كورونا والتاريخ وإيطاليا المسكينة  2 -2 – نعيم عبد مهلهل

كورونا والتاريخ وإيطاليا المسكينة  2 -2 – نعيم عبد مهلهل

حكايات أولى تحكيها (الزمان) عن وباء غريب حوّل روما إلى العطر وصوفيا لورين إلى بلد آخر

هذه القصة قادتني الى ذكريات خان البصل الذي يملكه المرحوم جارنا الحاج رضا وكان قبل امتلاك هذا الخان يشتغل بصناعة الاسرة والكراسي من جريد النخل .ولكنه استأجر الخان من مالكية الحاجين عودة وجواد العطار وكان قبل ذلك يملكه المرحوم ملا ياسين الذي كان يبيع به النفط الأسود لأصحاب مراكب النقل المائي واصحاب مطاحن الطحين ، قبل ان يتحول الى بناية حديثة بخمسة حوانيت ومخزن كبير وشقتين ، وكان الخان قريب من بيتنا ولايفصلنا عنه سوى بيت المرحوم طلب مسير (ابو ليلى المضمد).

كان يدير هذا الخان في غياب صاحبه ابو محمد ،الصديق احمد والذي اظن انه استشهد في الحرب العراقية الايرانية ، وكنا نقضي في الخان بين اكوام البصل مرحا تسكنه رغبتنا بالبكاء لنبقى قريبا منه بالرغم من رائحته الثقيلة والمزعجة ،ومتى تساقط الدمع من اعيننا كنا نضجك لشعورنا انها دموع بصل .

بين خان البصل الذي يملكه المرحوم رضا كاظم حمادي ،وبين قبو البصل الالماني ، هناك حقيقة تمت بالصلة الى المشاعر ، فقد كانت مشاعرنا تختبر اكوام البصل الذي عندما يتأخر بيعه وتصريفه يصبح وبالا على شارعنا من خلال رائحة العفن التي تنضح منه حين يتأخر في المكان او يتعرض الى رشقات المطر لانه كان منثورا على الارض وبأطنان كثيرة.

هذه الحقيقة التي حولت البصل الى هاجس اممي يرتبط بالطبخ والدموع لكن الفاصلة بينهما ان خان البصل في شارعنا كان خانا لرزق الرجل سوى أن ادمع  البصل العيون او لم تدمعها ،اما قبو البصل فهو مشاعر مفتعلة قد نشاهد مثلها اليوم في عيون من الناس المهمين الذين يتصنعون مشاعر البكاء لكي يستدرجوا ولاء الناس واظن ان هكذا نوع من البشر لا يحتاجون قبوا لتقشير البصل ليبكوا ،ولا يحتاجون ان يجلسوا قرب اكوام البصل في خان الذي كنا نقضي قرب اكوام بصله بعض من محطات طفولتنا وكنا لا نهتم للدموع التي تسيل من عيوننا بفعل قوة رائحة البصل.الآن والقطار انتهى عند العاصمة المقدونية وعلينا ان نعبر الى اليونان ثم تركيا ثم العراق. تلوح في الافق عصافير بساتين مطعمة بندى صباحات مطر اصفر .فأشعر انه مطر البصل في خان المرحوم الحاج محمد رضا.

6- بالطو المحطة المقدونية

الليل طويل ، ووحشة الطريق حين يصبح صوت صفارة القطار موسيقاها تتحول الى غربة قاتمة ومصير مجهول ، فالمحطات بين أور وبين اللحظة التي ركبت فيه قطارا سوفيتيا من مقدونيا الى سواحل اليونان تثير في اوردتي رعشة شجن لذكريات ، ولكن امي تتقول :لا تتذكر واجفانك ليس لها اتجاها تذهب اليه.

وعندما أقول : ان اور جهتي .

يأتيني صوتها البعيد : ولكن اور تعيش الوباء ايضا. عد الى ايطاليا  واحتمي بعيون صوفيا لورين ، او غامر وارتدي درعك السومري وكمامة الوجه وعُد الى بيتك الالماني ، ومت هناك قرب اطفالك.

