كلام علي الماشي

كلام علي الماشي
الشحاذون
حسن النوّاب

في قصة قصيرة جدا كتبتها عن الشحاذين قبل اكثر من عشرين سنة عندما كنت سجينا عسكريا في معتقل الديوانية، كانت فكرتها تتحدث عن شخص سائح يدخل الي مدينة ملأي بالشحاذين، وترغمه عاطفته بينما كان ثملا يجوب شوارعها علي منح كل شحاذ يصادفه بعض النقود حتي يكتشف اخيرا ان محفظته اصبحت فارغة ولا يملك حتي ثمن تذكرة العودة الي وطنه، فيقرر الجلوس مع الشحاذين علي امل الحصول علي نقود تعيده الي دياره، تذكرت هذه القصة عندما كنت اتبضع مع ام الجهال في اسواق مدينة بيرث الاسترالية ورأيت رجلا بعيون زرق وملابس متواضعة وعلي ملامح وجهه الإجهاد يجلس في ركن الشارع وقد وضع كارتونة سمراء الي جنبه كتبها عليها كلمات انكليزية لا تخلو من الطرافة تقول: ايها العابر .. اذا كنت تنزعج من “الخردة ” التي في جيبك .. امنحها لي، توقفت امامه مندهشا لأني علي مدي تسع سنوات من اقامتي في هذه المدينة لم ار شحاذا يجلس في شوارعها، اللهم الا بعض المدمنين علي المخدرات الذين يباغتونك فجأة وهم يمدون اكفهم ناشدين سيجارة منك او قطعة نقود صغيرة يشترون بها تذكرة الباص او المترو حتي يرجعون الي مأواهم، ولما كانت ام الجهال قد تعوّدت دفعا للبلاء ان تضع كل صباح قطعة نقود صغيرة في آنية من الفخار اركنتها في الحديقة، حتي امتلأت تلك الآنية بالعملات المعدنية ولم تعثر زوجتي علي من يستحقها حتي الآن، فهي لا ترضي ان نمنح تلك الصدقات الوفيرة الي المشردين من سكان القارة الإسترالية والذي يطلق عليهم تسمية “الأبروجنول” لإنها تعتقد من وجهة نظر الدين الشرعية لا يستحقونها لإنهم يشربون الخمرة ولذا اقترحتُ عليها ان نعود الي المنزل علي جناح السرعة ونأتي بالصدقات الي هذا الرجل المتعب بعينيه الزرقاوين الباردتين من الأسي، نظرت لي شزرا وقالت: انه مدمن مخدرات ولا تجوز عليه الصدقة، وهكذا ابتعدت عن الشحاذ الإفرنجي غاضبة بينما افرغت كل ما في جيبي من نقود معدنية امام ذلك الشحاذ الوسيم ولحقت بها منزعجا، وهبطت علي ذاكرتي سلسلة من المفارقات المؤلمة التي صادفتها ايام الحصار في وطني، واحدة منها لا يمكن ازاحتها عن خاطري الا عند الموت، عندما كنت اتجول ظهرا في نفق الباب الشرقي وبقايا ثمالة الليل مازالت في رأسي وجيوبي تصفر فيها الريح وقد هدّني الجوع حتي وقفت منكسرا امام امرأة طيبة علي ذقنها وشم سومري كانت جالسة عند حافة السلم الإسمنتي المؤدي الي شارع السعدون وقد تناثرت ارباع الدنانير المعدنية علي قطعة قماش قذرة مفروشة امامها .. تأملتني تلك المرأة بعطف لاحدود له ثم قالت: بُني هل انت جائع ؟ مكثت صامتا وثمة دمعة بدأت تحرق جفني، ثم اردفت بحنان: خذ ما يسد جوعك، وحين تحصل علي المال رد لي ديني، وبيد مرتعشة اخذت ربع دينار وانصرفت عنها ولم ارها حتي الآن .. حين عدنا الي المنزل سمعت ام الجهال هذه القصة مني، ارتجفت وطلبت مني حمل الصدقات الوفيرة لذلك الشحاذ الوسيم فورا، حين وصلت الي مكانه كان مساءً موحشا قد هبط علي المدينة واغلقت المتاجر ابوابها وتبخر الناس من الشوارع، رأيته ثملا يترنم بأغنية مرحة وقد رفع الكارتونة السمراء التي كتب عليها نداءه للسابلة وجعل منها مائدة لشرابه، وحين عرضت عليه كيس الصدقات قال لي بلطف: سيدي ان عملي انتهي قبل ساعة .. تعال غدا.

/2/2012 Issue 4113 – Date 4- Azzaman International Newspape

جريدة «الزمان» الدولية – العدد 4113 – التاريخ 4/2/2012

AZP20
HSNO






















مشاركة