كلام على الماشي ربابة الصعاليك
حسن النــوّاب
ذات ظهيرة كانت مظلمة جدا بنحسها وعوزها برغم ان الشمس كانت تصفع رأسينا بلهب وحقد تموز، ولم نتذوق الطعام منذ يومين، دخلت على الشاعر حبيب الزيودي برفقة صديقي ماجد عدّام، بعد ان فقدنا الأمل بالحصول على ليرة واحدة من الأدباء العراقيين المعارضين الذين كانوا يملأون مقهى السنترال، جلسنا على مقاعد مكتبه الوثيرة بعد ان نهض لاستقبالنا بحفاوة كما لو انه يستقبل الملك مع اميره بشحمهما ودمهما، وقدم سجائره الينا، دخنا ومكثا صامتين، ظل يحدق بوجهينا باسما، لكن ملامح وجهه سرعان ما تكدرت وترقرق دمع باسل في عينيه، نهض من كرسيه متفاديا سقوط العبرات على خديه واختفى عن انظارنا، بقينا في مهجعنا ننتظر قدومه من جديد، تأخر اكثر مما ينبغي، وفجأة دخل حاملا آنية من الطعام الشهي وضعها امامنا .. وقال بخجل الرجل العشائري اعتذر للتأخير .. انا صعلوك مثلكما وجائع ايضا.
ضحكنا من اعماق جوعنا .. واكلنا بشهية اسيرين في حرب غادرة .. وكان يأكل الطعام معنا احتراما ليس الاّ، لما انتهينا .. وشربنا الشاي .. ونهضنا لوداعه ..ارتبك وارتعش جسده كمن تلقى صفعة مباغتة .. دس يده في جيب سترته الداخلي الأيمن ثم الأيسر كان الزيودي يلبس بذلة بسيطة في عز الصيف وراحت يده تفتش في جيب بنطاله ولما يئس .. تلعثم .. وهب خارجا من المكتب، لحقنا به لكنه طلب منا التريث قليلا، هبط سلالم الحجر وكنا نتابعه بأنظارنا .. حتى وصل الى بيت حارس بيت الشعر، طرق الباب، لحظات وخرج له الحارس تحدث معه قليلا ورأينا الحارس يضع بيده شيئا ما، عدنا الى مهجعنا .. ولما دخل علينا .. ذهب الى مكتبه واخرج مظروفا واستدار بظهره عن انظارنا حتى لا نرى ماذا يفعل ثم نهض وترك المظروف في جيبي وقبلني بحنان عجيب، مثلما قبل صديقي ماجد عدّام، وحين اصبحنا خارج مبنى بيت الشعر، فتحت المظروف واذا بخمسين ديناراً اردنية في داخله .. انهمر دمعنا وذهبنا على عجل نسكر كأميرين مطمئنين جدا . ومرةً دخلت ثملا الى قاعة بيت الشعر، هب بعض المتملقين لحبيب الزيودي حتى يعلموه، قال لهم دعوه، بالطبع كان شاهدا يبصر المشهد نقل لي ذلك فيما بعد، كنت لحظتها ارى الحياة بكل عنفوانها عبارة عن حذاء عتيق اجلّكم الله، مثلما بدأت اراها الآن للأسف بعد الرخاء العجيب الذي لمسته في استراليا، كثيرون يظنون ان السعادة عبارة عن اموال، لقد تأكد لي بشكل قاطع ان الحياة ليست اموالا فحسب، في تلك الليلة التي كانت عائلتي ما زالت بالعراق، كان الشاعر اللبناني شمس الدين يقرأ قصيدته، كنت سكرانا بوجعي وقلقلي على العائلة هناك في الوطن ومتحسسا جحيمي تلك اللحظة، وحدهُ حبيب الزيودي ادركني، ولما انتهت الجلسة .. نهض امامهم واخذ بيدي الى مسؤول كبير قال له بالحرف الواحد انت نضال الحديد .. مسوؤول بناية عمان لكن هذا الشاعر لا يشتري الدنيا بزبانة ــ انا صحوت قليلا .. ونظرت للهامة الطويلة امامي .. سألني وهو يمسك يدي بحنو صحيح هذا الكلام؟ نظرت الى نضال الحديد وقلت له صحيح جدا .. ويبقى الزيودي ربابة الصعاليك دون منازع .. ضحكوا جميعا .. الا الزيودي وانا ..الزيودي ذهب واقفا الى القبر وانا مازلت اكابر.
AZP20
HSNO