اتذكر اصغر اطفالي وهي تكتب لي عبر الماسنجر : بابا هنا يحرقون جثث موتى الوباء بأفران المستشفيات ، وكنت تقول لنا : حتى ترى الله في نهاية العمر على جسدك ان يذهب كاملا اليه ، فكيف اصل الى الله اذا احرقوا جسدي؟

ابكي ، وأطمئن ابنتي .انك بسن تمتلكين فيه مناعة قوية ، والمناعة يا صغيرتي وحدها من تنتصر على الفايروس .

تكتب لي : ولكني اخاف عليك فأنت في سن الستين يا ابي.

قلت : لنا الله ، وأور التي اخترتها جهة ، وتركتكم هناك لأن الوصول اليكم عسيرا.

ترد بلغة لم اسمعه من صوت واحدة بعمرها وتقول : الآباء عندما تسكنهم لهفة الابناء يمشون على الجمر وبمحاذاة النعوش ،وربما يسبحون عوما في انهر الفايروسات التي تصادفهم في الطريق؟

ارد عليها باكيا : ابنتي انا بشر ولم  اكتسب من الالهة شيئا كما عند جلجامش؟

ترد ثانية : إذن عد الى روما يا بابا ، فهي الاقرب الينا منك.

أنزل في اقرب محطة ، وأسأل عن الجهة التي يعيدني قطارها الى روما ، فيجيء الرد لغة انكليزية ركيكة من لكنة روسية لقاطع المحطة المقدونية : ايطاليا اقفلت حدودها ، اما ان تتابع سيرك او تبقى في بلاد الاسكندر ، تتذكر ما انجبنا ، القائد العظيم الذي وصل الى بابل.

اردت ان اقول له ان بابل بلادي . لكني فضلت ان اعود الى القطار ، واكرر العبارة روما لم تعد روما .

كان على ان انتظر لساعات فتدثرت بمعطفي ، فالربيع المقدوني يشبه شتاء العراق برده يطرق العظام ، أقترب مني رقيب في البوليس وهمس لي بذات الانكليزية الركيكة : بإمكاني ان ابيعك زجاجة كونياك لتتدفئي .ولكنها ليست اصليه فهي صناعة مقدونيا .

ضحكة وتذكرت في زمن الحصار حين انتشرت ظاهرة العراق المغشوش ، مما اضطر بعض مدمنيه وعاشقيه الى تقطيره في البيت من تمر الزاهدي .

قلت :انا لا اشرب الكحول .

قال القطار يصل صباحا ولا يقيك من هذا البرد غيره لاسيما انكَ ترتدي بحذائك جورابا صيفا .

ضحكت مرة اخرى وقلت : الشرطة ينتبهون الى كل شيء. وطلبت منه ان يؤجرني بطانية واحدة او اثنين للساعات القادمة فقط .

قال : ما العملة التي تحملها .

ــ يورو

ــ اذن البطانية الواحدة بعشرة اورو.

قلت : اريد ثلاثة .

قال : سأجلب من غرفتي اثنين والثالثة سأنتزعها من فوق زميلي النائم .فلن يشعر ابدا في طقس الشخير لأن غرفته دافئة.

لا ادري لماذا وانا استمتع بدفء البطانيات تذكرت اغنية جميلة لمطرب عراقي اسمه كريم منصور تقول : تغطيت وبعدني الليلة بردان .

قال لي الشرطي بإمكانك خلع معطفك فهو لا يريحك في النوم .

شعرت انه يريد ان يسرقه ، وعندما يصبح الشرطي لصا ، تلك مشكلة لا تردعه عن فعل اقوى من السرقة فقد يلصق لديك تهمه.

نظرت اليه وقلت : لا يذهب بك الظن بعيدا ، المعطف ليس ايطاليا ،اشتريته من بائع ملابس قديمة في بوخارست.

قال : اوه لكم اكره المعاطف السوفيتية .حتما هو من عهد شاوشيسكو.

تلفلفت مع البطانيات والمعطف وقررت ان اظل مستيقظا ، افكر عن محنة كورونا المحطات ، فلا روما قريبة ولا أور .

