قصة مؤسسة كولبنكيان ومستر 5 بالمئة  (1-2) – صلاح عبد الرزاق

قصة مؤسسة كولبنكيان ومستر 5 بالمئة  (1-2) – صلاح عبد الرزاق

التأسيس والصراع على النفط العراقي

تعد مؤسسة كولبنكيان من المؤسسات الخيرية التي قامت بإنشاء عشرات المشاريع في العراق خلال عشر سنوات 1960 -1970. وقد تركت بصمتها واضحة في بعض الأبنية التي تعد من معالم بغداد أو المحافظات العراقية مثل ملعب الشعب وقاعة المستنصرية ونقابات الأطباء والمهندسين والمجمع العلمي ومعهد الفنون الجميلة ومتحف الفن الحديث ومستشفيات ومتاحف وكليات ومكتبات ما تزال منارات فنية وأكاديمية ورياضية تقدم خدماتها للعراقيين. كما قامت المؤسسة بإيفاد العشرات من الطلبة العراقيين لإكمال دراساتهم العليا في الجامعات الغربية.

من هو كولبنكيان

ولد رجل الاعمال كالوست سركيس كولبنكيان Calouste Sarkis Gulbenkian    955– 1869في منطقة أوسكادار ، الجانب الآسيوي، بإسطنبول لأب أرمني يعمل بالاستيراد والتصدير. عاش طفولته في قرية قاضي كوي. درس الفرنسية في مدرسة القديس يوسف، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس في مدرسة التجارة في مرسيليا. ثم أرسله والده لدراسة هندسة النفط في كلية كينغز في لندن Kings College London . في عام 1887 عاد كالوست إلى اسطنبول ثم لدراسة الصناعات النفطية الروسية في باكو عاصمة آذربايجان. وكان والده يتاجر في الوقود، وينقل النفط من باكو إلى إسطنبول. خلال فترة قصيرة عاشها كالوست في آذربايجان تعرف على سماسرة النفط، وقويت علاقاته مع رجال الأعمال وخاصة عائلة روتشيلد Rothschild  التي كانت تسيطر على حقول النفط هناك. وعن تلك الفترة كتب كالوست كتاباً عنوانه ذكريات سفر.

في عام 1892 تزوج كالوست من نفارت إسيان التي أنجبت له ابناً هو نوبار سركيس،  وابنة هي ريتا سيڤارته التي تزوجت فيما بعد من الدبلوماسي الإيراني كيورك لوريس إسابيان Kevork Essavan . في عام 1896 هاجر كالوست  مع أسرته إلى القاهرة. ،هناك تعرف على الكسندر مانطاشف رجل الأعمال الأرمني الذي يعمل بالنفط والأعمال الخيرية وصار له نفوذ في القاهرة.

انتقل كالوست إلى بريطانيا لمتابعة عقد صفقات في مجال النفط ، ثم حصل حصل على الجنسية البريطانية عام 1902.

وأصبح فيما بعد مستشاراً اقتصادياً لسفارتي الدولة العثمانية في باريس ولندن مستفيداً من لغته الفرنسية وجنسيته البريطانية ليسطر له مجداً شخصياً في عالم الأعمال والاقتصاد.

تأسيس شركات نفطية

كان كولبنكيان العقل المفكر بترتيب اندماج شركة رويال الهولندية Royal Dutch مع شركة شيل Shell الإنكليزية عام 1907. ومن خلال دوره المؤثر ذاك حصل على أسهم فيها. وكان يطالب بنسبة 5 بالمئة من أسهم شركات النفط التي يساعد في إنشائها، مما جعله يكتسب لقب السيد خمسة بالمائة أو مستر 5 بالمئة. كما ساهم في تأسيس شركة النفط التركية عام 1912 التي كانت تضم شركة رويال دتش شل والمصرف الوطني التركي و شركة المصالح الألمانية وشركة كالوست كولبنكيان التي استحوذت على نسبة 15 بالمئة من شركة النفط التركية التي كانت مهمتها استخراج النفط العراقي.

أدى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 إلى تأجيل خطط كالوست فيما يتعلق بإستخراج النفط العراقي من حقول كركوك. وخلال الحرب 1914-1918قام كالوست بالترويج لفكرة إنشاء لجنة فرنسية عام للنفط لتأخذ دور شركة رويال دتش والبنك الألماني ضمن شركة النفط التركية.

