كلام بالقيراط ـ ايتها العاشقة البتول ـ حسن النوّاب

كلام بالقيراط ـ ايتها العاشقة البتول ـ حسن النوّاب
لو كانت نيران الحروب تشبه وجهكِ الجهنمي لسعى جميع جنود جبهات الحرب الى إحتراق في اتونه وبسعادة قصوى ، ولكنها نار الحرب التي ستطهو اجسادنا واحدا تلو الآخر ، واظن ان جحيم السماء الذي يتعذب به الكافرون كما يقولون ؟ لأهون بكثير من غابات نار رأيتها تستعر في جثث الجنود، عشرة ايام بلياليها الشتوية الطويلة والقاسية البرد واصابعي تمسك بمبضع الجراحة الذي يقطر بدماء الجرحى ، لم اتخل عنه الا لفترات وجيزة اتناول بها وجبة طعامي او اخلد لساعات قصيرة الى نوم مضطرب نتيجة تساقط القنابل بجوار الملجأ الذي اقطنه ، ولو كان لمبضع الجراحة فما لتكلم بما لايصدقه العقل ، لأن الذي شهدته خلال الأيام المنصرمة يقترب من الخرافة ولست مغاليا اذا اخبرتك انه الخرافة بعينها ، والا ماذا كنت ستقولين وانت تبصرين بعينيك الحالمتين غابة من سيقان وأذرع مبتورة من اجساد جنود جرحى تشوى كل مساء في محرقة كبيرة لا تبعد الا مسافة قصيرة عن وحدة الميدان الطبية التي اعمل فيها ، وكيف ستكون لك شهية لتناول الطعام وانت تستنشقين رائحة احتراق لحم بشري بهذه البشاعة والقسوة ، ليت امي لم تلد كائنا وديعا مثلي حتى يرى هذا الهول من الفجائع الدموية التي لا يتحمل الصمود معها حتى الجلادون الذي يعملون في معتقلات وطوامير سرية ، اولئك الذين احترفوا تعذيب ضحاياهم ومن ثم قتلهم بدم بارد ، حتى خلت اني لست طبيبا جاء لتقديم جهد طبي وإنساني لهؤلاء الجرحى ، انما جزار بشع له مهمة واحدة الا وهي قطع أعضاء تالفة ومهشمة من ابدان الجرحى ، لم اجد هناك اي أثر للدروس النظرية والعملية التي عكفنا على دراستها لسنوات طوال في كلية الطب ، انما هناك روح مغامرة وتسلح بشجاعة نادرة واقتراح مبادرة عاجلة حتى يتسنى لك انجاز مهمة علاج الجرحى او اجراء عمليات جراحية كبرى بأقصر طرق تبدو انها غريبة وعجيبة وعلى ضوء فوانيس دون قلق من اية نتائج وخيمة تنتظرك بعدها ، اعترف لك ان كثيرا من الجرحى لفظوا انفاسهم بينما كنت منهمكا بإخراج شظايا استقرت في افئدتهم او رؤوسهم وبعضهم الآخر فارق الحياة لما كنت منشغلا بقطع عضو تالف من اجسادهم المضرجة بالدم والمعفرة بتراب رمادي ودخان قنابل عمياء ، تصوري ان احد الجرحى وبينما كنت اجاهد لإنتشال شظية استقرت في رئتيه سمعته يغني ، كان ذلك الجندي الذي بربيع العمر يغني بحرقة الى حبيبته التي شدّه الوجد لرؤيتها بتلك اللحظات حتى اسلم الروح بسكينة ساحرة ، ياه ان رائحة الدماء تملأ روحي وانفاسي ، ادعوك الى قراءة هذا المقطع من القصيدة التي كتبها شاعر روسي يدعى ايغور إيسايف حيث يعمق من فن البوئيما الذي يركز بمعظم نتاجاته عليه ويسعى لمعالجة دور الإنسان في السيرورة التاريخية ، في إطار حوارات متخيلة تصب في تصاعد احداث البوئيما ، مبرزا دور الضمير الإنساني في تعميق الحس الأخلاقي الاجتماعي الذي يمكن من خلاله فهم جوهر الحياة والفداء يقول إيسايف اتعتقدون ان الأموات سيصمتون ،طبعا ستقولون نعم،ليس صحيحا ،انهم يصرخون