وحده المعطف عاد بذكرى الزمن البعيد ، يوم كان البالطو جزاء من اناقة المعلمين ، ولكنه الان جزا من حربك في الانتصار على البرد والهروب من الفايروس الذي يقال ان شهر عسله هو موسم البرد.

فأعيش الظن أن كلمة بالطو ليست عربية وأقرب الظن أنها تركية أتت إلينا يوم دخلت موضة ملابس الأفندية بين الموظفين في الدوائر الرسمية، أو أن العثمانيين ألزموا جميع الموظفين في ولاياتهم أن يرتدوا البالطو والطربوش، غير أني كنت أنتبه إلى حراس شوارع المدينة كانوا يرتدونه مثل أبي مع العقال.

صورة البالطو، واستدارة العقال كما تلك الحلقة التي تدور حول كوكب زحل. هي من بعض نوافذنا أرواحنا، وكم كانت تلك الشتاءات جميلة وساحرة حين يجيء تلامذة مدارسنا وهم يحتمون من لسعة برد شتاء صباح الأهوار بذلك البالطو الذي توزعه مديرية التربية كمعونة شتاء للأطفال الفقراء، ولأن نسب الفقر في القرية تكاد تكون متساوية فكانت القرعة هي الحل الأسلم لم نوزع (البالوطات).

وعلى الرغم أن البالطو هو القبوط (المعطف) إلا أنه بسبب حجمه الجاكيت الكبير كنا نوزعه على تلاميذ قصار القامة فكانوا يطلقون على الجاكيت اسم بالطو.

لذلك الزي أساطير حلوة، يوم سعى المعلمون بعد أن شعروا بقسوة البرد الشتائي في أيام (جويريد) وهو ينهش في عظام المعدان وإصرارهم ليتحدوا الرجفة وينتظروا مع جواميسهم عند حافات الماء ولا يذهبوا معها لبرودة الماء؛ لأن أقدامهم العارية لا تتحمل هذا البرد سعوا إلى إقناع البعض بشراء البالطو من محلات البالات أو من الشرطة الخيالة الذين يتقاعدون ويبقون معاطفهم الخاكية معهم وتكون ثقيلة وقماشها من الوبر الشعري.

بدأ البالطو يغزو أجساد أهل القرية، وفي عام ما اكتمل نصاب جميع أبناء القرية في ارتدائهم هذا المعطف، وتحول الجميع في أول الصباح إلى فصيل من جند انكشارية أو خيالة في مخفر (وانه) الذي يقع على الحدود البرية الجنوبية لأهوار الجبايش، فنسجل منظراً جديداً في حياة هؤلاء الناس وهم يقون شتاءهم بتلك المعاطف الطويلة التي يرتدونها فوق دشاديش ثقيلة، ومن فرط تعلقهم بها صار البعض يستعيض عنها باللحاف في نومه، ويهجعون معها بعد أن يتمددوا ليغفوا نائمين فيما المواقد تخفت رويداً رويداً.

الليلة تقيم دار أزياء في شارع الملك في مدينة دوسلدورف عرض أزياء بيار كردان بعنوان (معاطف ليلنا الطويل).

لن أحضره فبطاقة الدخول غالية جداً، ولكني حتماً سأتابعه على قناة (فيوشون شو) فقط لأستعيد متعة صباحات البالطو الذي يأتي من معامل نسيج أوروبا وإسطنبول ومخازن ميرة الشرطة الخيالة ليشتريه أهل قريتنا ليهزموا البرد ويظلوا يتمتعون بلذة جلوسهم أمام النار وهم يتكورون معها بسعادة حتى لحظة النعاس.

7- قبلة الكمامة وملامح صوفيا لورين

افكر برغبة ابنتي ، ومع صدى التقاء عجلات الحديد بسكة الطريق اكتئب من ظلمة القطارات في الليل ، فلا أشعر سوى بمتعة استعادة الذكريات .

عندما الحنين والدفيء يوفران لك اصرار العودة الى روما ، فتتغلب على هذا اليأس الذي صنعه قاطع التذاكر : روما اغلقت ابوابها .

