لعنة‭ ‬الغرور‭ ‬العراقي-عدنان ابوزيد

 

يا‭ ‬أيها‭ ‬العراقيون،‭ ‬أيها‭ ‬الغارقون‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬الثراء‭ ‬السهل،‭ ‬أيها‭ ‬المفتونون‭ ‬ببرميل‭ ‬أسود‭ ‬ينضب‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬كأنه‭ ‬إكسير‭ ‬حياة‭ ‬أبدي‭.‬

تخيلوا‭ ‬معي‭ ‬عالماً،‭ ‬حيث‭ ‬تتدفق‭ ‬الأنهار‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬سائل‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض،‭ ‬ويظن‭ ‬السكان‭ ‬أنهم‭ ‬ملوك‭ ‬الكون،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬هم‭ ‬مجرد‭ ‬حراس‭ ‬قبور‭ ‬لثروة‭ ‬ميتة‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬عراقنا،‭ ‬بلد‭ ‬الرافدين‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مهداً‭ ‬لحضارات‭ ‬بلا‭ ‬نفط،‭ ‬يتكرر‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬نشيد‭ ‬ممل‭ ‬ومغرور‭: “‬بلدنا‭ ‬أغنى‭ ‬البلدان‭”‬،‭ ‬وليس‭ ‬لديهم‭ ‬غير‭ ‬برميل‭ ‬النفط‭!.‬

أي‭ ‬جهل‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يعمي‭ ‬البصيرة؟‭ ‬أي‭ ‬غرور‭ ‬يجعلنا‭ ‬نردد‭ ‬كالببغاوات‭ ‬كذبة‭ ‬عفنة،‭ ‬بينما‭ ‬الأرقام‭ ‬الصارخة‭ ‬تدحضها‭ ‬بدم‭ ‬بارد‭.‬

انظروا‭ ‬إلى‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬صعدت‭ ‬إلى‭ ‬قمم‭ ‬الازدهار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬قطرة‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬الأسود‭: ‬اليابان،‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬ألمانيا،‭ ‬سويسرا،‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة،‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬مدنها‭ ‬تتلألأ‭ ‬كنجوم‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬حضارة،‭ ‬شعوبها‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬رفاهية‭ ‬نفسية‭ ‬وثقافية،‭ ‬بينما‭ ‬الدول‭ ‬المتخمة‭ ‬بآبار‭ ‬النفط‭ – ‬ونحن‭ ‬منها‭ – ‬تتخبط‭ ‬في‭ ‬درك‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬المدنية،‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬فساد‭ ‬وتخلف،‭ ‬كأن‭ ‬النفط‭ ‬لعنة‭ ‬إلهية‭ ‬تبتلع‭ ‬العقول‭ ‬قبل‭ ‬الأجساد‭.‬

العقل،‭ ‬يا‭ ‬قوم،‭ ‬هو‭ ‬الثروة‭ ‬الحقيقية‭! ‬الابتكار‭ ‬والخلق‭ ‬هما‭ ‬الذهب‭ ‬الأسود‭ ‬الجديد،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينضب،‭ ‬يتجدد‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬فجر،‭ ‬ينمو‭ ‬كشجرة‭ ‬عملاقة‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬الخيال‭.‬

تخيلوا‭ ‬قطعة‭ ‬هاتف‭ ‬ذكي‭ ‬صغيرة،‭ ‬لا‭ ‬تزن‭ ‬سوى‭ ‬بضع‭ ‬غرامات‭ ‬من‭ ‬معدن‭ ‬وبلاستيك‭ ‬وزجاج،‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬صنعها‭ ‬أيدٍ‭ ‬عاملة‭ ‬متواضعة،‭ ‬لكنها‭ ‬تدر‭ ‬مئات‭ ‬الدولارات‭ ‬من‭ ‬الأرباح‭.. ‬ثلاثمائة‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬الهاتف‭ ‬الواحد‭!.‬

‭ ‬شركة‭ ‬كورية‭ ‬أو‭ ‬أمريكية‭ ‬تنتج‭ ‬الملايين‭ ‬يومياً،‭ ‬بينما‭ ‬دولة‭ ‬نفطية‭ ‬كبرى‭ ‬لا‭ ‬تحصد‭ ‬من‭ ‬برميلها‭ ‬سوى‭ ‬عشرين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثين‭ ‬دولاراً،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تتقاسمه‭ ‬رسوم‭ ‬التنقيب‭ ‬والأمن‭ ‬والاستثمار‭.‬

