لا لن أتغيّر

لا لن أتغيّر

سعد العبيدي

سنحتفل بيوم اللغة العربية. لابد أن نحتفل بلسان لغتنا العربية. القرآن الكريم لغته عربية. هكذا هي العبارات التي استهل بها الوزير توجيهاته المركزية الى المدير العام، رئيس اللجنة المشرفة على تهيئة الفعالية الفنية للاحتفال بيوم اللغة العربية. يعيدها في ذاكرته مرارا بعد تخطيه عتبة المكتب الخاص بالوزير، يبتسم مع نفسه فرحاً بالتكليف، لان الاحتفال بالاصول العربية غير وارد في حسابات اليوم. يشرع بالتنقل بين هذه الدائرة وتلك، يحث المدراء المعنيين على الالتزام بالمواعيد المثبتة في الجدول الخاص باجراءات الاحتفال. يكتب تفاصيل العمل واسماء المدعوين ونوع الهدايا وكلمات الترحيب، يعي قدرة موظفيه المحدودة، ويعي أن زملائهم الصاعدين على دكات الوظيفة دفعا من قاعدة السلم الى أعلى درجاته، لا يعطون من أنفسهم مثقال جهد عابر، ولا يبادرون من ذواتهم قليل رأي وافر، جل حساباتهم تتعلق باليوم الذي يحل فيه الراتب آخر الشهر، يغلقون فيه سجلا كان مفتوحا، ويفتحون آخر بانتظار غلقه في دورة حياة رتيبة.

يحل اليوم الموعود للاحتفال، يحضر كبار الوزارة، رؤساء دوائرها، المدراء العامون، العديد من المنتسبين، وبعض المدعوين من خارجها على وفق قائمة رتبت بشكل دقيق من رئيس اللجنة المشرفة. يبدأ الاحتفال بآيات لذكر الحكيم أختارها بنفسه أيضا، ومن بعدها يتصدر الواجهة العريضة شعراء شعبيون، يمدحون بأوزان من مديح سُجل بأسمائهم قبل عقد من الزمان، تغيرت فيه الرموز. يشيد كبير المدعوين في بضع كلمات باللغة العربية وأهميتها في التاريخ البشري، يُذَكِّر الموجودين في القاعة الفارهة أن العربية لغة أهل الجنة، يتعالى التصفيق مصحوبا بنشوة التفضيل على الغير من باقي الاقوام التي لا تتكلم العربية، وكأنهم ضمنوا الجنة بمجرد النطق بلغة أهلها.

توزع شهادات التقدير على ضيوف الوزارة، تصل الى من كان له باع في اللغة العربية، تُمنح الجوائز والهديا، سيل ممتد من الجوائز والهدايا، لا فرق في المفهوم، فكلاهما تقدير للمقامات الرفيعة. يعلق الجالس في الصف الثاني غير المشمول بالهدايا متندرا (نحن نحب المقامات، نُجلها في كل الازمنة والاوقات).

يلتفت اليه آخر من المشمولين، يخزره بنظرة عتاب، وكأن لسان حاله يقول (لو استلمت هدية لما تكلمت) ينتهي عتابهما المكتوم عند حدود النظرة فقط، فالاحتفال لا يتحمل أكثر من العتاب بتبادل النظرات.

يقص الوزير ذاك الشريط الأحمر، منهيا العزل الاحتفالي بين القاعة الرئيسة وقاعة العرض المجاورة، يلقي نظرة على اللوحات المكتوبة بالخط العربي الجميل، يشيد بأصحابها الفنانيين المرموقين، يقف معهم، يتصور معهم، يُشعرهم بنعمة الانجاز وثمرة الجهد عرضا لفنهم الرفيع أمام النخبة في المعرض الخاص.

يقف الفنان كريم أمام لوحاته الثلاث مزهوا بنظرات المارين قربها وتعليقاتهم الايجابية على انسجام ألوانها، يكلم زميله في الجوار (سنبيع جميع اللوحات هذا اليوم، مازال الفن في عراقنا بخير).

يعود الوزير الى القاعة يكمل ما بدأه من أحاديث عن الفن واللغة وأهمية التراث لشعب توحده اللغة العربية.

يحتل السيد وصفي، مكانه في الصف الاول، يرقب ما يجري، يشيح بنظره الثاقب يمينا والى الشمال، يهمس في اذن صاحبه القريب من جانبه الايسر، منتقدا هذا التجمهر حول الوزير، يصفه بالسلوك الانتهازي الموروث من الزمن السابق، يذم الزمن السابق، ورجال طالما وقفوا على أبواب مسؤوليه يستجدون الرضا وتعزيز المقام. يؤشر بأطراف اصابع يده اليمنى الى أحدهم بدرجة تقارب درجته الوظيفية العالية قد تقدم من الوزير طالبا التصوير معه في وضعية خاصة، يراها تجاوزا على أصول التعامل مع كبار المسؤولين، ويتم نظره الى آخر يقف في الصف الخاص بطالبي التصوير.

