كورونا والتأريخ وإيطاليا المسكينة (1) – نعيم عبد مهلهل
حكايات أولى تحكيها (الزمان) عن وباء غريب ضرب بلاد يوليوس قيصر والبرتو مورافيا
1- المعدل وراثيا يغزو ايطاليا
عن الحياة ، ما قبل ، وما بعد ، وما فوق ، وما تحت .
يقول الشاعر : سأعود الى نبض الازل في القصيدة ، واعيد كتابة الغزل ليستمر العشق من اجمل حوافز ولادة القصيدة.
ويقول الفيلسوف وقد سكنه الغيظ والتمرد : سأبحث عن لحية سقراط وانتفها . فيما يمتنع الروائي عن اجابة ، وعندما يخبروه أن عليه أن يجيب طوعا أو قسرا .يقول لهم : أنا انتظر لسان الضحية ليتحدث عن ما يفيدني لأكتب . وكل منا سيكتب عبر ما تؤثر به لحظات الفزع تلك ، ذلك أن الكتابة عن مابعد لن يحتاج الى الماضي ليجعله خيطا يوصله بالحاضر . فما بعد حماس الأرخنة فيه قليل ، والتأثر بفلان وعلان من كتبة العصر البائد من جائحة الفايروس لم يعد حافزا لتنشئ رواية ، والقليل منهم من يريد ان يصبح كالفينو اخر حتى من دون ان يقصد عندما تدمع عيناه عند مشاهد المحنة الايطالية التي لم يَعُدْ ينقذها ليلة السرير في حكايات مورافيا ،ولا عسل الشهوة وهو يقطر من شفتي مونيكا بروشلي ، ولا ذكريات النهد المغري لصوفيا لورين في أفلام الابيض والاسود.
بدمعه المخضر كبكتريا طحالب بحرية سيتخيل مدنا ناجية من الوباء ، مدن لم يتخيلها إيطاليو كالفينو ، بالرغم من الاحساس الجديد لقرا كتابه ينبئه انه تخيل مدنه ليأوي اليها هروبا من تلك المحنة وفايروسها ، لكن السارد لما بعد سيمنح عتمة ازلية للمدن التي يتخيلها الآن ، مدن نحتت على اسوارها بوابات قاتمة من نحاس اسود يرينا تصاميم لولبية للمرات مشافي وقاعات عزل صحي ، ومرضى يحملون ملامح فراشات تكاد ان تتحجر ولا تميز بين الذكر والانثى ، والطفل فقط يبدو من ثمرة كمثرى بلون وردي لم تزل فيه شمعة تضيئ بعسر كمن يقاوم ابقا ضوئه وشهيته داخل روحه وجسده .
مشافي بنيت من بقايا كتب المكتبات العامة ومكتبات البيوت ، عندما لم تعد الحاجة الى الحجر ، فلقد اخذوه كله ليبنوا به مدافن الذاهبين بفرح الى طقوس الرحيل الجديد بعد ان اوصلتهم القناعة ، ان الحياة ، قدرها المقنع ينبغي ان يكون هذا ، وعندما يتمرد احدهم ويقول ، ثمة ما يجعلنا نحلم بما كان ، تتركه الايدي بدون تصفيق وتصفع ظله مرتعشة من اليأس فيختفي ، ولكنه يترك صوته ، أنه سيعود ثانية.
مهمة الروائي هنا أن يذهب ليقتفي أثر من ترك صوته ، أنه يذكرنا بعاطفة الأنبياء عندما يولد معهم شيء ليقلوه . وإذا لم يكن هذا الظل نبيا سنظنه قديسا من قلق الفاتيكان على رعاه ، أو صوفيا من أهل بغداد ، لايعرف ماذا يفعل حتى ينجي احباب فؤاده .
وحدهم الروائيون يعرفون جهة هذا الصوت ، ولكنه لن يبحثوا عن بطريقة استخبارية ويرتدون معاطف مخبري الشرطة الأسوانية ، ومثل خفافيش معدلة وراثيا يكتبون عن محطات وشقق ومقاهي يرتادها هذا الظل ويسجلون خطاباته وموسيقى تصفيق يديه .
