قصة قصيرة
كرستينا
وقفت كرستينا عند نافذة الشباك بعد أن أشاحت قليلا من الستارة وفتحت الشباك ، اختبأت خلفها لكي لا يراها احد من المارة وتثير فضوله ويسمعها كلمات لم تطق أن تسمعها في هذا الوقت ، حيث الأمطار تتساقط بغزارة ، وصوت البرق يرعد بين الفينة والأخرى ، الظلام دامس خارج البيت ، لانقطاع التيار الكهربائي، كانت تتجمع البرك المائية في الطرقات والمارة يهرعون إلى بيوتهم ، وكأنما تمطر ضفادع أو قنابل عنقودية .
أما في الداخل فكان الضوء خافتا ، لاتقاد شمعة جميلة في وسط غرفة الجلوس ، لا ترى شيئا من وجهها سوى العتمة ، لأنها قد أعطت ظهرها إليها وبقيت تنظر إلى الشارع .
الدموع تنزل من عينيها مع الإمطار ، وكل صوت رعد تصحبها شهقات من أنفاسها ، خبأت جسدها خلف الستار وخبأت شهقات بكائها خلف الرعود .
مسكينة أنت يا كرستينا ، أمها تجلس في زاوية مظلمة ، تعرف بان ابنتها تبكي ، تركتها تبكي علها تشعر بالراحة بعد ذلك ، نظرت إلى إيقونة العذراء وهي معلقة في الحائط حاملة بيدها وليدها أليسوع عليه السلام ، وفوقهما هالة مضيئة وحمامتان تدلان على السلام والطمأنينة.
بقيت الأم تحملق بهذه الأيقونة لبرهة من الزمن وكأنها تناجيها بإسعاد وحيدتها ، كان للأم أملا كبيرا بان ابنتها ستسعد في يوم من الأيام ، بعد الانتظار الطويل من الأم بان ابنتها ستنطق بشيء إلا أن ظنها قد خذلها لتضطر أن تقول شيئا لابنتها علها تسرها أو تحمل شيئا من أوجاعها الدفينة .
كريستينا ……. كريستينا .
لم تجبها فقط أوحت لها بأنها سمعتها وكأنها تقول لها نعم قولي ماذا تريدين ، فهمت الأم بان ابنتها لا تستطيع أن تقول حرفا واحدا .
أما زال المطر يتساقط ؟
نعم ، نعم يا أمي .
ورجعت إلى صمتها الطويل لتغط فيه عميقا عميقا ، بقيت أمها تناديها لكنها في تلك اللحظة لم تعد تسمع أي شيء ، فقط ذكريات الماضي وتقلباته ، لحظاته السعيدة التي قضتها في كنف أبويها وهي ما زالت طفلة صغيرة لم تعرف ما معنى الآلام وماذا يعني الظلم والخداع ، تتذكر ذراعي أبوها المتوفي وهو يحتضنها بدفء لتشعر عنده بأمان لم يشعر به احد ، يجلب لها الحلوى وكل ما تتمناه ، لحظات السعادة قصيرة وسريعة ، لا نتذكر منها إلا أشياء بسيطة ، وحتى ذكرياتها تكون مؤلمة نعيشها بحسرة وحب العودة إلى اللاعودة .
سرعان ما تنقلها ذكرياتها إلى الظروف الصعبة والمفجعة التي رمت بها إلى عالم الوحدة ، فقدت أبوها بوقت سريع ولسرعان ما حاولت أن تعوض حنانه بحنان الزوج اللئيم ، حسبت بادئ الأمر بان زوجها سيعوض حنان ذلك الأب العطوف ، لتكتشف شتان ما بينهما ، رجل لا يعرف ما معنا الحب والحياة الزوجية ، أمامه جسد فقط ، ليس له روح ولا مشاعر ولا كبرياء ، أشعرها بالخوف بعد أن طلبت منه الأمان ، أشعرها بالتعاسة بعد أن طلبت منه السعادة ، أشعرها بالذل بعد أن طلبت منه الكبرياء ، أشعرها بمر الحياة بعد أن طلبت منه حلاوتها ، وليتركها فجأة دون وعي منها مرمية بين أنياب الزمان وبين أنياب البشر التي لا تعرف ما معنى الإنسانية وما معنى الطير الذي لم يقو بعد على الطيران ، بدل أن يمدوا له العون ليطير وليكتشف معالم الحياة ، يحاولون رميه بأقفاص من الذل والخوف والرهبة والرعب ، وليهرب لإحدى الدول بنفسه فقط ، يلوذ بها ويترك نصفه الآخر دون حياة .
من سيسمعها ومن سيفهما ومن سيكون لها عونا في وقت هي تحتاج له ، ليس لها أخ ولا أب ولا أخت سوى أمها التي أصبحت كل حياتها ، وعالمها ، تنظر إليها كما تنظر الأم إلى وليدها المريض ، هي تشفق على أمها مثلما هي تشفق عليها ، ولا تريد أن تقول كل ما تشعر به لكي لا تزيد من قلقها عليها ، لذلك تبحث عن حبيب أو شريك حياتها يفهمها ويعوض كل ما فقدته ، أليس من حقها ؟ أليس من حق الجميع أن يفهمها ؟ أليس من واجبها البحث عن ضالتها ، وتبحث عن شخص يكون لها أبا وأما وأخا وزوجا ، يكرمها مثلما هي ستكرمه ، يعطيها كل كيانه وأمانه ، هي لا تبحث عن أوطان بل تبحث عن قلوب تكون بحجم الأوطان ، ولا تبحث عن طعام بل تبحث عن أياد تعيش بدفئها ، تبحث عن روح تسمو من خلالها .
لم تشعر إلا بيد أمها تربت على كتفها وتضع قبلة دافئة على جبينها وتقول لها يا بنية لقد تعبت لهذا اليوم اذهبي وارتاحي ، الأفكار تعصفك ولن تجدي لك نفعا .
تنظر إلى أمها بشوق وتمد يدها إلى القلادة وتضع قبلة على صليبها ومن ثم على جبين أمها وتخلد عميقا في نوم ثقيل وبانتظار نهار أثقل منه .
سيف شمس الدين الالوسي – بغداد