اردت ان اقول له : كانت المدن كلها تغلق ابوابها بوجه الاسكندر المقدوني ولكنه يفتحها بجبروت وقع سنابك خيوله.

فيرد : انت لست الاسكندر .

ابتسم ، وانا اتذكر ان هزيمة الملك المقدوني لم تكن بحرب وأنا بوباء.

بين الوباء الذي قتل الاسكندر منفردا وهذا الوباء الذي يقتل الجميع ، وهناك غازيا اخر لأرض بابل مات بوبا ايضا وبذات الكوليرا التي قتلت الاسكندر وهو الجنرال مود الذي احتل بغداد في اوائل القرن الماضي وانهى عهد الترك فيها.بعضهم يقول لا يعود الى روما سوى القيصر ، فالعودة الى روما تعني العودة الى الادمان على البهجة الغامضة ، واعرف ان النساء والعطور هي من بعض ادمان هذه البهجة . وتعني ايضا الخنجر في الخاصرة.

اعرف ان طفلتي وهي تتمنى علي العودة الى روما لا تعرف بقصة الخنجر وبروتس ، ولو عرفت ستقارن الأمر مع الوباء وتتخيل أن الكورونا هي الخنجر وأنه سيترصد رجوعي الى روما ويتغلل الى رئتي من خلال ملامسة احدهم في زحام مترو روما او محطات قطاراتها ، أو في مطعم لبيتزا ، فأن ليلتين في قطار نصف مضيء بين مقدونيا وروما الهب بطني جوعا.

سأعود الى روما أبنة ايطاليا المسكينة وطفلتها المدللة ، وسأحاول ان احجر نفسي في غرفة بفندق ، وسأكتب لهم ليحلوا لي الف اورو تحسبا ان المكوث هنا سيطول ، فلقد رأيت البابا في صلاة الفصح  يقول : ليرحم الله ايطاليا ومعها العالم كله كنائس ومعابد ديانات اخرى.

زرتها أول مرة قبل سنوات بعيدة ، وزرتها وهي في محنة عصيبة ، وهربت منها جهة أور ، في امنية ان الوذ بعباءة ابراهيم النبي المولود في مدينتي لينجيني والبشرية كلها ، لكن الطريق انتهى عند مدينة في الحدود اليونانية المقدونية لأن البلدان اغلقت حدودها ، فلا أمام للمسافر ، ولكن الرجوع ممكن.

أضحك واقول : الفايروس هو من يأمركم . اوقفوا المصانع ، اغلقوا المدارس ، ارتدوا الكمامات ، لا تقبيل ولا مصافحة ، تباعدوا في التسوق والمشي في الشوارع ، ابقوا في منازلكم ، واخيرا ، حتى في الغرام عقموا اولا اعضائكم الذكرية والانثوية .

يوم رأيت روما اول مرة ، قلت :الآن شاهدت وجه صوفيا لورين عن القرب ، وتذكرت ما كان يقوله عاشق لها من معلمي مدرستنا التي تقع في العميق البعيد في اهوار ميزوبوتاميا : لو أن المعدان يعرفون صوفيا لورين ، لجلبوا شاشات السينما الى هنا رغما عن انوف الجواميس.

حليب الجواميس

الآن ، ربما بسبب الكورونا تتمنى لورين ان تعرف المعدان لتجلبهم اليها ، لشعورها ربما أن حليب الجواميس بعضا من الوقاية ضد هذا الوباء.

أستظل بنهار روما واتذكر مشاعري الأولى عنها ، فأحزن لفارق اليومين عندما شدني انبهار العطر والسحر وأنا اهتف الى هوائها الذي دخل صدري : ها انت أذن تحقق حلمي يا هواء مدينة القياصرة ، وبين هذا اليوم الذي كل مسافري قطاراتها يرتدون الكمامات.

تمر فاتنة بقوام عاضة الهواء وتهمس لي بالإيطالية ، فلا افهم . تشعرني سعادة غريبة وان ارتدي جمال ملامحها ، واقول لها : لا افهم الايطالية ، اعيدي عبارتك بالإنكليزية ، فتقول : ارفع الكمامة من حنكك الى فمك .الكورونا في كل مكان .

