قصة قصيرة
تضادات
خرجت من المستشفى، بعد أن تأكدت أن آمل .. بحالة حسنه إلى حد ما. في طريقي إلى بيتي عاودني الدوار، دوار خفيف وموجع، أقود سيارتي بتأنٍ واضطراب، أسير بها ببطء، أنظر إلى نهر دجلة الجاري أبداً من دهور، قيعانه تصعد مره أو تنحدر أخرى، لتتموج المياه فوقهما بارتفاع أمتار، تخيلتها محملة بأسرار وحكايا وتواريخ، الناس تبث أحزانها وخيباتها أليه، تناجيه، تشكو إليه من سنين، جلست على تلك المصطبة، نظرت أليها، تمعنت فيها، من غير أرادة مني، أطفأت المحرك ووضعت رأسي على الوسادة الإسفنجية خلفي، صفنت على ما أن فيه، حركتي مقيدة، لا أمشي إلا بأجهاد يؤلمني، الأهم مني، هي، حالتها تقلقني، رغم أن جراح الجمجمة، جراح عراقي، خفف عني همي وخوفي، قال: فترة نقاهة تعقب العملية، مهمة وحساسة، عملية في المخ، مضى الكثير من الزمن عليها، لم يبقى إلا القليل، لا تقلق. (أخشى أن يعاود نشاطه) سألته، قال: لا.. لأن لها مقاومة وممانعة متفردة، مخها حيوي ونشيط ومكون من تلافيف كثيفة جداً، لا يتقبل الجسم الغريب عنه، يرفضه، يصد تطوره وأتساعه، أطمئن، العملية ناجحة بالكامل، في النهاية ستكون كما هي، لا تخاف. من الطبيعي أن نقلق أنا وأنت والجميع، لأن كثافة وقوة وفداحة أوضاعها، وما فيها من القسوة من الصعب تصورها، مرعبة الوجود والتأشير كما أن إشعاعاتها لها قابلية مفجعة على الاختراق، رغم ذلك أخرجها جهازها المناعي دون أن تسبب لها اختلالات عميقة.. لا علاج لها.. إذاً لا تتأخر عن العملية.. أنت أيضاً.
نظرتني آمل.. بصمت. اكتفيت بالتركيز على معالمها الحية في روحي، بدءاً بعينيها الواسعتين والكحيلتين بالكحل الإلهي، الممتلئتان بألغاز وأعماق لا غور له، عينان تضمان في البؤبؤين حكايا وأساطير لأميرات وساحرات كأنهن قادمات من محطات التاريخ البعيد، تخيلتها ناطه من قاع دجلة، سابحة نحوي ساحرة أو أسطورة محملة بالطلاسم والأحجية أو أيثاكا أو عشتار أو كلهن معاً في واحدة، قصدتني لتجلس لصقي بثياب بليله، بحلقت عيونها في عيوني قالت بصوت عميق النبر، حاد:
أرهقني الأرعاب والانتظار، أرفعه عن كاهلي، أنه يمزقني، رغم لوعتي وفوران داخلي بنار لهفتي، أحكمت منافذي أمام الغرباء، وضعت تضاريس جسدي على أبواب الانتظار، أبعدته عن كل ما يسيء أليه، عن السكاكين، حميته من التقطيع، رغم قسوة الحرمان، يجب أن تتحرك بحريه، لابد من ذلك، لنكون معاً، كي لا نضيع، (حتماً لا نضيع)، أجبتها، لكنها نهضت لتنصرف، في الباب وقيل أن توليني ظهرها قالت (تلقني غداً، في الصبح). غادرتني، تركتني وحدي، مع هواجسي وترقباتي وفحوصات عقلي لما هو موجود.. مخاطر جمة في الأنحاء حولي، تتغلغل في الروح لتصعد هادره وعنيفة، تجعل روحي في فوران دائم، في محيط من الخيبة والخسران، لأن أحساسي عميق وكذلك توجسي قوي في تغير مسارات حياتي، سنوات كنت فيها بين تضادات، ما أنا فيه رغماً عني، وما هو كائن في روحي وعقلي.. لا أقوى على أفعال تجسدني، لأن حفريات وأنفاق مظلمة تحوطني، تسلب مني أسباب وجودي، لابد من العملية، أسبابي قوية متعلقة في حياتي، مما يزيد ألمي، جسدي يحاصرني، يأخذ مني نفسي.
