مرور قرن على رحيل الأديب 2
كورولينكو.. ضمير روسيا وصوت المعذّبين – عبد الجبار ناصر
تزامن النضال من أجل انتصار الواقعية الغوغولية، مع تزايد حدة النضال الثوري الديمقراطي ضد الحكم المطلق والنظام الإقطاعي. تكمن الأهمية الاجتماعية والسياسية الكبيرة لواقعية غوغول في عرضها المفزع للحقائق الاجتماعية المرة في ذلك العصر كونها مرآة عكست الحياة القاسية. كان لغوغول في بداية القرن تأثير كبير على العديد من الكتاب الكبار في تلك الفترة، وعلى الرغم من ظهور أعمال روائية روسية عظيمة، إلا أن روسيا في القرن التاسع عشر كان لها أيضا شعراء وكتاب مسرح مميزون.
كان واضحا أنه على الرغم من هزيمة الثوار في عام 1848? إلا أن روسيا شهدت في منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر طفرة جديدة في الأفكار الديمقراطية في روسيا. إن التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبلاد قد برز بشكل واضح في مسألة إلغاء القنانة والاضطرابات العامة التي أجبرت الحكومة آنذاك على منح حرية رأي أوسع إلى حد ما
أما في منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، فقد شهدت روسيا طفرة جديدة في الأفكار الديمقراطية في روسيا في ظروف أكثر تقدما من الناحية السياسية والاجتماعية من تلك التي خاض فيها بيلينسكي معركته الأيديولوجية. أصبح النقد الأدبي موجها الآن ليس فقط نحو استبداد الحكم الفردي ورد فعل الإقطاع الذي يعتبره بيلينسكي العدو الرئيس، بل أيضا تجاه البورجوازية الليبرالية والتمثيل الإيديولوجي. ولم يعد الكتّاب الروس يعتمدون على فلسفة هيغل بل على المادية المتشددة التي كان يمثلها لودفيغ أندرياس فويرباخ، الفيلسوف الألماني (1804 – 1872) الذي كان في البداية تلميذاً لهيغل ثم أصبح من أبرز معارضيه.
هذه الفترة من الحركة الواقعية في القرن التاسع عشر في روسيا تعتبر غالباً “العصر الذهبي” في الأدب الروسي. هذه الحركة الواقعية في الأدب والفن هي نفسها التي بدأت الموجة الثورية وحملتها إلى الأمام.
تتساءل الكاتبة والصحفية فرانسين بروس في مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز: “ما الذي يجعل الأدب الروسي في القرن التاسع عشر مميزا؟ ولماذا لا نزال نقرأ تلك الأعمال الخالدة بمثل هذه المتعة والسرور؟ هل السبب ما تضمنته من القوة، والصراحة، والصدق، والدقة التي صوروا بها الجوانب الأساسية للتجربة الإنسانية؟
تجيب بروس: (إن الأدباء الروس الكبار عُرفوا باتساع نطاق أعمالهم وعمقها، ونجاحهم في جعل الفرد عالمياً، والحقيقة أنهم على الرغم من كونهم يسكنون البلد نفسه والقرن نفسه، فإن كل واحد منهم يختلف عن الآخرين. أستطيع أن أشيد بقدرتهم على إقناعنا بأن هناك شيء من هذا القبيل كطبيعة بشرية، وأن شيئا ما عن القلب البشري والروح يتخطى الفروق السطحية للقومية والطبقة الاجتماعية والزمن. أستطيع أن أذكر تصورات غوغول الغريبة، التي يمكن أن تجعل الحدث أكثر احتمالية – رجل يستيقظ ليكتشف أن أنفه قد اختفى – يبدو ليس فقط مقبولا ولكنه أيضا مقنع. الطريقة التي يبدو فيها أناس دوستويفسكي حقيقيين بالنسبة إلينا، أحياء ومثاليين تماماً، يسردون أمام غريب في حانة قصص حياتهم بطول استثنائي وتفاصيل مروعة. رقة تشيخوف الحزينة، مهارته الخارقة في الكشف عن أعمق مشاعر الرجال والنساء والأطفال الذين يملؤون مسرحياته وقصصه القصيرة. الطموح والبصيرة التي تشبع لحظات تولستوي الصغيرة والقطع الملحمية (سباق الخيول الكارثي، معركة بورودينو). الرقة التي يصور بها تورجنيف المناظر الطبيعية وشخصياته المرسومة بدقة لكنها في نهاية المطاف غامضة.)