يتحرك في مكانه، كأنه لا يستطع تحمل الابتعاد عن متعة التوثيق أو كأن التاريخ سيغادره دون ترك البصمات الخاصة بالعظمة على مسيرة له توثقت بصور أخرى مع وزراء آخرين من أزمنة أُخرى، وربما تصور الواقفين في الدور أقل شأنا منه، فأندفع الى الامام ليعلي من هذا الشأن المهزوز. حشر نفسه بين الوزير وبين الواقفين في الدور، لم يكتفِ بوضعية واحدة لأغراض التوثيق، يلوح للمصور لالتقاط أكثر من صورة لأكثر من وضعية، يختمها بابتسامة بدت باهتة بوجه الوزير وبقول لمن حوله (انها مناسبة لم تتكرر).

يهدأ بعد اللقطة الثالثة، كأنه أنتصر على الآخرين بالتقاطه ثلاث صور بثلاث وضعيات، يعود الى كرسيه ضاحكا، تلاحقه نظرات استغراب من قبل الوزير، يكلم صاحبه الذي لم يتحرك من مكانه عن أهمية الصورة لتوثيق التاريخ، وعن الذكريات التي تبقي الناس في وهج الخلود. يعاود أنتقاده التدافع والوقوف في الدور من أجل الصورة لمن لا يعي أهميتها، يُفضل الاقتحام وسيلة عملية لمثل هكذا مواقف. يسكت قليلا، يرقب الحضور، يبدأ حملة جديدة من الذم الموجه للتجاوز والفساد. وهو هكذا مستمر في الكلام يرصد حركة توجه حثيث من قبل الكبار صوب القاعة التي تضم المعرض ولوحاته الجميلة. الفنانون الذين يقفون أمام لوحاتهم، يحاولون تقديم الايجاز عن كل واحدة منها بفخر واعتزاز، لا يكملون الايجاز، القادمون الكبار لا يسمعون الايجاز، جاءوا لأمر آخر لا علاقة له بالايجاز.

تعاوده الحركة المغزلية في المكان، ينهض ثانية، يشق طريقه وسط الكبار الذين يتدافعون عند اللوحات، يعود من غزوة التدافع بغنيمة قوامها لوحتان احداهما آية قرآنية والأخرى حديث نبوي.

 يجلس في مكانه، يبدأ تقديم الشرح الى زميله الذي لم يبرح المكان، يحمد الله على تمكينه اللحاق بآخر لوحتين، يصف التهافت على اللوحات لمن سبقه من الكبار بالسلوك الهمجي، ويصف قيمة اللوحتان الدينيتان بالعظيمة، وحاجته لهما في تزيين غرفة الصالون في بيته الجديد ومكتبه في الوزارة بمنتهى الاهمية. ينتظر خروج الوزير من القاعة، يتبعه حاملا غنيمته لوحتان، يتعقب رتل من حاملي اللوحات المغصوبة، وعيون أصحابها الفنانين. مازالت شابحة تودعهم  باستهزاء. يبقى صاحبه مشدوها في مكانه، يتمتم مع نفسه كأنه يكلمها همسا:

متى بدأت التدين وانت الى يوم السقوط من رواد النوادي الليلية؟.

هل نسيت غرفة نومك التي كنت تزينها بصور الرئيس واقفا وجالسا، وراكبا صهوة حصان؟.

ما هذا التلون السريع، وكيف استطعت تغيير ثوبك واقناع المعنيين بالوزارة أنك متدين؟. وكيف استطعت استبدال صور الرئيس في بيتك ومكتبك بآيات من القرآن؟.

ينتبه أحد المارة الى بعض الكلمات التي تخرج من فمه متناثرة، يسأله فيما اذا كان يعاني شيئا غير طبيعي.

أنت تكلم نفسك؟

لا من قال أني أكلم نفسي؟.

لقد سمعتك تكلم نفسك.

دعني أكلم نفسي، سأبقى أكلمها، أَشعر اني غريب وسط هذا الجمع، ألم تراه جمع من المتدافعين يعتقدون أنفسهم في غزوات نهب مثل التي كانت تؤطر حياة الصحراء قبل مئات السنين.

نعم اني أرى ما تراه، وارى أننا لم نتغير.

لماذا نتغير؟.

يخرجان معا في آخر الركب، يؤكدان لبعضهما البعض عقم هذا الزمن العـــصي على التغيير.

مشاركة