هذه‭ ‬العقول‭ ‬المبدعة،‭ ‬هذه‭ ‬الأذهان‭ ‬الخلاقة،‭ ‬لا‭ ‬تنضب‭ ‬كالآبار،‭ ‬بل‭ ‬تتطور‭ ‬في‭ ‬تدفق‭ ‬أبدي،‭ ‬كأنها‭ ‬ينابيع‭ ‬سحرية‭ ‬في‭ ‬دول

تجني‭ ‬المليارات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دقيقة‭.‬

انتهى‭ ‬عصر‭ ‬الثراء‭ ‬الذي‭ ‬تضخه‭ ‬الآبار،‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬الوهمي‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬فقاعة‭ ‬نفسية‭ ‬من‭ ‬الغرور‭.‬

اليوم،‭ ‬شركات‭ ‬الاختراع‭ ‬في‭ ‬الإلكترونيات‭ ‬والمعلوماتية‭ ‬والبرمجة‭ ‬ووسائل‭ ‬الميديا‭ ‬تفوق‭ ‬في‭ ‬مكاسبها‭ ‬شركات‭ ‬النفط‭ ‬العملاقة‭.‬

‭ ‬وبدون‭ ‬الآلات‭ ‬والبرمجيات‭ ‬والحواسيب‭ ‬التي‭ ‬تنتجها‭ ‬تلك‭ ‬الألباب‭ ‬اللامعة،‭ ‬لن‭ ‬تستطيع‭ ‬شركات‭ ‬النفط‭ ‬المضي‭ ‬قدماً‭.‬

في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬بئر‭ ‬النفط‭ ‬نفسه‭ ‬صنيعة‭ ‬الذهن‭ ‬المبدع،‭ ‬قدرات‭ ‬الخلق‭ ‬والاختراع‭ ‬تحصد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬أرباحه‭.‬

  ‬أرباح‭ ‬الشركات‭ ‬النفطية‭ ‬الأجنبية‭ ‬من‭ ‬نفطنا‭ ‬العراقي‭ ‬تفوق‭ ‬أرباح‭ ‬الدولة‭ ‬نفسها،‭ ‬أو‭ ‬تكاد‭.‬

‭ ‬انظروا‭ ‬إلى‭ ‬القيمة‭ ‬السوقية‭ ‬لشركة‭ ‬آبل‭: ‬تريليون‭ ‬دولار‭! ‬وشركات‭ ‬التقنية‭ ‬الخمس‭ ‬الكبرى‭ – ‬فيسبوك،‭ ‬أمازون،‭ ‬آبل،‭ ‬مايكروسوفت،‭ ‬غوغل‭ – ‬تربح‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬200‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭.‬

‭ ‬أما‭ ‬شركة‭ ‬جونسون‭ ‬آند‭ ‬جونسون،‭ ‬فتحصد‭ ‬17‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬سنوياً‭ ‬من‭ ‬شفرات‭ ‬حلاقة‭ ‬ومعدات‭ ‬طبية،‭ ‬وتشاينا‭ ‬موبايل‭ ‬18‭ ‬ملياراً‭ ‬من‭ ‬الهواتف،‭ ‬وتويوتا‭ ‬19‭ ‬ملياراً،‭ ‬وسامسونج‭ ‬21‭ ‬ملياراً‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬واحد‭.‬

‭ ‬هذه‭ ‬الشركات‭ ‬لا‭ ‬تبيع‭ ‬ثروة‭ ‬مادية‭ ‬مستخرجة‭ ‬من‭ ‬باطن‭ ‬الأرض،‭ ‬ولا‭ ‬تقطف‭ ‬منتجات‭ ‬من‭ ‬الأشجار،‭ ‬بل‭ ‬تبيع‭ ‬عصارة‭ ‬العقول‭.‬

‭ ‬إبداعات‭ ‬خلاقة‭ ‬غيرت‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬اختصرت‭ ‬الزمن‭ ‬والمسافات،‭ ‬وأعادت‭ ‬تعريف‭ ‬الثروة‭ ‬كقيمة‭ ‬نفسية‭ ‬وثقافية،‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬الابتكار‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الاستخراج‭.‬

‭ ‬يا‭ ‬شعوب‭ ‬النفط،‭ ‬هجروا‭ ‬الكذبة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تعيشونها‭! ‬استثمروا‭ ‬في‭ ‬العقل،‭ ‬في‭ ‬الفكرة‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬النفط‭. ‬

‭ ‬