ومثلهم يرتدي الروائي لحظة التفكير ، فمرات عندما تبحث عن سرد قد يصبح شمعة أمل في عتمة تلك المشافي لا ضير أن ترتدي معطف مخبر أو مايوه سباحة لتكتب رواية.
2 (الفايروس النازي )
في اول الرؤيا وآخر شهقة على تسارع اعداد ضحايا الوباء واغلبهم من اصحاب الرواتب التقاعدية وعجزة دور ارذل العمر ، ابتدأت مقدمة السرد بإيطاليا المسكينة ، عندما شعرت أن الفايروس اوغل فيها مثل قساوة البرابرة يوم كانوا يحلمون ان ينالوا من روما وهزيمتها في حروبهم معها .
ومع هذه المحنة سكنتني القناعة المطلقة أننا ينبغي ان نحول جبروت قيصر وسيوف فيالقه المقاتلة الى مختبرات ، فعدة الحرب سيفا كانت ام صاروخا عابرا للقارات لم تعد تنفع مع هذا الكائن المغطى برقائق هلامية شفافة ولكنها تخترق جدران رئات البشر وتقتلهم بظرف ايام معدودة.
شعرت بأن ايطاليا المسكينة تبعثرت عند محطات ذكرياتنا في اماني السفر اليها ، وتلك الاماني هي اماني الفقراء وحدهم ، وتمنيت أن اجد وصفة طبية مؤسطرة مثل التي رسمها صديقي الفنان البصري هاشم تايه وعالج محنة المرض فيها لتلك الالوف المؤلفة التي ملئت مشافي مدن الشمال الايطالي ، لأشعر بأن الفايروس تحول الى مطرقة تكسر كل قناني عطور محلات ميلانو الاسطورة وتمزق ازيائها وموضتها التي لم يعد احد يتحدث عنها .
ويقال ان الفايروس بدأ يسأل عن شرفة الغرام التي شهدت الهمس السري بين روميو وجوليت حتى يهدمها ، ليثبت للعالم ان الكورونا هي اليمين المتطرف بين كل الفايروس ، وغدا سنطلق عليه لقب الفايروس النازي.
أتذكر هذا وأجمع اصداء قيثارات ذلك الليل الشكسبيري واقارنه بعزف عود للموسيقار منير بشير وهو يطرب صبا احلامنا بأندلس وليلة في أور وأشياء أخرى ترتدي قماص حقول ريف السديناوية حيث قريتنا السومرية وطفولتنا الفلاحية وهواجس اخرى تكسر دهشتها صورة اعلان في صحيفة ايطالية فيه عرض غريب مقدم من فاتنات السينما الايطالية :
مونيكا بيلوتشي (1964 -) كلوديا كاردينالي (1938 -) صوفيا لورين (1934 -) أورنيلا موتي (1955 – ) سيمونيتا ستيفانيلي (1954 -) جلوريا جويدا (1955 -) جينا لولو بريجيدا (1927 -)
يقول : انهن عجائز وشابات ولكنهن الآن على استعداد وبرغبة جامحة وليست جائحة ليمارسن الغرام مع الفايروس ، ولكل واحدة معه ليلة حمراء شرط ان يغادر الفايروس ايطاليا مع اخر كتعة غرام له معهن.
مع هذه الاعلان ارسلت حسناوات ايطاليا من كل مدنها رغبتهم ان يكن من موقعات هذا العرض ، فردت عليهن الصحيفة الايطالية بمانشيت عريض في اول صفحاتها يقول : لا نريد ، يكفي ايطاليا أن تذل جمالها بهذه الطريقة.
3- ثقب الصريفة
عندما تحدثت عن لحظة التربص لهذا الفايروس المعتوه ورغبته في تهشيم نافذة روميو وجوليت في حي سكني في مدينة فيرونا الايطالية .كنت اتخيل مقدار الحزن ، الذي سيعود ثانية يكرر خيبة النهايات الغرامية لحكايات العشق عند كل الشعوب ، واقصد تلك الحكايات التي تؤسطرها اقلام الكتاب او ألسن الناس ، فأغلبها تنتهي بفاجعة ، فأما يموت العاشق او تموت العشيق وفي افضل الاحوال العاشقة تتزوج انسانا غير عشيقها. والسبب دائما حقد اب العشيقة على العشاق ، فيما تكون الأم محبة لعشيق ابنتها.
