كلام علي الماشي

كلام علي الماشي
يوميات مسجّلْ
حسن النواب
كنت في الصف الثالث الابتدائي عندما رأيت اول آلة تسجيل في حياتي تدخل الي منزلنا وقد حملها أبي رحمه الله بحرص مفرط كمن يحمل سلعة ثمينة يخشي عليه من الضرر، كانت آلة التسجيل بحجم كتاب وقد غطت نصف مساحتها بكرتان واحدة فارغة والثانية ممتلئة بشريط قهوائي لامع، جلسنا حول آلة التسجيل بهدوء نتأملها بدهشة بينما انشغل والدي بتوصيل سلك اسود مطاطي الي نقطة الكهرباء، ثم حرّك عتلة فضية الي نقرة صغيرة فدارت البكرة الممتلئة وصدح صوت ياس خضر في فضاء المنزل بأغنيته الشهيرة البنفسج، مكثنا جميعا نستمع الي الأغنية بسرور حتي انتهت، وفجأة طلب الوالد من ابنائه الثلاثة التهيؤ لتسجيل اصواتهم حتي يختبر آلة التسجيل التي اشتراها بخمسة عشر ديناراً، وتمكن اخي الأكبر من انشاد القصيدة التي حفظها بنجاح والتي مطلعها يقول : لاحت رؤوس الحراب تلمع فوق الروابي، واثار اعجاب والدي شقيقي الذي يصغرني حين قرأ المحفوظة الشهيرة يا بط يا بط اسبح بالشط، ولما وصل الدور لتسجيل صوتي تقدمت من المايكرفون وجسدي يرتعش خوفا مثل تلميذ يقف امام معلمه مذنبا، وحتي اتجاوز خوفي وتوتري صرخت بقوة هاتفا بعنوان المحفوظة: ام الحمام وافراخها الصغار .. الأمر الذي افزع اختي الصغيرة النائمة واستيقظت مرعوبة واطلقت عويلها في ارجاء البيت، مما اثار غضب والدي وصفعني بقسوة علي خدي وهو يطلق سيل الشتائم ويلعن الساعة الذي انجبتني امي الي الدنيا، بالطبع لم يسمح لي بتكملة انشاد المحفوظة، وكان والدي يعيد سماع اصوات ابنائه التي سجلها بين حين وآخر فينتابه الازعاج حين يسمع صوتي صارخا: ام الحمام وافراخها الصغار ثم يسمع صوت الصفعة التي طبعها علي خدي وسيل شتائمه التي اطلقها في تلك الظهيرة النحسة، والواقع ان والدي لم يشتر تلك الآلة الصغيرة لغرض تسجيل اصواتنا انما جاء بها حتي يسجل وقائع المجلس الحسيني للشيخ الوائلي الذي كان يجيء في كل سنة الي مدينة ” ابو صخير” و يلقي محاضراته الثمينة في بيت منيف للشيخ عزيز العذاري رحمه الله كانت حديقته الشاسعة تغص بالناس، ولما كان الشيخ الوائلي يرفض في حينها تسجيل محاضراته لسبب اجهله، كان الذين يمتلكون آلات التسجيل يتجمهرون علي مكبر الصوت المثبت علي سور البيت الخارجي، وكان والدي احد هؤلاء الذين يحرصون علي تسجيل تلك المحاضرات بدون علم الشيخ الوائلي رحمه الله، وذات يوم شعر والدي بالتعب والعطش وهو يرفع المايكرفون الي مكبر الصوت فطلب مني ان اساعده واحمل المايك لحين تناوله شربة ماء، ولما ابتعد والدي عن انظاري استبدت بي رغبة لقراءة المحفوظة التي منعني من اكمالها في تلك الظهيرة المنحوسة، ووجدت فمي ينفتح وينشد تلك المحفوظة حتي نهايتها امام المايك الذي احمله بيدي، وعاد ابي بعد دقائق بنشاط واخذ المايك مني لتكملة تسجيل المحاضرة، حين عدنا الي البيت بدأ بتشغيل آلة التسجيل حتي تسمع امي محاضرة الوائلي، انسللت بخفة من المنزل وتخفيت في بيت الجيران، بعد نصف ساعة سمعت ثورة والدي وهو يردد : أين هذا المعتوه ..؟ اليوم أذبحهُ واذبح أم الحمام وافراخها الصغار.
/2/2012 Issue 4125 – Date 18- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4125 – التاريخ 18/2/2012
AZP20
HSNO

مشاركة