بعد انهيار الدولة العثمانية وهزيمتها في الحرب أمام الحلفاء بريطانيا وإيرلندا وفرنسا وروسيا ساهم كولبنكيان في المفاوضات التي أدت إلى توقيع معاهدتي سيڤر Sevres عام 1920 و لوزان Lausanne  عام 1923 بين الحلفاء وتركيا.

اتفاقية الخط الأحمر

في اجتماع عام 1928 لشركاء شركة النفط التركية قام كولبنكيان برسم خط بقلم أحمر على خارطة الشرق الأوسط الجديدة، حيث قام بتحديد المنطقة التي يسري فيها بند إنكار الذات بين الشركاء. واستثنى منها الكويت التي بقيت تحت الحماية البريطانية. إن بند إنكار الذات المذكور يُمنع بموجبه أي من المساهمين في شركة النفط التركية من السعي للحصول على مصالح نفطية بشكل مستقل في الأراضي العثمانية السابقة وتشمل تركيا والعراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان والسعودية واليمن والامارات والكويت والبحرين وقطر وعمان.

كيف منح كولبنكيان نسبة 5 بالمئة.

في تشرين الأول 1927  حدث ما لم يكن متوقعًا، كركوك تطفو على بحر من النفط. وما إن بدأت الشركة باستخراج النفط حتى تفجرت الآبار وانسابت أطنان من النفط على أرض كركوك، وخاصة في حقل بابا كركر. تسبب هذا الاكتشاف بخلاف بين الشركاء على قيمة النسب، فلجأت الشركة التركية إلى حسم الخلاف بـ«اتفاقية الخط الأحمر» عام 1928.

حصلت كل شركة مساهمة في شركة النفط التركية، التي تحول اسمها إلى شركة نفط العراق على حصة نسبتها 23.7  بالمئة من الأسهم الكلية للشركة، وكانت الشركات هي  شركة النفط الأنجلو فارسية وشركة رويال دتش شل، والشركة الفرنسية للبترول وشركة تنمية الشرق الأدنى.  أما كالوست كولبنكيان فقد حصل على نسبة 5 بالمئة من أسهم الشركة، ومن هنا ذاع صيته باسم مستر 5 بالمئة.

في عام 1938، قبل بداية الحرب العالمية الثانية، أدرج كولبنكيان شركة في بنما لتدير أصوله في صناعة النفط. اسم الشركة Partex.

علاقة كولبنكيان بالعراق الملكي

تعود علاقة كولبنكيان بالعراق إلى ما قبل عام 1928وحصوله على نسبة5  بالمئة، بل إلى نهاية القرن التاسع عشر. عندما عقدت عائلة كولبنكيان شراكة وثيقة في تجارة الصوف والقطن مع عائلة قيومجيان الأرمنية ، وكلمة قيومجيان تعني تجارة الذهب. وكان الملك فيصل الأول يزور دار العائلة الذي يطل على نهر دجلة. لكنَّ الحدث الذي وثق بداية العلاقة بين كالوست وبغداد بشكل فعلي هو الخلاف الذي نشب بين عائلة قيومجيان والسفير الأمريكي آنذاك سوندبريك. ويعود أصل الخلاف إلى انتشار وباء الكوليرا في العراق ووصوله إلى بغداد.في عام 1891 قدمت عائلة قيومجيان وشركائها في العراق التماسًا ضد الرسوم الجمركية التي فُرضت على تطهير حزم القطن المصدرة إلى الولايات المتحدة بذريعة إيقاف انتشار وباء الكوليرا عبر المحيط الأطلسي. كانت االعرائض المقدمة ضد الرسوم أظهرت تضرر مجتمع التجار من قرارات السفير الأمريكي في بغداد آنذاك، إذ قُدم الالتماس بلغات متعددة ومن قوميات مختلفة من العرب، واليهود، والأرمن، والإغريق، ومنهم على وجه الخصوص: محمد سعيد الشابندر، وإسحاق س. ديفيد، وسايدرايتس، بالإضافة إلى كيروبف قيومجيان الذي تقول الوثائق التاريخية أنه صعّب الحياة على السفير الأمريكي في بغداد لما يتمتع به من سطوة ونفوذ. في عام 1938 قام الملك فيصل الأول بتكريم كالوست كولبنكيان من خلال منحه حصانة دبلوماسية بدرجة وزير. كما حصل هو وأولاده على الجنسية العراقية. غادر كولبنكيان فرنسا إلى البرتغال خلال الحرب العالمية الثانية. ظل كولبنكيان مقيماً في مدينة لشبونة حتى وفاته في 20 تموز عام  1955. ونقل جثمانه إلى لندن ليدفن في كنيسة القديس سركيس الأرمنية. وقُدّرت ثروته آنذاك من النفط العراقي بحوالي  840 مليون دولار، ليكون أثرى أغنياء العالم.  بوفاة كالوست كولبنكيان انتهت قصة كفاح ونجاح رجل بنى شركة نفطية عملاقة. قصة بحاج إلى آن تجسد في فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني تروي للأجيال قصة أكبر مؤسسة خيرية في العالم امتدت نشاطاتها إلى العديد من بلدان العالم.

