قصتان قصيرتان
سعاد الصيد الورفلي
اختلاج
كل ما يجيده ذلك الرجل، هو ترداد كلمات قديمة تشبه النواح تعلمها في صغره من جده البصير.
كان الجد يلقيها عندما يشتد عليه الحال..وتتقاذفه الأهواء.. فقد أحب وأخفق..ولم يستطع كبح جماح العشق.. فترجم كل مشاعره في شكل ملحمة أوديسية تحكي آلامه ومواجهته لقبيلته التي وصفته بالشاعر المخبول.
كلما اجتمع حوله صِحبة…ترنم بتلك الأهازيج، فيستل قلوب بعضهم…ويتسبب في ازدراء آخرين لكن مالم يفقهه هذا الرجل سر دفين يعتمل بدواخله، عندما يبدأ بلوك تلك الملحمة ..فالاختلاج يظل مرافقا له طوال الليل ولا يفارقه..تزامنت حالته كلما أردف بالعبارات نفسها..الاختلاج لا يفارقه..لجأ إلى أمه فجدته. أخبرته أن ثمة معشوقة لاتليق إلا بجدك في الملحمة ذاتها، فقِه السر الملغّز يومها فالكلمات كانت بشعور متدافع حيث استنطقت الجماد وحركت فؤاده الذي لم يعرف الحب يوما.
الركن الآخر
ككومة محطمة جلس صاحب المقبرة، يخلل أسنانه مفكرا في مصير أصحاب تلك البيوت المكومة من التراب والأخرى المجصصة، قال في نفسه “هنا تكمن المفارقات وهنا يختلفون رغم تشابههم جميعا في الرقدة والكيفية”
تأوه واستغفر وأشاح بوجهه نحو الجهة الأخرى من الحياة،حيث الناس ينتشرون في بقاع الأرض ومن حوله : قال في نفسه ما الذي يجعلني أتكوم قرب هذا السجن؟ فأنا هنا أحرس قبور أناس ميتين. ومنذ متى تتم حراسة الموتى، كل ما أعرفه أن الأحياء هم من يُحرسون ؟؟ كان هذا الحديث يجول في قلبه وعقله..
ترك المكان عائدا إلى داره التي خر فيها السقف جراء الأمطار المتقاطرة،نظر في جوانبها الباهتة،أحس ببرودتها وشعر بوحدة حقيقية تنتابه.
قال في نفسه هازئا : الجلوس إلى الأموات أهون من هذا الخلاء الذي يحيطني ؟؟؟ ماذا سأفعل الآن.؟؟ لاشيء، سأبقى وحيدا في هذه الظلمة وهذا البرود اللامتناهي. استلقى على حصيرة بهتت وكلحت وتيبست من أثر الشمس والرطوبة،وجالت في نفسه أفكار شيطانية،فدعاه الهوى لممارسة لعبة تقطع عليه وحدته وتنعشه، فر كثيرا من تلك الممارسة؛ فهو رجل عاش بين القبور حيث لامكان لحرارة في قلبه أو جسده الخاوي البالي الكالح، ككلوحة الغروب وهواء المقبرة وهموم الموتى، فكثيرا ماكان يراهم في منامه، وكثيرا ما كان يخبر أهل الموتى بمنامات تخص أحوالهم فمنهم من يُسر ّبحديثه ومنهم من يعْبسُ وجهُه، ليعيد في نفسه كيف كانت حياته قبل مماته وسط ذويه.
كل ذلك شطّ بالرجل عن أن يعبث به الهوى أو يجد مرتعا في نفسه..
إلا أن تلك الليلة كانت منفردة عن باقي الليالي، فجارته الجديدة التي لم تتعرف على طباع أهل الحي أو أشغالهم وأحوالهم بعد، طرقت داره منادية على أهل الدار كانت امرأة جميلة مستديرة الوجه والجسد،طويلة كعنقاء تعانق السحاب.على وجهها آثار من زينة وكحل،تلوك ما يشبه العلكة بين شفتيها الممتلئتين _بين يديها_ تحمل صحنا كبيرا تفوح منه رائحة اللحم والطبيخ…
أما هذا الرجل المتهالك من فترة طويلة لم يتذوق لحما أو مرقا لذيذا ولم ينظر وجها مليحا، فكل ما رآه : ستائر سوداء تحول بينه وبين النظر في وجوه النساء..