طالما قلب الأحياء ينبض واعصابهم تحس . اتعرفين .. لولا الكتب التي حملتها معي لهلكت من الكوابيس والرعب وصيحات الأنين واستغاثات الجرحى ، لقد تحول قلبي الى حجر اضربه فيؤلم يدي كما يقول عطيل لحبيبته دزدمونة ، وايقنت ان الحياة المذهلة التي منحت لنا تجري طقوسها في جبهة الحرب وفق قانون الغاب ، وذات صباح منحوس وضعت امام اختبار حقيقي لقدرتي على المواجهة والرفض ، اذ رشحني آمر وحدة الميدان الطبية الى عمل مشين لايخطر حتى على بال المجرمين القتلة ، عندما اخبرني الآمر بالمهمة الواجب القيام بها ، فقدت القدرة على الإحساس بلذة هذه الحياة الجميلة ، لقد طلب مني الذهاب الى ثكنة عكسرية تابعة الى قيادة القاطع الجنوبي والقيام بقص صواوين آذان والسنة الجنود الهاربين من الحرب بناء على اوامر صدرت من القصر، لم اصدق ما اخبرني به الآمر وكنت اظن انه فصل مزاح يلعبه معي ، ولما تأكدت من جدية كلامه ادلهمت الدنيا امام ناظري واخبرته ان الموت لأهون على روحي من ممارسة هذا العمل الإجرامي الذي يخلو من الرحمة ، ومن حسن الحظ ان الآمر تفهم موقفي وابرق للجهة العسكرية التي تنتظر حضوري بأن الطبيب تعرض الى وعكة صحية تمنعه من مزاولة عمله في هذا الوقت ، وهكذا نجوت من فخ شنيع كنت لو نفذته فلا اظن ان ضميري سيهجع حتى لحظة واحدة مدى الحياة . ويالها من مفارقة دامية فإذا تمكن الجندي النجاة من نيران الجبهات سيجد امامه لجان الإعدام التي ستنخل صدره بالرصاص .. لقد بدأت اختنق ، وقبل ان اتوقف من هذياني الموجع هذا دعيني اسلط الضوء على شخصية آمر الوحدة الطبية ، فهذا الرجل لايبدو امامك طبيبا انهى دراسته الطبية بل تعتقدين انما جاء من عالم فوضوي وصاخب لاوجود له على الأرض ، لم اره يوما يرفع بيده قطعة شاش ويمسح الدم عن جرح لجندي مسكين مع انه يمتلك قلبا لاينافسه احد على طيبته وسماحته ، ثمل على الدوام وقد دعاني اكثر من مرة لتناول الكحول معه وفعلت ذلك وكنت تنبثقين في رأسي عندما اصل الى مرحلة النشوة ، الواقع اشك ان الرجل يفهم شيئا في مهنة الطب وسأعرف حقيقته بشكل واضح في قادم الأيام اذا ما تمكن القدر والحظ والحب من الوقوف الى جانبي وابعد عن جسدي القصف العشوائي الذي تمطرنا به المدافع الثقيلة بين حين وآخر ، اقترح عليك ان تشتري كتاب عالم الأمس وهو عبارة عن سيرة لكاتب يهودي عاش في فينا يدعى ستيفان تسفايج ، كتاب يستحق القراءة واذا ما تعذر عليك الحصول عليه فسأحمله لك خلال الإجازة التي اصبحت قريبة جدا .. احرصي على هذه الرسالة وارجو ان لاتقع بيد اولئك الذين يكتبون تقاريرهم المدمرة حتى على القمر اذا لم يبزغ لهم في لياليهم الملاح .. اختم سطوري ايتها العاشقة البتول بهذا المقطع الشعري الذي كتبه الشاعر الإيرلندي وليم بوتلر كيتس ايها العاشق لاتحب طويلا فلقد احببت قبلك حتى اصبحت خارج زمني كأغنية قديمة . هذه الرسالة كتبتها بالنيابة عن طبيب صديق الى حبيبته وكان معي في جبهة الحرب سلاما لكم .
AZP20
HSNO

مشاركة