اتذكر عندما كنا في الاهوار ، طلبنا من مديرية التربية نقل معلم جانح من مدرستنا لأنه يمارس شذوذ غريب من خلال عينيه ، فقد راقبه احد المعلمين وهو يعمل ثقبا جدار غرف الصف والمصنوع من القصب ويراقب منه مشية بنات المعدان وهن يعطين لناضرهن ظهورهن لحظة الذهاب مع جواميسهن الى مناطق قيلولتهن في مياه الهور ، هو يتلذذ بالمشهد بالرغم انه لايرضى سوى قامات حافية وتحزمت بعباءتها من جهة الخاصرة وتمشي بفطرتها ويطلقن المزاح والغناء والقهقهات والعتب فيما بينهن ولا يعرفن ان متلصص كالسارق يترك الدرس وتلامذته وينشغل بمراقبة البنات ولا يشاهد في ملامحهن شيء ، وبالرغم من هذا كان يتصبب عرقا.
اتذكر هذا الشذوذ ، واقارنه بشذوذ الفايروس النازي وهو يتربص للحظة الغرام التي كانت طقوسها الليلية تبدأ بعد ان يهجع كل اهل البيت ، فيهمس لها ويعزف اناشيد مودتها لفرحها الرومانسي بحماس عاشقها ، وحين يبدأ الطقس الغرامي يحرك الفايروس نسمة ريح ملوثة ويحعلها عطرا من Venezia 1920 هي مجموعة من أربع عطور من تصميم الأنف العطرية الإيطالي Luca Gritti وهي مستوحاة من أربعة مناطق مختلفة في المدينة العائمة Lido, Divine, Oud Royale و Grey Velvet.
كان خداعا ان يعوم العطر في رئتي العاشقين وهما يشعران بنشوة ولكنه في الحقيقة كان عدوى حملت فايروس الكورونا ونازيته الى اجمل صدرين للحظات الغرام المقدس منذ قيصر وكليوباترا ومرورا بعنتر وعبلة وقيس وليلى وانتهاء بأجمل ادوار الحب التي قدمتها هند رستم على شاشة السينما المصرية.
الآن وقد تم عزل العاشقين ، وحتما واحد سيتعافى والاخر سيموت ، وفي المحصلة ان الثاني سيموت لان روميو لا يمكن ان يعيش بدون جولييت ، وجولييت لا يمكن ان تعيش بدون روميو.
بين الجنوح والجموح هاجس واحد يصنع قلق الكتابة والتفكير الذي يسكنك وانت تتبع مشاعر البشر مع يوم تعتاش فيه القنوات التلفازية على احصار عدد ضحايا والوباء وافرح ان القرى التي تعيش عند سعادة عودة المياه اليها في اهوار ميزوبوتاميا لم تسجل اي اصابة بالرغم من انها كانت موطنا للملاريا والاسهال الدائم بسبب تلوث المياه واشياء اخرى اتذكر فيها ان نا عندما كنا معلمين اتت مفرزة علمية من منظمة الصحة العالمية واجرت فحصا ومسحا لعشرة قرى في اهوار الجبايش ،وفي قريتنا كان معهم طبيبا من اهل مانشستر وسأل إن كان احدنا يحسن الانكليزية ، فأجبته :نعم انا احسنها ولكن ليس كما تنطقها اجاثا كريستي .
ضحك وقال لدي سؤال : كيف يعيش الناس هنا ؟
قلت : انهم يعيشون هكذا منذ سبعة الاف عام واعمارهم قد تصل التسعين.
ابتسم وقال : هذا يعني ان الله موجود هنا.