امتثل الى نصيحتها ، وتذهب بموسيقى ساقيها وتنورتها القصائد الى السلالم الكهربائية ، تلفت لتراني اتابع خطوتها ، فتضع اصابعها على شفتيها لتقول لي :هذه قبلة من خلف الكمامة.

 وأنا اتخيل اللحظة الرومانسية ، ان الفتاة صاحبة الساقيين المثيرين قد خلعت كمامتها ،ومثلها فعلت وتبادلنا انخاب الشفتين ، ومع عطر اللحظة ونارها المتقدة لذة ولقاحا ضد الفايروس استذكر روما ودهشتها حين وطأتها خطواتي أول مرة؟

روما ظهيرة الصيف فيها يشبهُ قيظً البصرة ، لكن حدائقها وبساتينها بدون أراجيح جذوع النخلْ ، بدون نواعير ، بدون بيت من الطين وقبةٍ من خزف اللقى الاثرية غلفوا به قبة لسيدة هاشميةٍ ماتت في ليل الاهوار ، وكرامتها أن النبي جدها ، وجدتُها فاطمة الزهراء .

أتجول في المدينة الرومانية العريقة ، البناتُ من الضوء ما يُعمي الشوق للعطر في نظرة ذكر جاموس في قرية ( سدخان ــ المعيدي ) .

ــ من سماكَ سدخان ؟

يقول أبي : جدْ جدُك كان أسمه سدخان ، وجدتُكَ ( غرموشة )عشقت سيخياً هندياً من جند الكركة ، تزوجته ، تَشيعَ هو، وجدتُكَ عشقت بسببه بهارات دلهي ، ويقال : هو من علم سكان قرى الماء من هور الواوية في قلعة صالح الى هور الحمار ، أن يضعوا على مرقة السمك صلصة الطماطم والكركم الاصفر . عندها شعروا بلذة الطعام في نكهة التوابل ، وقبلهم كانت ايطاليا قد ارسلت حجاجها الى الهند ، ورحالتها ماركو بولو الى الصين من أجل الغرض نفسه.

المدينة تأخذني اليها ، حدث أسطوري ، من حر أور الى نسائم روما التي كنا لا نراها سوى في افلام صوفيا لورين وراكيل وولش وجوليا ناجيما وانتونيو ساباتو ، والأخوين ترنيتي ودمية الخشب الشهيرة بينوكيو.

لكن السفير الايطالي في بغداد وقد زار القطعات الايطالية المرابطة في أطراف الناصرية ، وقد قابلناه كمثقفين نطالب بحماية اثار أجدادنا السومريين من معاول السُراق واللصوص منحنا مكرمة من سيادته احتراما لشجاعتنا في الطرح بأن نكون ضيوفا للخارجية الايطالية في رحلة ترويحية لمدة اسبوعين في روما .

نقلتنا طائرة عسكرية من قاعدة أور الجوية الى الكويت ، ومن هناك نقلتنا طائرة تحمل جنودا مجازين الى قاعدة عسكرية الى روما ، ثم قالوا لنا هناك مجد القيصر ، وهنا انتحرت كليوباترا ، فانتحروا انتم بجمال النساء والأثر التاريخي لواحدة من اعظم امبراطوريات الكون.

أنا لم أخترْ إلا من يسكن خيالي (وجه صوفيا لورين ) .

تلك فتنتنا وطفولتنا على شاشات السينما ، أيام كان الوغد الذكوري يحركُ فينا شجن رغبتنا لتجاوز طبقتنا الاجتماعية التي كانت بمستوى بيوت الطين ، ونتمنى ما هو فوق طاقتنا ، تلك المرأة ذات العطر الاغريقي الشامخ ، تلك التي يكتشف معها المعدان خبايا التأريخ بين سيف الأسكندر و( شومية )* المعيدي التي يقود فيها قطيع الجاموس عندما ( يحرنُ )* في مغادرة قيلولته في الماء الراكد.