الزعيم قاسم يتفق مع مؤسسة كولبنكيان على الاعمار

بعد الإطاحة بالنظام الملكي الذي كانت علاقته معه جيدة، وخوفاً من المد القومي وتعرض الشركة للتأميم بادرت مؤسسة كولبنكيات بتقديم عرض إنشاء وتمويل مشاريع عمرانية في العراق. ففي أواخر عام 1959 استقبل الزعيم عبد الكريم قاسم بمكتبه في وزارة الدفاع وفداً رفيع المستوى من مؤسسة كولبنكيان للآعمال الخيرية والتعليمية والفنية والعلمية.

وتركز اللقاء على منح العراق نسبة من المنحة الثابتة من النفط العراقي التي تستلمها المؤسسة وهي 5 بالمئة. وتم الاتفاق على قيام المؤسسة بتمويل تنفيذ مشاريع تنموية وإعمارية، على أن يكون اختيار تلك المشاريع ونوعيتها للحكومة العراقية. وقد أدى الاتفاق على بناء صروح عمرانية كبيرة مثل مدينة الطب وملعب الشعب والمتحف العراقي والمسرح الوطني ومتحف الفن الحديث المسمى بقاعة كولبنكيان. بعد عامين على اتفاق قاسم مع مؤسسة كولبنكيان قام في 12 كانون الأول عام 1961بإصدار القانون رقم 80. وكانت المفاوضات بين الحكومة العراقية مع شركة نفط العراق قد استغرقت ثلاث سنوات 1958-1961، وكان الزعيم قاسم يشارك شخصياً في المفاوضات. بموجب القانون المذكور تقرر تجميد إمتياز الشركة في التنقيب عن النفط العراقي في أنحاء العراق والاقتصار على أراضي الآبار المكتشفة والحقول المنتجة التي سبق أن أسستها والتي قُدرت مساحتها بحوالي 5 بالمئة من مساحة العراق. وبذلك أصبح من غير الممكن القيام باكتشاف أو انتاج النفط من أبار جديدة. وقيل أن صدور القانون 80 أدى إلى غضب الدول الغربية على نظام قاسم فتم تدبير انقلاب قومي بقيادة عبد السلام عارف انتهى بمصرع قاسم ورفاقه في 8 شباط 1963.

بعد حرمان ملكية اتحاد الشركات الأجنبية التابعة لشركة نفط العراق IPC من التنقيب في 5.99 بالمئة من الأراضي العراقية، قامت الحكومة العراقية بإنشاء شركة النفط الوطنية العراقية INOC  عام 1964 لتباشر بصناعة النفط وتشغيلها من قبل كوادر عراقية. في عام 1967 قام العراق بعقد اتفاق مع الاتحاد السوفياتي لتطوير حقل الرميلة.