4- معدان ايطاليو كالفينو
لم أغادر بعد منصة إيطاليا وأنا احاول ان اكتب عن تأثير مرثية الفايروس في ارواحنا ، وقد امتلكت قدرتها العجيبة على جعل الاحساس بها اقرب الى تدوين طقوس من الخوف والقلق ، لهذا الجائحة تجلب الآن ذكرياتها بثوبه الايطالي، عندما كان جنود روما يحتلون مدينتي الناصرية ، وبعد عامين غادروها بخسائر كثيرة . ولكنها اقل بكثير من خسائرها عندما احتل فايروس كورونا ايطاليا ، ومازال حتى كتابة هذه الحكاية يوغل قتلا واختناقا في الناس الذين ينتظرون مواسم صيف قطف ثمار العنب من حقول الشمال الايطالي.
أجلس في لحظة المقارنة ، ولا اريد ان اجعل تلك الجائحة منتقما من الجندي الايطالي الذي كان مع دورية قتالية في شوارع الناصرية والذي حين شعر بألم في بطنه جراء تناوله لحم خنزير معلب ومنتهي الصلاحية اراد ان يستخدم التواليت فأقتحم بيتا في شارعنا ضربه بقدمه وسأل سيدة عجوز تجلس في باحة البيت وبلغة ايطالية عالية النبرة : اين التـــواليت .؟
فأستهجنت السيدة ذات الثمانين عاما نبرته وطريقة دخوله ، وبصقت عليه .
فرد عليها : لايهم ايتها العجوز ، ابصقي ولكن اين التواليت .
ابنها الشاب خرج مسرعا وعرف ما يريد فأشر له على جهة التواليت . ولكن الجندي الايطالي وقتها قد عملها على نفسه .
عند تلك الحادثة وحادثة اخرى استعيدها الآن ابحث عن مقارن بين الامس واليوم في اخر ذكرى حزن لي عن ايطاليا المسكينة ، وأتساءل :إن غادرت الكورونا ايطاليا بعد حين هل تتذكر مجد روما الذي لم يذله الفرس ولا البرابرة ، ولكن فايروس لا يمكن مشاهدته إلا في احدث المجاهر قد اذل امبراطورية الفيراري وفريق يوفنتوس واختراعات دافنشي ومونليزاه الجميلة ، وجعلها على لسان رئيس وزراء حكومتها ينطق عبارة : لقد خرج الامر من السيطرة ، والامر يعود الآن الى رحمة السماء.
الآن بين الكورونا وهذه القصة ، حكاية الدرس الذي سيمضي يسجل هاجس الذكرى عبر دمعة ايطاليا المسكينة من خلال الديناميت والفايروس.
في 13 تشرين الثاني عام 2003 وفي الساعة الحادية عشر صباحا اقتحمت شاحنة كبيرة مليئة بالمتفجرات مقر القيادة الايطالية في مدينة الناصرية التي اتخذت من بناية غرفة تجارة ذي قار مقرا لها وتقع على نهر الفرات. تماما امام المتحف التاريخي للمدينة الذي يقابلها في الضفة الاخرى وفجرت كامل المبنى.
وذهب نتاج التفجير الهائل هذا ضحايا كثر من جنود القوة داخل المبنى واناس من اهل المدينة دفعهم حظهم العاثر ليتواجدوا في سيارات اجرة (مستهلكة – أغلبها سيارات من طراز فولكا موديل 1975) مارين امام المكان وقت التفجير.
ولأول مرة في تاريخ المكان السومري أن اختلط دم ابناءه بدم ابناء محتليه ليكونا ضحية لعمل ارهابي.
وفي تلك المفارقة علقت صحيفة ايطالية تقول: لأننا محتلين ندفع الثمن .لكن ما ذنب اولئك الذين ليس لهم ذنب..
عبارة (ما ذنب أولئك الذين ليس لهم ذنب) جملة التباسيه فيها الكثير من غموض الدراما. فدفع الثمن المشترك هو الضريبة التي تدفعها الشعوب ازاء قدرها الذي اختارته الالهة لها لتعيش فتنة تقبل الاسياد القادمين من وراء حدودها كما اصناف الفواكه والخضر ولكن (الفاسدة) بسبب سوء الشحن.
كان ذلك اليوم اسودا وفنتازيا، وارعبتني فيه عبارة جندي ايطالي جريح نقلها لي مترجم قال: آه انه جنوب نحس!..