أسأل عن الممثلة الايطالية ، لأكتشف أن الكبار فقط من يعرفها ، أما الشباب فلا يعرفوا سوى الليدي غاغا ، ومادونا وانجيلا جولي ، لا احد منهم يعرف جينا لولو برجيدا وراكيل وولش وأرسولا اندرسن التي سرقت كل دهشتنا الغامضة في فيلمها الاكشن الشمس الحمراء 1971 مع آلن ديلون وجارلس برونسون.

سألت واحدة ، ضحكت وقالت : أسألني عن صدري هذا ، هل اختزن ضوء الشمس على الرمال وصار اسمرا كأفريقيةٍ شهية . هل انت افريقي .؟

ــ ليست زنجيا حتى أكون افريقيا ، أنا من العراق من بلاد ميزوبوتاميا؟

ــ هناك من هم بشكلكَ من تزاوج افريقية وأوربي . تعال نفعلها معا وننتج صبيا بسمرة ميزوبوتاميا ، هناك حيث كان في بابل الكثير من الجنود وجوههم برونزية من الذي يشتريهم ملوككم الشبقون ، قرأت عن هذا مرة في كتاب التأريخ المدرسي.

تعال ، ليلتي معكَ بالمجان ، فقط نطفتك في جوفي ثم أذهب اينما تريد ، حتى اني لن اعرفكَ حين اصادفكَ مرة اخرى ، وطفلكَ سأسجلهُ بأسم جدتي ماريا ، تعرف ماريا ، هم أم يسوع ، وإذا كان ذكرا سأسميه يوليوس ، فأنا اعشق القيصر لأنه يذكر المرأة بجبروت القوة في الحرب والفراش ، هكذا كان مع كليوباترا في الوسادة ومع اعداء روما في ساحة الحرب.

هربت منها ، فأنا أكره من يريد أن يسرق مني (ضناي) * حتى لو كان سفاحاً ، لألتحق بأصدقائي الذين جاءوا معي في هذه الرحلة ، ونجلس في مقهى ، المصلي فينا يشرب شاي النبتون ، والعِلماني يشرب البيرة ، ونهار روما يراقبنا بأشفاق ، وهناك في الافق البعيد قبر أبي وجنوبيته الصامتة التي لم تعْ من الدنيا سوى مفردات التعامل في عالم الرز الشِتال وقطعان الجواميس ومتى أراد امي لمودته يحدثها بعينيه فتفهم.

روح أبي في إيطاليا ، تطوف في فضاء الكأس ، وتتجول بين المعالم الرومانية ، وتتخيل الغرابة في هندسة الكنائس والملائكة المنحوتة برخام خواطر أنجلو ، فأتذكر جامع القرية المبني من القصب ، في وسط الماء والمفروش بحصيرة من خوص النخل وبساط نسجته أمي التي كانت واحدة من اروع نساجات سومر، حيث تبتكر اشكالها الخرافية داخل رسومات نسيجها ، ومرات وبفطرة عجيبة تنسج اشكالا أقرب لوجوه اله أور ، ووجوه اميراتها ،ومرة هبت ريح شتائية طار معها جامع القرية القصبي ، ومعه تبللت البسط ، حيث عامت والدتي في منتصف الليل مستعينة بضوء القمر لتجلب البساط الجميل قبل أن يبتعد أو يغرق في قاع الهور ، أما بناية الجامع فقد عقب ابي قائلا : الله بناه ، والله هدمه .وغدا سنباشر بناء جامعا جديدا .

بين الكاتدرائية التي تفتح القلب ، وذلك الجامع القصب الذي طار مع العاصفة في ليلة مقمرة ، حيث يقول أبي : أن عواصف الليالي المقمرة هي من صناعة ضجر النائمين في تراب التلال البعيدة في عمق الاهوار حيث يمنع الاقتراب منها لأن ( الطناطل )* تسكنها.

آه ، صدر تلك الايطالية التي تمنت نطفة من ذكورة الجنوب السمراء يسكن فيه الطنطل ايضا ، لهذا خفت وهربت ، والايطاليون الذين جاءوا ليحتلوا الزقورة والمساحات المحيطة فيها كانت لهم وجوه طناطل مخيفة خاصة عندما اشتبكوا لأول مرة مع افراد من جيش المهدي في شوارع المدينة.

