قصة قصيرة
تشريح الأيام
مدينتي التي اعشقها، كلما شاخت أحبها أكثر، تطل على نهر دجلة، أتأمل يومياً في كل مساء، ساحل الشاطئ الجميل، صارت تربطني به عرى صداقة متينة..
لا يمكن أن أتخلف عن الموعد الذي يجمعني به مهما حصل لي من أمور، اخرق كل المواعيد والاتفاقيات المبرمة بيني وبين غيري وأتخلف عنها، إلا معاهدة الصداقة هذه، ذات مساء نيساني، والسماء تطرزها الغيوم الثلجية، رميت حجراً في النهر، ارتسمت على صفحته دوائر صارت تكبر شيئاً فشيئاً حتى اختفت، فعادت صفحة الماء الصافي كالمرآة الناصعة البياض التي أدركت حينها أن لابد من يوم أن تشوه أو تُخدش، وقد حصل ذلك فيما بعد، رأيت في هذه الصفحة وجه من أحببتها حباً جماً، هذا الحب العذري الذي له من القوة ما لا يمكن أن يتحملها أي عاشق، حتى وإن كان قيساً، ناداني هذا الوجه: اقترب ولا تخف، الخوف يقتل الحب، حبي لك حرية وحلاوة هذه الحرية وكمالها سوف لا تتذوقها إلا بعد غيابها، حبي وشوقي لك هم إنساني تصطبغ به الوجوه الحالمة بابتسامةً عذبة من فم طفلة غارقة في حلم الوجود، قلت في ذاتي:
يا الهي كيف يكلمني وجه حبيبتي وقد ابتعدت عني بعدما كانت لنا لقاءات فعلية لكل مساء في نفس المكان، الأمر الذي دفعني أن أبرم معاهدة صداقة طويلة الأمد في الزمان والمكان الذي أنا فيه، سأدون هذا الأمر في كتاباتي التي هي عندي شكل من أشكال وجودي بنزاهة المؤرخ ورؤية المبدع.
تذكرت ذلك المساء الذي طوقت فيه عنقي حبيبتي بذراعيها وقالت:
– حديقة أحلامنا برعمت وصارت حقيقة، لقد سرقتَ قلبي وأصبحت كل حياتي وليس جزءً منها.
قلت:
– لقد وثقتُ بكِ وأعطيتكِ كل ما املك من حب وحنان، وسأسهر على حبكِ مادمت حياً وأحافظ عليه بسرية تامة، فأنا لستُ بشاعر ولا مجنون!!.
– كيف تحافظ عليه والزمان والمكان شاهد علينا!!.
ضحكنا معاً ضحكة هستيرية ممزوجة بالفرح الغامر، أمسكت ذراعيها بعد أن أنزلتهما من عنقي حتى وضعت أصابعها في راحة يدي وسرنا على الشاطئ، قالت:
– أخاف أن تكون لقاءاتنا قصص أطفال من التي كانت جدتي تحدثني بها؟
– أبداً أنا أحبكِ، ولا اسمح لأحد أيٍ كان أن يلمسكِ.
نظرنا إلى ظلينا في الماء الصافي، أخذت بكلتا يديها حفنة من الماء، رمتها عليَّ، ابتل وجهي، جذبتها نحوي بقوة قلت لها:
– لا شيء يُطفئ الألق في نفسي طالما أنتِ معي، أينما كنت اسمع دقات قلبكِ، وها أنا الآن اسمع تلك الخفقات مع خفقات دجلة الذي يخامرني فيه الشك، أنه في يوم ما يصبح يابسة ويشار له بالبنان على أنه دجلة العظيم!
قالت:
– ارتعدت أوصالي من قولكَ هذا، سيموت العراقيون عطشاً ويقضى عليهم، نحن تحت رحمتك يا رب الآن، وفي حمايتك في المستقبل، لكي لا يصبح النهر مقبرة يسمع خفقان قلبها الآخرون.
ضغطت على يدها وقلت:
– أريد أن أكون متصوفاً!!! لعل ربي يغفر لي ذنوب العرق الأبيض!.
ضحكت ضحكة طويلة بعد أن سحبت يدها مني وهي تقرص أذني وقالت:
– هل أُصيب ذهنكَ بالهلوسة، من أين لكَ هذه المتاهة التي تضع نفسكَ بها، لا…. كن مومياء، أفضل لكَ من ذلك!!!
– ما الغريب بالأمر، لقد فكرت بذلك لأني أريد أن الحق بالزمن الهارب الذي ضاع من أيدينا كشعب وأمة، ولهذا راودتني هذه الفكرة واعقد صداقة بين الأرض والسماء جامعاً تأملاتي الفلسفية للوجود المرئي واللامرئي عندئذٍ سأكون كوكباً مائياً بين آلاف المخلوقات أو طيراً احلق بعيداً بين آلاف الطيور، لأني لا أعيش إلا على رأس الهرم متربعاً على عرش المخلوقات جميعاً وبهذا يجب أن أكون متصوفاًً، انظري إلى هذه الغيمة التي فوقنا، احلم دائماً أن اركبها لكي اخرج من الذي أنا فيه الآن وأحقق حلمي الذي راودني منذ الصغر، يجب أن أتربع على عرش المخلوقات، حتى يخلدني التأريخ!!!.