لا ادري لماذا اختار هذا (المحرر) هذه العبارة ولم يقل: مكان نحس، مدينة نحسة. ظهيرة نحسة. لماذا اختار الجهة…؟
حسب علمي وانا الذي افنيت ثلاث ارباع كتبي ابحث في ذاكرة الجنوب، إن الجنوب لم يكن نحساً في يوم ما.. لقد كان جنوبا ناعما ورومانسيا ومسكينا وفقيرا وثوريا وحسينياً وماركسياً ولهذا لم يكن جنوبا نحسا، واذا كان هكذا فأن نحاسته تكمن في عدم تقبله ان يكون ساحة صراع بين المحتل وكارهيه.
وبعيدا عن تلك المعضلة وتفاسيرها (بل هروبا) بقيت احمل عبارة الجريح الطلياني واضعها امام اسئلة التفسير لأناس اعرفهم.
اناس مثقفون وبسطاء وشيوخ حكمتهم في فطرتهم ومهارة العيش زمنا عتيا. فكانت الاجوبة تمسك التصور العام وينعكس عليها اثار 35 عاما من الحكم الحزبي والرجل الواحد (انا بالمناسبة) جزعت من مناقشة ما كان. فما كان اندثر وذهب وعلينا ان نوسع الرؤى للحاضر بتحضر. وهذا لم يحصل بعد.
ولم اجد الجواب الشافي..
فِي ذات اليوم جالست رجلا مسنا في المقهى ويبدو انه من مهاجري محنة العطش والتجفيف ولكن في قرية غير قريتنا ، فهو من جهة ناحية الفهود ونحن من جهة قضاء الجبايش ، ككان الحديث عن الجنوب ومحنة مع العطش…اقصد الجنوب الاهواري ، جنوب القصب… فسألت الشيخ ان كان العطش بعضا من نحس الزمان على المكان .. فكان رده: ان المعيدي عندما تعانده جاموسته في الخروج من بركة قيلولتها والذهاب معه الى بيته لحلبها .لا يعد هذا نحسا منها، أنما بطولة. وعندما ذكرت له عبارة الجندي الطلياني: قال هذا حتما جنوبي وإلا كيف ينطقها بهذا الموقف واللحظة دون ان يدرك انه اصلا ينتمي الى جنوب نحس.
في هذه اللحظة تذكرت قصة لكاتب ايطالي اسمه إيطاليو كالفينو الذي اكاد احفظ كتابه الساحر مدن لا مرئية عن ظهر قلب. عبارة لاحد شخوص قصصه تقول المرأة لعشيقها : لقد جئتك من الجنوب النحس. فجردني من كل ملابسي لا تخلص منه.
بين جاموسة المعيدي والعاشقة الجنوبية الطليانية في قصة كالفينو مسافة بين اختلاف الامكنة .لان جنوبنا لم يجرد ملابسه إلا بقدرية الاجبار عندما يأتي الغازي والمحتل ولكنه يبقي شيئا من الستر عليه. وفي هذا الباقي يقاوم ويصنع الامل والاغنية والحلم.ادركت في كلام الشيخ : ان المعدان يدركون في المكان وقسوته مساحة الامل. وهم يتفاءلون ما دام ضرع الجاموسة ممتلئاً، وليس هناك نحس في حياتهم مادامت الشذرة الزرقاء معلقة على مقدمة فروة شعر اطفالهم.. يبعدون فيها عطش السماء وعناد الجواميس ولدغ البعوض والأقدام الغريبة.لهذا لم تكن الشاحنة الارهابية نتاج نحس جنوبي عراقي، فربما هي نتاج النحس الطلياني الذي جاء ببدلته المرقطة ليحررنا من قدرية البؤس وليس قدرية النحس. الفرق بين البؤس والنحس. ان البؤس يمكن ان تزيله بضحكة وقرص رغيف. ولكن النحس اذا لازمك لن يغادر مع اطنانا من السعادات والخبز والسمفونيات.
وحين عدت الى بيتنا وأثناء المسامرة مع اخي واستعادة الذكريات أكتشفتُ أن ماركو بولو الى قريتنا في رحلة استشراق ومغامرة ولم أكن انا موجود فيها ، وجد بيتين فقط هما بقايا الصراع مع العطش وموت القصب وغياب الطيور والسمك .