داخل المدينة

الآن عرفوا أن يمنعوا طناطلهم من التجوال داخل المدينة ، وادخلوا سفيرهم ببدلته السموكن واصغاءه العميق ، ومكارمه السخية التي كانت على شكل سفرات ترويحية الى روما ، وأنا نلت واحدة منها ، وفي خيالي صورة المكان في لحظته الساحرة.أوربا .حلمي الابدي ، وصورة مخيلة القراءات الاولى لبراندلو وروفائيل البرتي والساحر المدهش إيتاليو كالفينو…لا احد يعرفه هنا ، ولا يعرفون صوفيا لورين وحتى هم لم يعرفوا المطرب الريفي شخير سلطان.

لا يهم ، دعهم لا يعرفون …

أبي يعرف ، وقد قرأ قبل ذلك الكتاب الطلسمي لكالفينو الذي اسمه ( مدن لا مرئية ) .وكان معجبا بشخصية الإمبراطور المغولي قبلاي خان ، فيما كنت انا مسحورا بشخصية ماركو بولو

أضحك :أبي لم يدخل مدرسة في حياته ، عاش معدياً أصيلاً ، ومات معدياً اسطوريا ، أنا فقط من قرأ (مدن لامرئية) ، وكان وقتها قد فقد ثلاثة ارباع نظره ، وفي يوم ما أردت أن أسمعه نصوصاً من هذا الكتاب ، ابتسم وقال : عندما كانت معي ذاكرتي وعيناي ليس لدي سوى كلمات صلاتي ، وبعض جمل الغزل من أجل ولادتك، أما الجواميس فقد كنت اكلمها بلغة خاصة اغلبهُ صفير وتمتمات ورثتها من ابي ، وابي ورثها من اجداده ، ويقولون انها لهجة الناس الذين كانوا يعيشون في الاهوار قبل الاف الاعوام ، قارئ المجالس الحسينية القادم من الناصرية قال لنا مرة : أن اللغة التي نكلم بها الجواميس هي لغة نوح…..!

كالفينو ، وأبي ، وروما ، وقرى المعدان وصوفيا لورين ، لا شيء يسكنني غير تلك الأسماء ، الطافية على نهر ذاكرتي كما تطفوا الأسماك النافقة جراء سقوط قذائف المدافع النمساوي في حروب الاهوار.

مات الكثير من أصدقائي . اتذكرهم الآن في ظهيرة المدينة الرومانية واغلبهم مثلي كان عاشقا لقبلات صوفيا لورين وراكيل وولش ، وصبرية بنت حافوفة القرية ، التي كانت تعشق كل ليلة مقمرة شابا معدياً كما كانت عشتار الالهة السومرية تفعل ذلك.

أسبوعان من الدهشة والثمالة وخلط الصور في شفاه نادلة ورسامة وممثلة طنجاوية تسكن في روما من عشرة اعوام ولاتحمل اوراقا رسمية ، ومعا استذكرنا بهجة ما ضاع منا في الأندلس ، ومعا بكينا ، فظنت قريتنا وهي تسمع نحيبي الثمل في ليل الوسادة الستن أني ابكيَّ من اجل جامعنا الذي طار في مهب الريح ، ولكنه عاد في اليوم الثاني ونقوش البساط السومرية تزين أرضه ، وقتها ارغمني ابي وانا في الخامسة من عمري أن اتعلم الصلاة ، كي تزداد اعداد المؤمنين في القرية ، ولا تجرء الريح على قلعة مرة اخرى من قاع الماء وتذهب به بعيدا.

روما هي روما …

غدا اعود الى المدينة…

الى القرية الحالمة بعودة الماء ونشوة القصب وعودة البط الصيني.

سأعود ، وكانت معي أمنية لألتقط صورة مع صوفيا لورين ، وحين تمنيت على دليل سفرتنا أن يوصلني اليها قال : لقد هرمت وانزوت في مكان لا يعرفه أحد؟والآن بين المرة الأولى ، وهذه المرة ، سأكرر ذات العبارة : روما لن تعد روما.

انتهى

مشاركة