لا تلق عصاك أبداً – عمار طاهر

لا تلق عصاك أبداً – عمار طاهر

أخيرا سقطت في فخ كورونا وانا المحتاط والحاذر دائما.. ذلك الشبح المجهول الذي أضحى كالهاجس، يطارد الناس في كل مكان، يقض المضاجع، وينتزع الأرواح، ويغتصب الحريات، ويحرمنا متعة اللقاء.. فهذا القاتل العالمي يتسلل الى المرء من طرف خفي، ويصطاده من حيث لا يدري، ويتركه اسيرا لقلق مميت، قد يقضي عليه، وهو يتلظى على فراش المرض.

ما بين الشك واليقين كانت ظنوني تتأرجح، فالأعراض ملتبسة، وعلامات المرض قد تصيب وتخطئ، الى ان ظهرت النتائج، وتأكدت الإصابة.. تملكني سكون غريب عندما طرق فريق المركز الصحي في الاعلام باب الدار، وهم يعربون عن اسفهم، ويقدمون الارشادات المطلوبة، من عزل ودواء ونصائح طبية.

لم أخش شيئا.. وقررت ان اواجه الموضوع متسلحا بالصبر والإيمان بقضاء الله وقدره دون ان أعلن عن الموضوع، باستثناء مكان عملي في كلية الاعلام، فغيابي يثير التساؤل دائما، لم ارغب في اشغال حتى المقربين من الاهل والأصدقاء، ربما بسبب طبيعتي الاجتماعية المتحفظة، او شخصيتي التي لا تعشق الأضواء ابدا.

إذن لا بد من العزلة، فاعتزلت الناس، وغادرت العائلة إلا أنهم لم يغادروا، وأصيبوا جميعا، إلا ابنتي الشابة.. كانت كالفراشة تطوف علينا حتى الصباح، تعاودني طيلة ساعات الليل والنهار، وهي تلاحقني بأسئلتها الملحة عن عصير البرتقال، وأكواب الشاي والقهوة.. تقيس الحرارة وتطمئن على درجة الاوكسجين، ثم تجلس تراقب من بعيد دون كلل.

ثنائية الموت والحياة، ومفارقة الدنيا.. أفكار تطاردك في اليقظة.. واحلام رمزية او غيبية او خيالية تهاجمك في المنام.. الدقائق تمر كالساعات، وانت خلف قضبان الصبر.. تحصي الأيام لاجتياز المحنة، وعبور مرحلة الخطر، فمع كل سعال قاس وعاصر للقلب وخانق يبدو العالم مظلماً، وتبدو وحيدا في مهب الضياع.

لم استسلم ابدا، وهذا هو المهم.. ولم اتعاط أي دواء خارج بروتوكول وزارة الصحة.. حمام ساخن في الصباح، وجلسة تحت اشعة الشمس ظهرا، وجولة راجلة في المساء.. أحاول دائما ألا أرى المسألة على انها مأساة.. أشحذ همتي، واتجرع الطعام، فالشهية في غياب متواصل الى حد خسرت فيه الكثير من الوزن والمناعة.

وفي خضم التجربة المريرة، ثمة رجال لا يفارقونك في الشدة، فتخترق رسائلهم قلبك وعزلتك.. طوقوني بجمائلهم، واحاطوني بمشاعرهم، كالصديق على المندلاوي، وعميد كلية الطب بجامعة بغداد الأستاذ الدكتور علي الشالجي، وزملاء اعزاء وموظفين أصدقاء في كلية الاعلام، وبعد أن تسرب الخبر وانا في طور الشفاء، انهالت المكالمات الهاتفية من داخل وخارج العراق، فاتصل مشكورا نقيب الصحفيين مؤيد اللامي، وعرض نقلي الى أي دولة للعلاج على نفقة النقابة، وتابع حالتي امين السر الزميل خالد جاسم، فضلا عن الكثير من عمداء الكليات، وأساتذة الجامعة، وصحفيين، ومسؤولين في مواقع مختلفة لا تتسع لذكرهم المساحة على الورق.

تجربة الإصابة بالوباء ليست سهلة او بسيطة على الاطلاق، فهي تختلف باختلاف الناس.. شخصيتهم، مناعتهم، أعمارهم، امراضهم، وكمية الفايروس وقوته، تعلمت منها الصمود والمقاومة ومكافحة الأفكار السوداوية.. وعلمتني محبة الاخرين الصادقة وعواطفهم الجياشة، جعلتني متفائلا في أقسى الظروف، وان لا القى بعصاي مهما استبد بي القنوط.. او الوح بمنديل الوداع الأخير.

بغداد

مشاركة