كان ذلك قبل الوباء بسبعة عشر عام ، ولأن اتشفى واقول بعد عشر عام من الآن اتمنى ان تزول ايطاليا من الوجود ، ذلك لأن روما تظل روما.
5- البصل في خان الحاج رضا كاظم حمادي
غادرت الارض الايطالية المسكينة بقطار صنعته الصين وارسلته من مصانع ووهان الى ارض أور . بالرغم من ان اغلب القطارات المتحركة من محطة روما المركزية تصعد شاملا صوب مدن الالب والنمسا والمانيا ثم الأرض الإسكندنافية .
لقد اخبرتني الجرائد ان الوباء في الشمال البارد يتمدد بقوة وانتشار سريع ، أتصلت بعائلتي التي تعيش في مدينة فوبرتال الالمانية واخبرتهم بضرورة الاحتماء من الفايروس وعدم مغادرة المنزل ، وقلت لأم اولادي : في القبو خزنت الكثير من الطحين والرز والزيت والملح والسكر والشاي والبصل ، تقوتوا به لحين يفرجها الله .
قالت :هذه الاشياء كلها موجودة ، ولكننا تخلصنا من البصل ورميناه في حاوية النفايات .
وحين سألت عن السبب ؟
اخبرتني :انهم كلما ينزلون الى القبو تدمع عيونهم بحرقة قوية بسبب رائحة البصل . انهم يبكون بدون معنى .
قلت : لنسميه بكاء الكورونا .
قالت كلا : بكاء الكورونا حقيقي ، وهذا ليس سوى بكاء البصل ، فهو من دون مشاعر.
سألتها : هل سبق لك ان قرأتي قصة الكاتب الألماني غونتر غراس قبو البصل ؟
ضحكت وقالت :انت تعرف اني لا اقرأ القصص بالرغم من انني زوجة رجل يكتب القصص . انا اكتب يوميات المطبخ ، ومراجعة الفروض المدرسية مع الاولاد وهمس الليل ، وهذا القلق الذي يسكننا من الوباء . انت بعيد عن البيت ، وفي شارعنا تمر سيارات الاسعاف لأكثر من عشر مرات في اليوم فيرتعب قلبي مع صفاراتها المزعجة ، ولو كنت هنا لما ارتعب قلبي ابدا.
اخبرتها اني غادرت ايطاليا مرتعبا ايضا وقد اتيت اليها سائحا فتفاجئت بظهور الجائحة الصينية فيها . واني قررت ان اهرب في عودة سريعة الى اور استعيد فيها ثبات نفسي من سفرة مرعبة تخيلت فيها انني سأحصل على قبلة من خدود ممثلات سينما طفولتي وصباي ، واني سأسمع عزف الغرام من تحت شرفة روميو وجوليت ، وأني سأفطر كل يوم بالبيتزا الايطالية الشهيرة واتعشى بطبق مالح من اجبان صقيلة . لكن حصلت مجزرة سكينها الفايروس والصعود الى الشمال الاوربي صعب فهو موبوء ايضا ، لهذا ستكون اور ملاذي المؤقت.
احسست بدمعة زوجتي تعزف لحنا الخوف والقلق ، وقالت :اذا ستتركنا مع مؤنة قبو البصل؟
قلت :وبه ستعيشون الى حين يفرجها الله واعود اليكم.
في عربة القطار وقد ارتدى الجميع الكمامات ، وقرأ الجميع تحذيرا ظهر على الشاشة الالكترونية أن لا يتبادل المسافرين الكلام حتى لو كلمة صباح الخير ، وعلى الجميع ان يلتزموا الصمت ولا يتبادلون الكلام سوى بنظراتهم .المسافرون قليلون في القطار ، والعربة التي اجلس فيها لا يجلس سوى ثلاثة مسافرين ، انا في مقدمة العربة ، وشاب جميل في وسطها ، وشابة بعيون زرق وملامح حلوة تجلس في نهاية العربة .