تضيف فرانسين بروس: “لو أن شخصا ما سألني: من أين أبدأ؟ سأنصحه أن يبدأ بـ “المعطف” لغوغول، أو “الحب الأول” لتورجينيف، أو “الراهب الأسود” لتشيخوف، أو “الحارس رقم 6” أو “المبارزة”، أو “القس، أو رائعة دوستويفسكي “الأخوة كارمازوف”. أقول له أود أن تقرأ “آنا كارنينا” لتولستوي، التي هي روايتي المفضلة. أود أن أول له: اقرأها جميعا، وعندما تصل إلى الجملة الأخيرة من آخر كتاب على الرف، ابدأ من جديد قراءة تلك الكتب مرة أخرى”.
تألق الأدب الروسي في القرن التاسع عشر بشكل مدهش، لكن النصف الثاني من ذلك القرن شهد ولادة أعمال أدبية راقية خالدة. هذه الفترة من الحركة الواقعية في القرن التاسع عشر في روسيا تعتبر غالباً “العصر الذهبي” في الأدب الروسي. هذه الحركة الواقعية في الأدب والفن هي نفسها التي بدأت الموجة الثورية وحملتها إلى الأمام.
يقول دوستويفسكي: ” لدينا سمة واحدة مختلفة على نطاق واسع عن أي شيء في أوروبا – قدرة عالية على التوليف، موهبة لتحقيق مصالحة عالمية، ومحبة كل البشر. لا يوجد شيء فينا من زوايا حادة وعدم الصلابة كالتي عند الأوروبيين. شخصيتنا تستوعب بسهولة الجميع، تتكيف مع كل نوع من الحياة، تتعاطف مع كل ما في الإنسان، دون أي تمييز بسبب القومية أو الدم أو التربة، تكتشف وتقر على الفور أن كل شيء معقول ما دام يحتوي حتى ولو على حبة من مصلحة جميع البشر. وفي الوقت نفسه، قد تلاحظ في الروسي قدرة غير محدودة على النقد الذاتي السليم، وأشد الحكم على نفسه، وغياب كامل لتأكيد الذات الذي يضر أحيانًا بحرية الفعل.”
الناقد الأمريكي تشارلز أ. موزر (1935-2006) يرى أن “كتّاب مرحلة 1880- 1895 قد بدأوا قبلاً البحث عن أساليب جديدة للتعبير. وخلال هذه الفترة تجنب كثيرو منهم الأشكال السردية الطويلة التي سادت في الأدب في العقود السابقة، واعتمدوا بدلاً من ذلك أشكالاً أصغر مثل الاسكتش والقصة القصيرة والحكاية الخرافية. لم يسع كثيرون من الكتاب في أعمالهم إلى تصوير مشاهد معاصرة بروحية واقعية القرن التاسع عشر فقط، بل بدأوا أيضاً بالتركيز على الطبيعة واستخدام التقنيات السردية المجازية بكثافة أكثر من ذي قبل، جزئياً من أجل تحاشي قيود الرقابة، وأيضاً من أجل الإيحاء بانطباعات مبهمة تكتنف نفوسهم. وسيصبح هذا التحول باتجاه التعبير المجازي والضمني في نهاية المطاف نهجاً فنياً سائداً عند أواخر التسعينيات من القرن التاسع عشر”.
الأعمال الأدبية التي ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر من مسرحيات وروايات ودواوين شعر ومجاميع قصصية، أنهت مرحلة الرومانسية في الأدب الروسي، وبدأ الكتّاب الواقعيون يتناولون الأحوال الاجتماعية بنثر مبسط. وفي الفترة التي بدأ فلاديمير كورولينكو انتاجه الأدبي، كان الكتّاب يتناولون “موضوعات كثيرة، تتسم باليأس والمرارة، نتيجة قسوة الحكم القيصري في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر. أصبحت القصص والمسرحيات تُمثِّل الأشكال الأدبية للواقعية المتأخرة.
