كتاب جديد لجمعية المترجمين العراقيين

كتاب جديد لجمعية المترجمين العراقيين

الحسني يضيف صوراً بغدادية للمكتبة العربية

عبد اللطيف الموسوي

هذا كتاب جدير بالقراءة بل ينبغي أن نقرأه لكونه ينطوي على أهمية بالغة بما ينقله معلومات ومشاهدات ورؤى كاتبة غربية بشأن العراق في ثلاثينيات القرن المنصرم . وبادئ ذي بدء لا بدّ لي من القول إن كتاب (صور بغدادية) لمؤلفته البريطانية فريا ستارك وترجمة الأكاديمي سعد الحسني ذو محتوى مهم وأثير لدى العراقيين المحبين لوطنهم الذين يريدون الاطلاع على صور من الماضي بما يحمله من متناقضات تتفاوت بين الجمال والمآسي والفقر والبساطة حتى أطلقنا عليه تسمية جيل الطيبين وعليه أجزم أن هذا الكتاب سيحظى بالمقبولية والشغف لدى الاغلبية الساحقة منّا, فمؤلفته ستارك عاشقة لبغداد ومغرمة بالشرق، ومترجمه الأستاذ الحسني يحب العراق حتى النخاع ولهذا أقبل على ترجمة الكتاب بشغف منقطع النظير وحرص على أن يقدمه بأبهى صورة وبلغة عربية سلسة وببلاغة تشد الانتباه حتى إن القارئ ليتصور إنه إزاء كتاب مكتوب بلغة عربية لا مترجمًا عن لغة إنكليزية.

انجاز مهمة

وحسنًا فعل الحسني مترجم الكتاب ، عندما خصص الكثير من وقته من أجل إنجاز مهمته فبذل جهودًا مضنية ليرى الكتاب النور بأقرب وقت، ساعيًا الى أنْ يصل الى يدي المتلقي فيعيش أوقاتًا جميلة مع ماضٍ قد تولى. وهذا ليس بأمر غريب على الحسني الذي أفنى عمره في التدريس والترجمة ويعمل في الوقت الراهن رئيسًا لقسم اللغة الإنكليزية في كلية الإسراء الجامعة بعد تقاعده من عمله الوظيفي، إذ كان أستاذًا للأدب الإنكليزي في قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب – جامعة بغداد. وهو عضو الهيئة الاستشارية في دار المأمون للترجمة والنشر/ وزارة الثقافة والسياحة والآثار. ترجم عددًا من الكتب المهمة من بينها: (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق) ثلاثة أجزاء و(ضجيج الصمت) و(مقدمة في التربية) و(صور بغدادية) ورواية (مالون يحتضر) للكاتب الايرلندي الشهير صموئيل بكيت و(حالات المنفى: مقاربات في الأدب والطب والفن) و(بناء الذكاء الاخلاقي) و(رجلنا في بغداد) كما تولى مراجعة العديد من الكتب المترجمة فضلًا على ترجمته وكتابته العديد من المقالات والبحوث باللغتين العربية والإنكليزية.  يرى الحسني أنّ (صور بغدادية) وهو من إصدارات جمعية المترجمين العراقيين بالتعاون مع مكتبة عدنان، واحد من أهم الكتب التي تناولت العراق في وقت مبكر إبان تأسيس الدولة العراقية، فهو يمثل دراسة تاريخية وسكانية واجتماعية دقيقة تؤرخ الأحداث والأماكن والشخصيات العراقية التي كانت المؤلفة على تماس بها في تلك السنوات الخوالي إبان وجودها في العراق والسنوات اللاحقة. وقد استطاعت ستارك بعقلية استخبارية الوصول إلى شخصيات عراقية مرموقة فتحدثت معهم وأعطت وصفًا دقيقًا ومبهرًا عن تطلعاتهم وآرائهم  كما قدمت في كتابها وصفًا جميلًا لأغلب الألوية العراقية (المحافظات لاحقًا) ومنها ألوية بغداد والبصرة والموصل والمنتفك (الناصرية) وديالى وتكريت وغيرها. وتحدثت عن الخصائص الجغرافية والاجتماعية وعن طباع الناس وعاداتهم من دون أن تنسى الحديث بالتفصيل عن معتقداتهم الدينية وأمزجتهم النفسية والاجتماعية وسلوكياتهم الفردية أو المجتمعية وقد خرجت بتلك الحصيلة التي اوردتها في كتابها بفضل زياراتها الجريئة التي تنطوي على المغامرة في مضارب الجزيرة العربية على الرغم من اصرار السلطات المحلية والبريطانية على أن يرافقها رجال في تنقلاتها تلك.

كما إن جرأة ستارك مكّنتها من التطرق في الكتاب الى قضايا حساسة وجدلية منها قضية الكويت فقدمت توثيقًا بالصور والخرائط لها متناولة نشأة الكويت وكيفية اقتطاع السلطات البريطانية لها. واللافت أن ستارك كانت هي التي تتولى رسم المخططات والخرائط وتلتقط الصور لتكون بذلك شاهد عيان على الأحداث والوقائع ليصبح نتاجها من الخرائط ثروة كبيرة لمن يهتم بالتوثيق . ويبدو أن شغفها هذا بالتصوير وإعداد الخرائط يندرج في إطار المهمات التي كلفت بها في العراق لاستخدامها معلومات استخبارية إتمامًا لواجباتها في العراق.