اطلقت ابتسامتي لتحيتهما بالإيماءة ، فابتسما ثم ركنت الى الصمت ، اما الشاب والشابة فلقد استمرا بتبادل الابتسامات التي تحولت الى إيماءات ثم اشارات ثم قبول بين الطرفين ان يذهبوا الى غرفة التواليت ليتبادلا القبل والغرام كسرا للحظر الذي دونته الشاشة الالكترونية في عربة القطار.تركتهما يخترقان الحظر بأجمل طريقة ، وهي ممارسة الغرام وقوفا . وعندما عادا ليجلس كل واحد في مكانه ، اكتشفت ان كمامة الفتاة قد تمزقت ، وان خدود الشاب كانت مصبوغة بلون احمر الشفاه .
وحين اتى قاطع التذاكر ونظر الى وجهيهما ، قالت لهما نظرته المبتسمة : اعرف انكما لم تصبرا وكسرتما الحظر. لا يهم فلربما الغرام بعض علاج هذا الوباء؟ضحكت وقلت : انا راجع الى اور ، وفيها الغرام القديم اجمل من متعة غرام غرفة التواليت ، وحتى اهي نفسي للوصول ، استعدت متعة الايام التي قرأت فيها قصة غونتر غراس قبو البصل واعدت تفاصيل طقوس المشاعر واغمضت اجفاني بمتعة التذكر لأعيش سحر تلك الطقوس: في نهاية ثمانينات القرن الماضي أصدرت دار المأمون للترجمة والنشر في بغداد كتابا قصصيا عنوانه ( قبو البصل ) واظن انه مترجما عن الالمانية التي قام بها المترجم سامي حسين الاحمدي وجميع قصص الكتاب هي لكتاب المان ، وحملت المجموعة عنوانا هو قبو البصل وهي اشهر قصص الكتاب للروائي الالماني غونتر غراس.
والقصة تتحدث في مختصرها عن اختفاء المشاعر عند الاوربيين بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية وتحولت الأحاسيس الى الشعور الرأسمالي الميكانيكي بسبب التطورات العلمية ودخول الالة في جميع مفاصل الحياة حتى فيما يهم مشاعر البشر لهذا قلت مشاعر الحزن في اعماقهم وكان من نتاج هذا شحة الدموع في مآقيهم. حيث افتتح احدهم مطعما في قبو يقدم فيه البصل لزبائنه مع ماعون وسكين ويقومون بتقشيره فتدمع عيونهم ويشعرون انهم يبكون . وحتما هذا البكاء ودموعه سيكون اصطناعيا.
لهذا فهي دموع كاذبة لا تشبه دموع القلب ، تلك التي نراها تضيء في عيون أمهاتنا مثل عقيق أبيض وهن يودعن حقائبنا المسافرة الى جبهات الشمال والجنوب في أزمنة الحرب الخاسرة .
وهكذا يبان الفرق ، حيث تظل عاطفة الأنسان الشرقي رقيقة وحساسة لموجودات الكون ومقتربة من فعل السماء أكثر من أي عاطفة أخرى ، فهي كنز لدموع جميلة تلك التي بنى عليها الشعر أجمل هواجسه ، وقامت قيامة النواح والتعازي والمراثي ، وأشهرها تلك التي نحبت مع نحيب الحسين ع في طف كربلاء ، ولولا الدموع لما أستطاع الأنسان أن يكتشف المفردة ، أذ يقال أن الكلمة ولدت بدمعة حزن ربما هي ذاتها التي أطلقها أبونا آدم ع يوم رأى المعصية الأولى التي صنعها بعله حواء ، وبها أستطاع الأنسان أن ينقل مشاعره وبصدق وأن يدون مايريد أن يتحدث به قلبه ، لذا فالشرق هو بيت الحس الأول والمدرك الذي يقف عنده الأنبياء كي يصلوا مع دموعهم الى الله ، ويتذكر الناس دمعة أيوب ع عندما وصل به الصبر الى آخر مدارج الألم ، فنادم ربه بدمعة وقال : ألهي شكوتك بدمعي لا بلساني . فأستجاب الله الى دموعه وشفاه من مرضه.
يتبع