لو تأملنا القائمة التي وضعها “إيفان بونين” (أول أديب روسي يفوز بجائزة نوبل وذلك عام 1933) لأفضل قصص قصيرة صدرت في تاريخ الأدب الروسي، نجد أن قصص فلاديمير كورولينكو، موضوع كتابنا هذا، قد جاءت بعد قصص غوغول وتشيخوف وتولستوي، وهذه الأسماء الأولى في قائمة بونين:
الأنف.. غوغول
المعطف… غوغول
ملكة البستوني… بوشكين
الرهان… أنطون تشيخوف
الرب يرى الحقيقة لكنه ينتظر… تولستوي
موت إيفان إيلتش… تولستوي
السيدة والكلب… تشيخوف
الإشارة… غارشين
ثلاثة أسئلة… تولستوي
سيد من سان فرانسيسكو.. بونين
طبيب المقاطعة… تورجنيف
الليالي البيضاء… دوستويفسكي
الأشكال، فنطازيا… فلاديمير كورولينكو.
كتبت ماريان فيل (1886-1935)? المعروفة بترجمة العديد من روائع تشيخوف وكورولينكو إلى الإنجليزية، في مقدمة ترجمتها لقصص كورولينكو، تقول:
“كتابات فلاديمير كورولينكو تشبه نسيما منعشا يخترق أجواء مستشفى مشبعة بهواء ثقيل. والمستشفى، هنا، يمثل الأدب الروسي المتشائم، أما النسيم المنعش فهو صوت أطفال “الأم روسيا” الطيبين. هؤلاء هم الفلاحون، القرويون، الرواد، والمنفيون في سيبيريا، وغالبا ما ينتمون إلى الطبقة العريضة، طبقة “المهانين والمجروحين”، الذين يعانون من صعوبات وشدائد لا توصف، ومع ذلك رؤوسهم مرفوعة وقلوبهم طافحة بالشجاعة والرغبة في العدالة. بين هؤلاء، أمضى الكاتب الكبير شبابه.
عندما أعلن كورولينكو، وهو من واحد من أكثر الكتّاب موهبة ونقاء في تاريخ روسيا، أن موطنه الأصلي ليس الإمبراطورية الروسية، بل الأدب الروسي، أيده المثقفون لأن الأدب الذي ينتمي إليه هو أدب القرن الثامن عشر. لقد خُصص معظم الدراسات الأدبية الرصينة عن كورولينكو لتتبع جذور أعماله في الأغاني الشعبية والفلكلور الروسي والأساطير السيبيرية الشفاهية وكتابات الرهبان السلافيين في العصور الوسطى، وليس في الأدب المتأثر بالغرب الذي شاع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. موطن أدب كورولينكو هو القرن التاسع عشر الذي ابتدأ بـ “رسلان ولودميلا” التي كتبها بوشكين في 1820? وانتهى عام 1921 مع رحيل الشاعر ألكسندر بلوك.
ولد فلاديمير كورولينكو في السابع والعشرين من يوليو (تموز) 1852 في مدينة زيتومير بأوكرانيا. كان، من جهة أبيه، ينحدر من عائلة قوزاقية عريقة، ومن جهة أمه ينتسب إلى طبقة النبلاء البولنديين. هذا الأصل المزدوج، إذا جاز التعبير، يظهر جليا في أعمال الكاتب المتخمة بالحزن وأحلام روسيا وكذلك الأمل الماكد الشائع بين البولنديين.
كان أبوه قاضيا عُرف بالنزاهة والأمانة، ورجلا ذا مبادئ راسخة. عوّد أبناءه على مواجهة الشدائد ومختلف الظروف، فكان يجبرهم على الغطس في ماء بارد، والركض مسافات طويلة في الصباح
الباكر على الرغم من تساقط الثلوج. يتذكر كورولينكو تلك التربية الشبيهة بتربية الأسبارطيين، ولولا تلك التمارين لهلك كورولينكو في وحشية براري سيبيريا وقساوة جليدها حيث أمضى عدة سنوات منفيا.