تلك الليلة كانت متميزة وفاصلة في حياته بل فاصلة كبرى، فتح الباب فبانت الشمس وانطلقت العطور لتختلط بطبيخ القدور، ألقت المرأة (المُطلّقة) التحية كالمعتاد مخلوطة بضحكة مشبوبة بارتياب، مدعية أنها تريد امرأة الدار أو فلانة من الحارة، فقال لها متلعثما : أنا رجل “عزّاب” أعيش وحدي مع قطة صغيرة ترقد عند قدميْ..
ضحكت المرأة بدلال وهي تردد ” قطة صغيرة “، قالت وهي تشيح بوجهها نحو الدار: وترقد عند قدميْك !
مدت يديها اللتين بانتا عن عكنة لحم وبياض وظهر سوار يبرق خلسة: هاك خذ عائلتنا مدايرين صدقة وطلبوا مني إنوزعها على الجيران، نحن سكان جدد على الشارع وإنت أول بيت جيته “..
وولت ضاحكة وبين يدي ذلك الرجل الصحن الذي فاح في أنفه، أما عيناه فقد لحقتا مؤخرة المرأة وهي تتراقص بين الشوارع مقبلة ومدبرة ضاحكة وناهرة.
عاد إلى زاويته يجر قدميه بصعوبة بالغة، حيث تحرك ركن ما في جسده وأرسل إشارات “كهرومغناطيسية” متنوعة جعل لسانه يلصق بحنكه بينما الذي اشتغل واشتعل في جسده وظيفة أخرى عطلت العقل واللسان وكل ما من شأنه الحركة والبيان، وأفصح الجسد البارد عن نار تشتعل كانت مخبوءة تحت ركام مرت عليه سنون وشهور وليال مثلجة وزمهرير.
تخيل العناق..والضم والتقبيل، واستنشق روائح عديدة وسمع آهات وتأوهات فخفق فؤاده وتحركت الشهوة الميتة القابعة في ركن جسده الذي تبلد وبرُد.
جاء ميعاد يوم على غير محله تهيأ له مرتديا خير ما عنده، وانتظرها عند أول مفرق ، بينما في ركن آخر من الشارع المقابل لسور المقبرة اجتمع أهل مأتمـ، كانوا يبحثون عنه في الفجاج متسائلين أين صاحب المقبرة ؟ بحثوا عنه استفقدوا غيبته، كان المكان خاليا من وجهه الذي تظهر عليه علامات التحسر كلما استقبل أقواما يسرعون بنعش ميت، فيَهِمُّ مستلا الفأس من تحت كومة فرش وأدوات يستعملها لــِلَحْد الأموات، وتهيئة القبر.
أما صباح ذلك اليوم كان هناك بوجه يبرد شيئا فشيئا وتسرع فيه قوة الدم كلما دق قلبه بذكراها، يضع كلتا يديه في ركن جيب تتدلى منه بعض الأشياء المهترئة، يرقب حركة المارين والعابرين ” وجوههم تُصرفُ كل شهوة ترقص في النفس، وتنقبض معالم اللهفة حينما يطالعهم يقتربون، ولايراها بين ذلك السِّرب !! انتظرها مرت الساعات، جاؤوه مسرعين فهو ضالتهم التي يبحثون عنها حينما تكْفهر الوجوه وتحلق فوقها الغيوم، ويندبون ميتهم ويضجون. ليخبروه أن ميتا بالقرية ينتظر تهيئة بيته الجديد، إلا أنه زجرهم قائلا: أنا في شغل من أمري، بينما الشهوة القابعة المتحركة الثائرة في ركنه الأقصى من جسده الكالح من أثر التراب والمقابر تلح عليه وتجِدُّ في الطلب…
وفجأة وقف بجانبه أحد الذين كانوا يترددون عليه كثيرا هناك في المقبرة : ليخبره أن الذي مات امرأة جميلة، ذات ليلة كانت توزع الصدقات على البيوت،ووصفها بوصفها الذي رآها فيه تلك الليلة ! انفلتت الشهوة متقهقرة متدافعة، دفنت في مثواها الأخير، تجمدت الحركة فيه، أبطأت، ثقلت، فترت، تاهت، وقبعت ميتة في ذلك الركن،وشعر ببرودة القبر تسري في عروقه وتنغصت شهواته وتكدرت صولاته وآهاته..
انطلق للمقبرة فوجدهم قد واروها التراب، فهو لم يستمتع حتى بتلحيدها في القبر بينما انتظرها طيلة يوم بليلته عند مفرق المدينة حيث كان الفراق الفعلي داخل مقبرته!