في مكاسبها شركات النفط العملاقة.
وبدون الآلات والبرمجيات والحواسيب التي تنتجها تلك الألباب اللامعة، لن تستطيع شركات النفط المضي قدماً.
في الحقيقة، بئر النفط نفسه صنيعة الذهن المبدع، قدرات الخلق والاختراع تحصد أكثر من نصف أرباحه.
أرباح الشركات النفطية الأجنبية من نفطنا العراقي تفوق أرباح الدولة نفسها، أو تكاد.
انظروا إلى القيمة السوقية لشركة آبل: تريليون دولار! وشركات التقنية الخمس الكبرى – فيسبوك، أمازون، آبل، مايكروسوفت، غوغل – تربح في يوم واحد ما يقارب 200 مليار دولار.
أما شركة جونسون آند جونسون، فتحصد 17 مليار دولار سنوياً من شفرات حلاقة ومعدات طبية، وتشاينا موبايل 18 ملياراً من الهواتف، وتويوتا 19 ملياراً، وسامسونج 21 ملياراً في عام واحد.
هذه الشركات لا تبيع ثروة مادية مستخرجة من باطن الأرض، ولا تقطف منتجات من الأشجار، بل تبيع عصارة العقول.
إبداعات خلاقة غيرت العالم إلى الأبد، اختصرت الزمن والمسافات، وأعادت تعريف الثروة كقيمة نفسية وثقافية، مبنية على الابتكار لا على الاستخراج.
يا شعوب النفط، هجروا الكذبة الكبرى التي تعيشونها! استثمروا في العقل، في الفكرة لا في حقل النفط.



