عند وفاة الأب، تُركت الأسرة بأبنائها الستة من دون مورد يعيشون عليه. كانت الأم في منتهى العزم، ففتحت صفا دراسيا لأولاد الحي مقابل نقود قليلة، وساعدها فلاديمير، وكان في سن الخامسة عشرة، بإعطاء دروس خارج المنزل. وبعد أن أنهى دراسته في مدينته الصغيرة عام 1870? التحق كورولينكو بالمعهد التقني في سانت بطرسبرغ حيث أمضى سنتين في فقر مدقع، فأمه التي كانت تصارع من أجل توفير لقمة لصغارها، لم تستطع مساعدته. كان مورده الوحيد هناك ثمن ما يقوم به من استنساخ وتصحيح مسودات الكتب والمقالات. في سنوات الجوع تلك، كان يتناول وجبة حقيقية واحدة كل شهرين عندما يقصد مطعما رخيصا تديره جمعية خيرية، أما وجبته اليومية المعتادة فلم تزد على قطعة خبز وفنجان شاي وقليل من البطاطا.
كتب كورولينكو عن تلك الأيام المريرة: ” بدأت حياتي الجديدة في العاصمة مع سبعة عشر روبلا في جيبي. قضيت عامين في معركة ضارية ضد الفقر، في محاولة لم يكتب لها نجاح كبير، للتوفيق بين مهمتين؛ الحصول على التعليم وتوفير لقمة العيش. ما زلت حتى الآن لا أستطيع فهم كيف تمكنت من البقاء على قيد الحياة في السنة الأولى في بطرسبورغ من دون مساعدة تذكر. في السنة الثانية، عملت في تلوين أطالس نباتية للأطفال، وفي السنة الثالثة، وجدت وظيفة في تصحيح المسودات. تمكن العديد من أصدقائي في ذلك الوقت من الوصول إلى أكاديمية بتروفسكايا للزراعة والغابات في موسكو، أو بالأحرى بالقرب من موسكو، وكتبوا إليّ مشيرين عليّ بالانضمام إليهم”.
كان كورولينكو في السنة الثالثة في الأكاديمية (1876) عندما وقعت أحداث غيّرت حياة الكاتب تغييرا كبيرا، فبعد أن ثبت تعاون إدارة الأكاديمية مع شرطة موسكو السياسية، عمّ الاستياء صفوف الطلبة، وانبرى فلاديمير كورولينكو بتصدر المحتجين، فكتب احتجاجا باسمهم، وهذا ما اعتبرته الشرطة عمل شغب، وأبلغت القيصر ألكسندر الثاني به فقرر طرده من الأكاديمية وتم القبض عليه وإبعاده عن موسكو عقوبة له.
ظل طوال تسع سنوات سجينا سياسيا عرفته أقبية التعذيب في سجون موسكو، وبطرسبرغ، وكوستروما، وياكوتسك، وياقوتيا، ومدن أخرى. وعاش منفيا في قرى نائية في جليد سيبيريا. على الرغم من كل هذه المحن والشرطة القيصرية لم توجه لكورولينكو تهمة محددة بل زعمت أن له ميولا تخريبية!
المصادر
جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770 —1831) فيلسوف ألماني. يعتبر أهم مؤسسي المثالية الألمانية في الفلسفة. كان لفلسفته أثر عميق على معظم الفلسفات المعاصرة.
2 Nineteenth Century Russian Realism: https://survivingbaenglish.wordpress.com
3 المصدر السابق
4 Francine Prose and Benjamin Moser: What Makes the Russian Literature of the 19th Century So Distinctive? NEW York Times. 30/11/2014. https://www.nytimes.com/2014/11/30/books/review
5 لمصدر السابق
6 Perris, G. H.: Vladimir Korolenko. Temple Bar, January, 1906
7 تاريخ الأدب الروسي ص 391
8 https://www.ranker.com/list/best-russian-short-stories/nker-boks
9 MARIAN FELL: THE MURMURING FOREST AND OTHER STORIES. Kessinger Publishing, 2010. USA.
10 RUSSIAN LITERATURE THE GREAT CENTURY http://berlin.wolf.ox.ac.uk/published_works/singles/greatcentury
11Serge Persky & Fredereck Eisemann: Contemporary Russian novelists. 1968, New York. Books for libraries Press. P.78
12المصدر السابق
13 ALEXANDER KHRABROVITSKY: The Life of Vladimir Korolenko. Progress Publishers, Moscow 1978
14 المصدر السابق
15 المصدر السابق