كتاب الصناعتين للعسكري وأسس النقد الأدبي – حاتم السروي

كتاب الصناعتين للعسكري وأسس النقد الأدبي – حاتم السروي

صديقي المؤدب والأديب إذا أحببت ان تعرف أصول الشعر وقواعد الكتابة فلا تبدأ بقراءة روايات هذه الأيام ودواوينها، لماذا؟؟ لأنك إن بدأت بها سوف تضل ضلالاً مبينا، وسوف تكتب ابتـداعاً وليس إبداعا..

ولك أن تسألني ما دليلي على هذا الكلام؟ وهل للفن قواعد؟ هل للشعر أصول؟ وأقول لك في وضوح إذا لم يكن للشعر أصول وللفن قواعد فهما لغوٌ بلا معنى وثرثرة بلا جدوى، ولهذا قال الدكتور الفاضل محمد حسن عبد الله وهو الخبير في النقد الأدبي: “وقد أحسن أبو هلال وأصاب إذ اعتبر فنون الأدب صناعة؛ فلكل نشاط إبداعي قوانينه وأصوله، ولا قيمة للموهبة ما لم تعمقها الثقافة وتنظمها القوانين العلمية”.

نقد ادبي

ولكن من هو أبو هلال الذي أستعين به اليوم على نقدي للنقد الأدبي الذي أراه، وأدلل به على انحراف المسار الأدبي الذي افتقد أهم ما يجب أن يكون في الأدب ألا وهو البيان وجنح إلى الرمز والتعقيد فأخرج لنا طلاسم شبيهة بما نسمعها من السحرة والدجالين.

إنه السيد أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، والعسكري نسبةً إلى عسكر مكرم وهي قرية بسيطة من إقليم الأهواز الذي يتبع حالياً جمهورية إيران واسمه الفارسي “خوزستان”. وكان ابو هلال في بداياته مرافقاً لخاله العسكري الكبير واسمه أيضاً الحسن بن عبد الله وكان عالم دين ودنيا أيضاً، فقد تعلم عليه ابن أخته أصول النقد الأدبي والتذوق الفني.

وكتاب الصناعتين يتناول الأعمال النثرية والشعرية التي تناهت إلى أبي هلال من عصر الجاهلية حتى زمن تأليفه للكتاب في القرن الرابع الهجري، ولكتاب الصناعتين صنوٌ علمي سبقه في الوجود وهو كتاب أرسطو ” عن الشعر ” وفيه تناول المعلم الأكبر كما كان يسميه العرب تراجيديات اليونان الكلاسيكية المشهورة على مستوى العالم حتى الآن والتي أبدعها يراع سوفوكليس ويوربيدس، وفي كتابه عمل أرسطو الفيلسوف على استنباط قوانين فن الدراما.  ومثله فعل أبو هلال حيث أخذ في تقليب أشعار العرب وكتابتهم مستعيناً بثقافته العميقة ومعارفه الكبيرة وتمكنه من لغة العرب، فكان رحمه الله مثل الصائغ المحنك الخبير الذي إذا جاءت له امرأة لتبيع سلسلة أو محبس أو خاتم ثمن البضاعة وميز بين أنواعها وعرف النفيس منها ومتوسط القيمة والخسيس الذي لا خير منه يرتجى.  وكما أن كتاب ارسطو يتحدث عن الدراما والشعر؛ فكذلك أتى كتاب الصناعتين ثنائي الوظيفة؛ إذ يمحص النثر والقصيد، ويضع مفتاحاً للنقد الأدبي ألا وهو البلاغة. والبلاغة ليست تذوقاً انطباعياً فالذي يقرأ العمل ثم ينقده او ينقضه ويقول أنه لا يعجبه لسبب شخصي أو لانطباعٍ يخصه دون قواعد علمية محكمة فهو “بياع بطاطا” يتخفى في زي الناقد والأديب.

ثقافة ومدارسة

وإنما البلاغة عند أبي هلال (علم) يعني ثقافة ومدارسة بل هو يقول في مقدمة كتاب الصناعتين ” اعلم – علمك الله الخير- أن أحق العلوم بالتعلم بعد معرفة الله جل ثناؤه هو علم البلاغة ومعرفة الفصاحة ” ولكن لماذا كل هذا الاهتمام؟ لأنه بمعرفة البلاغة ومعها النحو نفهم القرآن الكريم ونقف على وجه الإعجاز البياني فيه، ونعرف ما به من حسن التأليف وبراعة التركيب وما فيه من الإيجاز والإنجاز والاختصارات اللطيفة والإشارات الدقيقة، وكيف أن قارئه يجد فيه عمق المعنى مع وضوح العبارة، وسهولة الكلمة مع فصاحة الاسلوب.

 والفصاحة هي جودة الصياغة اللفظية وحسن الديباجة، فإذا كان الكلام إلى هذا واضح المعنى وجيد المضمون فتلك هي البلاغة، وعلى هذا فإن العمل الأدبي إذا خلا من البيان وصار مبهم المعاني فيه غموض وإلغاز وشفرات فقد فقد أهم ما يميز الأدب عن غيره، ولو كان الأدب بمعناه فقط فإن المعاني مشاعة بين الجمهور، ويعرفها الخياط والنجار وجامع القمامة، أما الأديب فعمله ينحصر في (توضيح المعنى وتحسين اللفظ) توضيح المضمون وتجميل الشكل. وكثير من الشعر لا يحمل كبير معنى وإنما ينحصر جماله في اللفظ الرائق المُعْجِب.

اسمع هذا الكلام وقل لي بحق الله ألا يعجبك؟

يقول الشاعر:

ولما قضينا من منى كل حاجةٍ.. ومسَّحَ بالأركان من خو ماسحُ

وشُدَّ على حُدُبِ المهاري رحالُنا.. ولم ينظر الغادي الذي هو رائحُ

أخذنا بأطراف الاحاديث بيننا.. وسالت بأعناق المُطِيِّ الأباطِحُ

يعني لما انتهينا من الحج وتمسحنا بأركان الكعبة ثم شددنا الرحال على إبلنا ولم ينتظر بعضنا بعضا؛ جعلنا نتحدث وتسير بنا الإبل في الأودية. فانظر هنا جمال التركيب وحسن الألفاظ والموسيقى النابضة، ثم قارن هذا بما تقرأه او تسمعه من غثاء يسمونه قصيدة النثر وهو كلام سقيم ليس فيه حلاوة لفظ ولا وضوح معنى وهو السبب في انصراف الناس عن الأدب في زمن يعاني أهله او كثير منهم من الجهل وقلة الأدب.

مشاركة