ألتقيها في ظروف غاية في الصعوبة، بالكاد نكون معاً لموجبات خارجة عن أرادتنا بالإضافة إلى أوضاعنا في واقع الشحة المميتة من الغذاء والثياب .. كما أنها مشغولة بالوضع المريب لمخها والذي أستمر لسنين. ما فاقم أحزاني، أني لا أستطيع أن أبوح بمكنون ذاتي، أن فعلت أخسر نفسي. آمل بإصرارها أن أفعل شيئاً، تفقدني، لأني لا أتمالك نفسي، أبت رؤياي في كل مكان رغم حركتي المقيدة، جسدي جعلني حبيس ذاتي إلى حد ما، لا أمشي إلا قليلاً، يرهقني. فتحت الباب، دفعت جسدي إلى الخارج. لم أتصور أن عمري يفلت مني، رغماً عني، ظللت فيه مجبراً، على الدوران في حلقات مفرغة واحدة وراء أخرى، ما أن أخرج من ظلام مسور بالجدران، جدران غرف بيتي وممراته حتى أقفل راجعاً، يتعبني المشي في الدروب الموحشة وتزهبنيعيون البصاصين. يتؤده مشيت بثقل جسمي على قائمتين، خطوة، خطوة، خطوتان ثقيلتان ووصلت إلى المصطبة، تنفست بقوة، جلست عليها، لي معها تراكمات من الأحزان والخيبات،أختفتالشمس من أمامي وراء البساتين الكثة في الجهة المقابلة من النهر، غابت، تاركه خلفها ظلال صفر وحمر تتراكض مثل أشباح، تصورتها مكشرة أنيابها صوبي، فاتحة أشداقها على سعتها، تروم مهاجمتي، هززت بقوة رأسي، مسحت جبهتي من العرق المتفصد منها رغم الغروب (شهر آب حرارته لاهبة.. جدتي تقول..). عندها أخذتني دوامة من الرؤى البعيدة، تطوف على لوح خيالي، مرسلة نحوي أنين مكتوم ومؤلم حد الأسى الشديد، غابت الأشياء من حولي، اختفت نهائياً بت أنظر في فضاء من الرهبة والحسرة، جعلتني أشهق بعمق، حتى أن صدري أرتفع بصورة ملفته للنظر، لأعوم في سحابة قائمة، تتغلغل في عمق روحي، توجعني جداً، أحسني أختنق بنهارات وليل لا ينقطع مجلل بالدخان والغبار وأصوات أليفه إلى مسامعي، فتحت عيوني بجهد كبير، واجهتني قاعة طويلة يجللها البياض من نواح وأنين غطى على منادات الممرضات والممرضين والأطباء والطبيبات، جميعهم يركضون في مختلف الاتجاهات، في القاعة وخارجها. قربت آمل.. فمها من أذاني، أنفاسها ملئت خياشيمي مثل نسمه رقيقة قالت:
(أرهقني البحث عنك، أخيراً وجدتك هنا.. الأطباء يقولون كنت فاقد الوعي رغم كثرة ما أجروا من عمليات جراحية لك، لم تصحوا، خائفون أن لا تصحوا..). الأن لا يزال صدى صوتها يرن في إذاني رغم مرور سنوات، حاولت خلالها، في السنوات الأولى منها، أن أجعل الحياة أفضل، فعلت الكثير، فقط العملية لم أدنوا منها، من دونها أردت أن أصلح خراب جسدي، أنجزت أشياء مهمة دون أن أعلمها، خشيت منها، أن تصيبني حواراتي معها بالأحباط فتسبب أضعاف همتي مثل كل مرة، تمنعني من العمل، تخاف أرتباك أوضاعنا، كما أنها تخشى أن تفقدني رغم أني أخبرها بتأكيد صارم، أني لا أضيع. أقول لها (العملية، ضرورة حياة، أجراءها مهم، من دونها، لا أستطيع أن أتحرك بحرية، أتابع، يجب أن تكون دقيقة جداً، لا تحتمل الخطأ مهما كان صغيراً جداً، لأنها في المنطقة الحساسة المسؤولة عن إيصال الايعازات والأوامر من الدماغ.. إلى أنحاء الجسم، بمعنى جميع حركاتي، أي خطأ فيها يجعلني خارج وجودي، تصمت،أواصل:
عملية صعبة جداً، أن لم تكن مستحيلة، قد تكون النتيجة عكسية، تأتي بشلل تام، لكن لابد منها بصورة مطلقة.
(للعنه..)، صرخت بأعلى صوتي من غير أرادة مني، ألتفت يميناً ويساراً، تأكدت أن لا أحد في رصيف النهر، أمامي في جرف النهر المقابل، البساتين الكثة، أنمحت لتحل مكانها. عتمة على طول الجرف. عندها تدافعت الصور والأصوات خارجة من ثنايا مخي، قادمة من ذلك الليل البعيد، تسورني فيه، خيوط ليست رقيقة وواهنة رغم كونها غير مرئية، على العكس، لها صلابة الحديد، تدفعني بأستمرار داخل نفسي. تلمست في جيبي قصاصة من جريدة الجمهورية، متضمنة بيان دعوة الاحتياط لمواليدي، أخر يوم 20/8/1990 . ضاق صدري كأن جبل حط على هامتي، سحبت العكازتين ووضعت وسادتيهما الإسفنجيتين تحت أبطي ونهضت. تحركت بسيارتي بسرعة، في قلب الظلام، عبرت من تحت جسر الجمهورية، دخلت داري، فتحت النور، تناولت العشاء بعد أن جهزته بنفسي، احتسيت الشاي، أحسست بحلاوة لذيذة، مصصت شفتي. تناولت الصحيفة من على السرير لأقرئها، لكني لم أواصل القراءة، فقط عنوانها البارز (القوات الأمريكية توصل انسحابها..).
أخذت أنصت إلى أصوات الليل، صوت الريح، يئز في الشباك والاشجار والنخلة وراء النافذة.
تمتمت مع ذات نفسي (علىَّ الذهاب إلى المشفى لأجراء العملية في عمودي الفقري، بعد تأكيد الجراح العراقي، جراح في الفاصل والكسور والعمود الفقري والحبل الشوكي على نجاحها بالكامل.. أحسني مطمئناً الأن، إلى درجة لا أشعر بأي خوف من الفشل، لا أعلم كنه ذلك، ربما ما منحني هذه القدرة الفائقة على التفائل، كلمات آمل.. بعد أن تحسنت حالتها وأصبحت أقرب ما تكون إلى الشفاء التام، مع أنها لم تشفى بالكامل حتى الأن… تقول:
(… عمليتي ناجحة والدليل أني أفكر بوضوح ودقة تامة مثلما كنت قبل الإصابة الكارثية، أنا واثقة من أنك ستكون كنت قبل شظية العمود الفقري، اللعينة ..). أصمت وأتأمل معالمها وتضاريسها وأنا أحدق في صورتها المعلقة على الجدار الأمامي.
مزهر جبر الساعدي – بغداد
/5/2012 Issue 4211 – Date 28 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4211 التاريخ 28»5»2012
AZPPPL