قصتان قصيرتان

عبد الرضا اللامي

الانتحار

قال الهدهد:

– كنت استمتع بالتحليق فوق ساحل نهر يمر بأطراف احدى الغابات، و لما شاهدت اسلاك الكهرباء العابرة فوق النهر والمعلقة على برج ضخم تداركت الطيران بالقرب منها فهبطت قليلا متحاشيا المجال الكهربائي سيما ان الضغط العالي ذو تأثيرات قاتلة وان تياراتنا خطرة لأنها ترفد بالطاقة من (بواخر في البحر)!، او من غابات الجوار!؟ والطاقة عندنا فائضة عن الحاجة.

وانا أتنازل من الجو شاهدت تحت اقدامي بغلا ممسكا بأذن حمار (و يسحل) به بأتجاه البرج.. تقربت منهما سمعت البغل يتوسل الحمار ان يساعده على صعود البرج، غير ان الحمار (أحرن) واصر على عدم مطاوعته.

وقال البغل :

– أنا ادرك ما سأفعله، ارجوك ساعدني على تسلق البرج و سأمنحك بقايا الحصة العلفية.

– انا لا امد يد العون لأحد يريد ان يكون قاتلا.

– انا لست كذلك.. انا اريد ان ادخل المجال الكهربائي عال القدرة لأنه سريع التأثير – وستموت في الحال.

– سأرتاح و انهى معاناتي.

– كلا لن اساعدك، فما الفرق بين ان تقتل حيوانا او تقتل نفسك ان الله يحرم قتل نفس بغير نفس، انا لا ارتكب حماقة تلطفها ببقايا حصة متعفنة. رغم اني ارى ان المسؤولين عن الحصة قد افسدو فيها و كأنهم قتلوا الحيوانات جميعها.

– لا يهمك امري، ساعدني ولا تغرقني بمواعظك، سمعت العديد منكم هذه الايام، من ينزف مواعظا، وهو اول من يأكل السحت الحرام.

– دعني ارجوك ولا تلطف حماقتك ببقايا حصة او اجترار ردود افعال ركيكة تسندها بأحتجاج تدمر به نفسك..اذهب دمر من هو سبب اثارة الارهاصات، ولا تكن وعاء يتقيأ فيك الاقوياء تفاهتهم.

حاول الحمار ان يفلت منه ليبتعد عن اشكاليته، لكن البغل اخذ بناصيته و اذنه بمسكة لا خلاص منها ولا افلات. اراد الحمار ان يجاريه بعد ان اسقط في يده امر الافلات ليجد مخرجا لورطته فقال:

– ان مسؤول الكهرباء في غابتنا اغرق الغابة بالطاقة، والابراج ملغمة بتيار لا يميز بين الاحياء اينما حل. ان الحياة فسحة رائعة و قيمتها بمقدار الاستمتاع بها و علينا ان نترك فيها اثر اروع.. انها مجال للحب و العمل، كن قدوة للشجاعة والاقدام وليس مثلا للهروب او الخنوع امام الواقع الفاسد.

– لا تتوسع في قول الحكمة.. المهم في نهاية المطاف ستجد الموت بأنتظارك.

– نعم ان الموت واقع لا ريب، لكن لم تستعجله بأسلوب بشع و تسقي نفسك كأسه مرا قبل الاوان ؟

– ضقت وسعا بك كما ضقت بها.. لا تطيل وقوفي بين حبل الموت المحبب لرغبتي وفجوة الحياة السوداء المرعبة.

 كلنا معرضون لما يفزعك. بل انك لم تعش من اهوالها اكثر من غيرك ممن تعرضوا لخطر المفخخات أو من أحزان ابناء المغدورين والارامل العيل هل وقفت برهط مع مراجعي دوائر الغابات الرسمية كي تكفر باليوم الذي اجهض رحم العمالة فأخرج هذه النذالات والحثالات.

– ها انت تعرفها جيدا. ساعدني لأعتلاء ظهر الراحة الابدية وأن عزمت على صحبتي ساخذ بيدك واردفك خلفي.

– حقا ان الوعاء المثقوب لا يمتلئ ابدا. انتبه البغل كمن ادرك شيئا مغايرا وقال لنفسه، لو لم اكن بغلا لما اوغلت في هذا النفق الضيق لقد تركت بناء غير متكامل و زرعت بذورا لم أر انباتها وشاهدت ازهاري باكمامها ولم اشهد تفتحها. والتفت الى الحمار قائلا :

– خبرني بالله عليك، من اين جائتك رجاحة العقل يا حمار.

أصمت ولا تهرت

قال الصقر :

وأنا أحوم في أجواء الغابات، سمعت ضجيجاً في إحداها..فهبطت مستوضحاً..شاهدت وسمعت ثوراً عتيقاً يلقي محاضرة حول(نفع الحكمة، وحسن التدبير)، على قطيع من البقر والحمير والخراف والتيوس. فضرب الأرض بظلفه وقال : كنت على سفر، فلما صرت في بطن الطريق لحقني التعب..وقد انهارت من النهار قطعة.. فولد لي الفكر، فعقلت الأمر، وجلت البصر فيه، حتى وقع مني موقعاً.. فتصاعدت للبقر ربدة ورغاء وللحمير نهيق ومعمعة للاخرين. حاول الثور إخماد الضجيج، فراح يضرب الأرض بظلفه وقال بحكمة : الصمت مع الاستماع أسلم، وفيهما اكتساب معرفة..فهما وعاءان تُغترف منهما الخبرة.

صفق القطيع وأكمل الثور : وإذا كانت أذنك لك فلسانك لمستمعك.. وأعلم أن ما تسمعه من أفواه الآخرين قسمان، فما تسمعه لأول مرة، هو القسم الذي سمعه قبلك غيرك، ولم يسبق لك أن سمعته ! إن الحيوان لا يمكنه سماع كل شيء، وتبقى دائماً لم تسمع الكثير، وهو القسم الآخر.. قال الصقر : صدق من قال (خذ الشور من رأس الثور). فهل يتعلم القطيع كيف يصمت ومتى يهرت. ثم هدأ الضجيج، فهز الثور رأسه علامة للرضا وقال : عند هدأة الليل تختم ضجة النهار..فامشوا الهوينا فلكل راكض كبوة، ولكل لسان هفوة، ولكل ضارب نبوة (هتاف وتصفيق)، واعلموا أيها القطيع الطيع أن لكل شيء آفة.. فآفة الفرص التأخر، وآفة التأخر الخسران، وآفة الخسران الندم، وآفة الكرام مصاحبة اللئام، وآفة الوقار الإثارة، وآفة الكرامة الابتذال، وآفة التجارة..أم الحواسم..وآفة السياسة الخداع والعمالة، وآفة الأعلام الكذب بلا حدود، وآفة الاستقرار كثرة الفوضائيات.

 واسترد بعض أنفاسه، وهزّ ذيله وأكمل : ولا آفة لمن استقل، ومن اللغو أقلَّ، وإذا رمى أدلّ.  واسمعوا وعوا ما قالته الآفة :لا تهزلن كثيراً فهو منقصة    والجد منفعة تعلو به الرتب

ثم أنشد الثور برغاء يشوبه الأسى :

العمر كالنهر لو عاينته أفقاً    تصفو مشاربه والقاع منه ردي.

مشاركة