صور بغدادية

تحدثت ستارك في مستهل كتابها (صور بغدادية) عـن ظروف قدومها إلى العراق في سنة  1929 عن طريق البادية ، معربة عن خيبتها لأنها لم تجد الصحراء التي يقيم فيها البدو وهي تخترقها بسيارتها كما كانت تتصورها إذ لم تشاهد مضارب ديار الحبيبة التي كانت تهيج أحاسيس شعراء الجاهلية وإنما شاهدت هياكل معدنية متآكلة لسيارات متروكة على الطريق. ولـم تجد طرقاً معبدة  فكانت المركبات تثير سحاباً كثيفًا  من الغبار. وأشارت الى أن الوقت كان يمر بـبطء تحت أشعة الشمـس اللاهبة قبل أن تصل إلى الرطبة عـند حلول الليل وحينها حظيت بسرير مريح وماء ساخن ووجبة طعام أوربية وفرها الـضباط الإنكليز الموجودون هناك ضمن القوات البريطانية المحتلة. وعند الفجر غادرت المكان مع مرافقيهـا لتصل الى الرمادي ليعبروا نهر الفرات في الفلوجة على جـسر عائم من القوارب، في طريقهم إلى بغداد. وتتطرق أيضًا الى لقائها بعراقي في بغـداد بحسب توصية من صديق له كانت قد تعرفت إليه في دمشق. كما تحدثت عن انطباعاتها الأولية عن بغداد ووصفت الناس الذين كانت تنظر إليهم من شرفة فـنـدق أقامت به، بأنهم كانوا يبدون بصحة سيئة وعابسين فيما الأطفال يدعون للرثاء، والمحال بائسة ومزرية ويتطاير في الهواء غبار ضار بالصحة يسمم الدم.

الطريف إن حياة فـريا ستارك لم تكن طبيعية في كل مراحلها وهنا نشير الى انها عاشت أكثر من مئة سنة مع إنها نجت من الموت عندما كانت في التاسعة من عمرها، إذ تعرضت الى حادث في مصنع كانت تعمل به . لم تتزوج من ستيوارت براون وهو دبـلـومـاسي ومـؤرّخ وكان ذلك بعد أنْ بلغت الرابعة والخمسين غير أن زواجها كان كارثياً فلم يدم سوى خمس سنوات. فارقت وطنها وهي صغيرة وعاشت وسط أسرة مفككة بعد أن أنفصل والداها وهي لما تزل طفلة. وقد ألقى الدكتور صباح الناصري الضوء في مدونته على مراحل من سيرة حياة ستارك مستشهدًا بالرسائل التي كانت تبعثها الى ذويها واصدقائها.ولدت فريـا ستارك في باريس سنة 1893 لأبوين بريطانيين. وكان أبوها قد درس الرسم في روما حيث ألتقى بأمها التي كانت نشأتها فلورنسا. وهكذا تعلمت فريا الإنكليزية والفرنسية والإيطالية من جراء تنقل أسرتها .في التاسعة من عمرها قرأت كتاب ألف ليلة وليلة وكان بداية تعلقها بالشرق وفي ما بعد درست اللغة العربية. عند نشوب الحرب العالمية الأولى سعت لمساعدة جنود بلادها فعملت ممرضة في إيطاليا حيث كانت تعيش مع أمها بعد انفصالها عن زوجها. واللافت إنها لم تزر بلدها الأم انكلترا إلا عندما بلغت الثالثة والثلاثين من العمر.في تشرين الثاني 1929 وصلت فريا إلى بغداد حيث سكنت في حي شعبي لتضمن الاختلاط الجيد بالناس من اجل تقوية لغتها العربية والتحقت بمدرسة بنات لتأخذ دروسًا في القراءة والكتابة مع الصغيرات وقد جابت معظم مناطق العراق وزارت المدن الدينية والاثرية. دفعها اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى أن تعمل لحساب المخابرات البريطانية في عدن وبغداد والقاهرة، وأسست في القاهرة جمعية (إخوان الحرية) لمناهضة النازية وإقناع العرب بمساندة الحلفاء ضد دول المحور. زارت النجف الاشرف سنة 1937 وبقيت فيها أسبوعًا كاملًا ضيفةً على القائممقام الذي أنزلها في جناح الضيافة الموجود في نادي الموظفين وقد كتبت فصلًا خاصًا عن النجف . وللدلالة على عمق تأثرها بالمأثور العربي والاسلامي أورد هنا ما كتبته عن الامام علي قائلة إنه (كان هنا يعمل الخير ويتمسك بالأمور المثلى، فأفنى نفسه وهو مريض الفؤاد وسط أهل الكوفة المتلونين) . ثم تتحدث عن الامام الحسين قائلة (على مسافة غير بعيدة من هذه البقعة جعجع ابنه الحسين الى جهة البادية وظل يتجول حتى نزل في كربلاء ، فقتل قتلة فظيعة مع أهل بيته بعد أنْ مُنع عنهم الماء ، وقصة قتله هذه من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها من دون ان ينتابني البكاء) ، وتضيف إنّ (التاريخ قد توقف في كربلاء والنجف منذ يوم مقتله ذاك ، لأن الناس أخذوا يعيشون فيهما على ذكرى الكراهية لأعداء الحسين). ألفت أكثر من عشرة كتب عن رحلاتها للشرق، كانت ثلاثة منها في السيرة الذاتية من أهمها (صور بغدادية) 1937 و(وديان الحشاشين) 1934 و(البوابات الجنوبية للجزيرة العربية) 1936  و(جزيرة العرب) 1945 و(فرساوس في مهب الريح) 1948.

مشاركة