تأميم النفط العراقي ومغادرة كولبنكيان

بعد تسلم حزب البعث السلطة في 27 تموز 1968برزت خلافات بين الحكومة وشركة نفط العراق IPC إثر خفض شركة لصادراتها من نفط كركوك وزيادة صادرات نفط البصرة بسبب الانخفاض الذي حدث آنذاك في أسعار الشحن البحري الذي جعل شحن نفط البصرة إلى موانئ البحر المتوسط أرخص من شحن نفط كركوك إليها. الأمر الذي أغضب الحكومة العراقية حيث قامت بتوجيه احتجاج شديد اللهجة إلى الشركة طالبت فيه برفع معدلات تصدير نفط كركوك إلى ما كانت عليه. عرضت الشركة في أيار 1972 زيادة أرباح الحكومة العراقية، وزيادة الإنتاج، والموافقة على دفع بعض المبالغ التي تدفع مقدماً على الملكية. ولكن هذه العروض لم تكن كافية لإشباع رغبات حزب البعث بعد أن أدرك أهمية الأموال في تسيير أموره داخلياً وخارجياً.

في 1 حزيران عام 1972، أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل قانون تأميم النفط رقم 69 الذي صادر أموال الشركة. إذ تم بموجبه نقل جميع الأموال والحقوق من شركة نفط العراق إلى الدولة وشركتها الحكومية الجديدة التي أطلق عليها اسم الشركة العراقية للعمليات النفطية، ونص القانون أيضًا على أن تُدار الشركة بكادر شركة نفط العراق المؤممة. في عام 1973 نشبت حرب أكتوبر / تشرين بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل.  من جهة أخرى وكانت سببًا لاتخاذ  العراق قرارات أخرى ضد الشركات النفطية. إذ أمَّم حصة الشركتين الأمريكيتين البالغة 23.75 بالمئة من شركة نفط البصرة، وأمَّم الـ60 بالمئة من حصة شل الهولندية من شركة نفط البصرة بحجة أن كل من الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا كانت تقدم مساعدات إسرائيل. كما أمَّم العراق حصة شركة النفط البريطانية وحصة شركة النفط الفرنسية البالغة 23.75 بالمئة لكل منهما.

وفي 20 كانون الأول 1973  أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل قانون رقم 101 بمصادرة حصة مؤسسة كولبنكيان بحجة قيام البرتغال بمساعدة إسرائيل أيضاً. الأمر الذي دعا مؤسسة كولبنكيان إلى تصفية أعمالها ومغادرة العراق نهائياً، وتوقفها عن تمويل أية مشروعات في العراق. إذ ورد في المادة الأولى من قانون تأميم الحصة الشائعة المساهمة والتنقيب في عمليات نفط البصرة رقم 101 لسنة 1973 ما نصه تؤمم الحصة الشائعة لشركة المساهمة والتنقيب التي تمتلكها مؤسسة كولبنكيان في البرتغال والبالغة 5٪ في عمليات شركة نفط البصرة المحدودة في العراق، وتؤول إلى الدولة ملكية تلك الحصة وكل ما يتعلق بها من حقوق في العمليات المذكورة.  ونصت المادة الثانية من القانون المذكور على أن  تنقل الى شركة النفط الوطنية العراقية ملكية الحصة المذكورة وجميع الاموال والحقوق والموجودات التي آلت ملكيتها الى الدولة بموجب مادة 1  من هذا القانون ولا تسأل عن الالتزامات السابقة المتعلقة بتلك الحصة الا بقدر ما آل الى الدولة ولا يعتد بأية التزامات أخرى.

وتعهدت الحكومة العراقية بدفع تعويضات للمؤسسة بعد استقطاع الضرائب والرسوم. إذ ورد في المادة الثالثة بأن تؤدى الدولة تعويضاً عما آل اليها بموجب مادة 1  من هذا القانون بما يعادل القيمة الدفترية الصافية لذلك، على ان تحسم منه المبالغ اللازمة للوفاء بالضرائب والرسوم والاجور وأية مبالغ اخرى تستحق للحكومة عن الحصة المؤممة.

الجدير بالذكر أنه منذ تصدير أول شحنة لها من نفط العراق من ميناء طرابلس في 3  أغسطس عام 1934 حتى تصدير آخر شحنة لها منه في 8  ديسمبر عام 1975  من ميناء خور العمية العميق؛ بلغ إنتاج شركة نفط العراق 1.185.3  مليون طن، أي ما يعادل 8.890  مليار برميل.

{ عن مجموعة واتساب

مشاركة