قالت:
– أنا لا اعرف بأنكَ فيلسوف إلى هذا الحد، طيب، طالما نحن بصدد التاريخ، سأوافيك بعض الملاحظات عنه، مجرى التاريخ لا يتغير منذ أن خلقت الطبيعة، فعندما يكون هناك منتصر، يكون هناك مهزوم، والتاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة بشكل تراجيدي وأخرى بشكل كوميدي وفي الاثنتين تتلخص حكمة البشر أو معاناتهم.
– عظيم، الآن أنتِ الفيلسوفة والمؤرخة في آنٍ واحد وأنا لا اعلم، من أين جئت بهذه التراجيديا!!!
– من التاريخ نفسه.
قلت:
– لدي سؤال آخر.
– تفضل.
– هل يمكن للإنسان أن يمتطي الرياح كصهوة جواد؟
– فيضان كلامي يتدفق مثل سحب الغيوم، حالياً يمتطي الطائرات والمركبات الفضائية، وربما مستقبلاً يمتطي الصحون الطائرة لينتقل إلى الكواكب الأخرى ليجد ما يجد من أسرار لا يسبر أغوارها إلا الراسخون بالعلم.
أفقت من تأملاتي وذكرياتي، انحدرت الشمس نحو المغيب، جلست على دكة سانداً ظهري على جرف الساحل، نظرت مجدداً إلى صفحة الماء لاحظت القمر عليها والغيوم تخترقه وكأنه يخترق الغيوم وأنت تنظر إليه نحو السماء، صار الليل يكسو بغطائه الكون، تدفقت في رأسي مفاتيح كلمات ترسبت بين جدرانه، لها مذاق الزمن مثل نبيذ معتق لا تفسده السنوات، إذ كثيراً ما تبهرنا الأشياء التي نجهلها وتزيدنا المعرفة إحباطاً وخيبة أمل، أردت أن أقضي هذا الليل على الساحل وانتظر شروق الشمس علها تأتيني بجديد وهي تُغرقني بضياءها الباهر، لأن إيماني بالطبيعة لا حدود له، فهي التي صاغت أرواح البشر منذ بدء الخليقة.
قلت في نفسي:
لماذا لم أكن ذو حظ عظيم، أو محظوظ كما يقال، رغم إني اشعر الآن بسلام يغمر قلبي، إلا إني نادم على ما مضى من سني عمري دون أن أحقق ما أصبو عليه من المال والجاه والسكن، لأني لم انتهز الفرصة بل الفرص التي لا تعد ولا تحصى والتي ربما إن تنتشلني واحدة منها من هذا البؤس الذي أنا فيه، دائماً أفكر بالأمور بعد فوات الأوان وهذه هي حقيقتي والحقيقة لا تبقى في الظل فهي تتوق إلى الشمس، لماذا لا انظر إلى الحياة بعيوني وليس بعيون الآخرين، الآن بؤسي وشقائي يبعدان عني سعادتي التي أريدها لحظات لا تُهزم لكونها لا تناقش الزمن، أنا لست من الذين ينساقون وراء المادية كما ينساق الآخرون، لكني صرت كالجالس تحت الشمس بحرارتها التي فاقت المعقول، تذكرت طفولتي، ولد واحد وثلاث بنات مع أب يعيل الأسرة وأم تردد آهات التعب من الأعمال المنزلية، جميل النوم مع الأخوات الصغيرات على سرير واحد، البعض في قمة السرير والبعض الآخر عند الأقدام، نصرخ ونمرح إثناء النوم، نتبادل الضربات بالوسادة الريشية، أمنا تنهرنا، تزمجر علينا، ثم تقص لنا الحدوتات الليلية التي لا يخلو بعضها من الرعب والحيوانات المفترسة، كلمات مصقولة ومربوطة مع بعضها بمقاطع ذات كنوز قيمة لو أكلتها لحصلت على بلاغة لا مثيل لها، ننظر لتلك الأم الحنونة المثالية وكأنها جنة داخل غيوم بيض، أدس رأسي في حضنها دون أن انطق بالكلام، فهي تعرف ما أريد عندئذٍ تجلب قطع من الحلوى، وهذهِ عادتي كل ليلة لاسيما ليالي الشتاء الباردة، أضع ذراعي حول رقبتها وأنام.
نشر الفجر ضوئه الساطع على الساحل، رجعت قافلاً إلى داري بعد أن أدركت أنه ليست هناك فكرة أكثر هولاً من أن يعيش الإنسان في تلك الأيام دون الخلاص من تأثيراتها، فهي التي تنسج حياة الناس، حتى الأجنة المعلقة في أرحام أمهاتها وأنا واحد منهم، أغرقت حياتي في كؤوس العرق الأبيض لأنام تحت تأثيراتها، كان لزاماً عليَّ أن أتعلم كيف أعيش وكيف اكتشف مصيري وكيف أتخلص من الفقر هذا الوحش الذي مزق براءتي، بل براءة الكون بأكمله… وعليه بدأت بتشريح الأيام بعد فوات الأوان!!
رحيم حمد علي- العمارة
/5/2012 Issue 4199 – Date 14 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4199 التاريخ 14»5»2012
AZPPPL