قصة قصيرة- علي أبو عراق

قصة قصيرة

العطار

علي ابو عراق

قبل أن تنهضَ الشمسُ من رقادها .وتبدأ بالتمطّي على الأفق ..متثائبة … محاولةً طرد بقايا النعاس ..لتبدأ رحلتها اليومية في نشر الدفء و الضياء ليعمّا الأرجاء الفسيحة المشتعلة بالخضرة المزنّرة بالأزرق ..يقوم باكرا وينهض يصلي الفجر بينما تعدّ له زوجته الشابة (السياح1) والبيض المقلي بالزبد وطاسة من الحليب الطازج الذي استدرّته توا، يقوم العطار عيسى مسرعا بنقل بضاعته المختلفة من السكر والشاي والتمر وعلب الثقاب وأصابع (العروس)2 وغيرها من الحاجات التي يفتقدها أهلُ الريف ، ويرصفها بعناية وحسب الأهمية بزورقه الكبير (الدانك)3 ..وبعد أن يلقيَ نظرة عجلى على بضاعته، يمسك (بالمردي)4 ويبدأ بالدفع على مهل…؟ فنهاره طويل (والشطوط )5 كثيرة والتي لا يغفل أو يتجاوز احدها خلال رحلته اليومية ..زورقه المثقل بالبضاعة يشقّ قلبَ الشط ..ونسائم الصباح الرطبة تغسل وجهَه بإحساس عذب من البهجة و الراحة ، فهو رجل بعيد عن المشاكل، حيث لا عشيرة تؤرقه بخصوماتها وثاراتها ، ولا ضنك عيش يحاصره بالعوز والحرمان.. فبضاعته تدرّ عليه ما يكفي بل ما يزيد عن حاجته مما دعاه ان يشتري (منيحة )6بعجلها وبعض الخراف والكثير من الدجاج، هو لا ينتظر الموسم كباقي أهالي قريته فهو ليس بفلاح ولا مزارع..وليس عليه أن يسدد ديون للشيخ او الإقطاعي، بل هو في حلّ من كل هذا فقد هبط على القرية هاربا من مشاكل عشيرته التي لا تنتهي.. والتي تسكن الأصقاع البعيدة جدا بمحاذاة الجبل الذي يفصل العراق عن إيران.. حلّ هنا واستقر بعد أن استضافه كبير القرية لثلاثة أيام..وحكى له عيسى في الليلة الثالثة السرّ في سبب نزوحه عن دياره السابقة، فأولاد عمومته قتلوا شخصا في خلاف بسيط على الأرض..وهو سيؤخذ بجريرتهم ..فرحل عنهم.. فلقي ترحيبا حارا من الشيخ خصوصا وهو يجيد الحديث والمؤانسة ، أستقر عندهم وبنى بيتا بسيطا من القصب والبردي على (الشريعة)7 ومارس مهنة العطارة فليس أمامه فرصة أخرى ، فالأرض موزعة على الفلاحين ولا تكاد تكفي الجميع وهم في الغالب أبناء عمومة ومن عشيرة واحدة، وليكملَ شرعنة وجوده بينهم وليحظى بالحماية اللازمة (ذب الجرش)8 معهم..وأصبح واحدا منهم يشاركهم أحزانهم وأفراحهم وكل شيء باستثناء الأرض، كما أنه استراح لهذه المهنة الجميلة التي لا تكلفه جهدا وتجعله على صلة بجميع أهالي القرى المتناثرة على كل الشطوط المتفرعة كمتاهة تلتقي وتتجافى تمتد وتدور احيانا، وما كان يجعله اشدَّ حبا وتعلقا بمهنته هو أن اغلب من يتعامل معهم كنّ من النساء صغارا وكبارا، وهو المولع بحب النساء، فحينما يندفع بزورقه في احد الشطوط وينادي على بضاعته يصوت خفيض في العادة، تهرع النساء من البيوت وكل واحدة منهن تحمل صاعا ملؤه (الشلب)9 ويتجهن الى الشريعة، وبدون أي كلفة ينادين باسمه (ها يعيسى شلونك …ان شاء الله زين) ويرد التحايا بأساليب مختلفة ..؟ بأسلوب هادئ ورزين للعجائز والكبيرات..(هله بالحجية شلونج شلون شايبكم) وخفة ومرح ( للحديثات) ..قائلا (الله يسهل عليجن أن شاء الله كلجن تعرسن …ان شاء الله كلجن وأظل بس انه) فتنبري له أحداهن). جا شناقصك ايد رجل ..بس انت غير تخاف من مرتك) وترتفع القهقهات ويكثر المزاح …حتى يبادرن بالأسئلة عن أسعار الحاجات…وكم تعادل حاجة ما ..؟ بما يعادلها من الشلب..حيث أن البيع في الريف ليس بالنقود بل بما يعادل أو يساوي الحاجة من الشلب..(القيمة التبادلية) فمثلا ما يعادله بالشلب او ما يعادل نصفه او ربعه بالشلب…أو يكون الشلب ضعفين او ثلاثة اضعاف الحاجة..العملية تجري بالتبادل….وهنا يتبخر المرح وتسكت القهقهات ..وتبدأ المساومة بين الطرفين..ولا بد أن تنتهي بصورة مرضية ..كان عيسى أريحيا جدا …خفيف الدم كما هو خفيف القلب..؟ والذي يجعله يتشبب ب(الحديثات)10 الجميلات فيشبعهن تملقا وإطراءا ولكن على نحو مستتر أو غير مكشوف..أحب هؤلاء وأحب مهنته وحياته، وهكذا يقضي يومه من الفجر حتى غروب الشمس دافعا زورقه راسيا في الشواطي ملاغيا النساء حسب جمالهن، وعلى الغالب يكون غداؤه عند احد هؤلاء القرويين خصوصا عند صيادي السمك والطيور ، فهنا لن يكلف الضيف شيئا..كل شيء جاهز السمك و(الطيور الحره) وخبز السياح او (الطابك) 11ويتبارى الريفيون بالكرم رغم ضيق الحال المقيم وسطهم دائما…يعرفه الجميع وهو يعرفُ الجميعَ بالأسماء خصوصا النساء منهن ( حتهن، وصبريه، وجماله ، وموحه، ونوريه ، ورداعه، وفيهن ، وجنسية ، وبدويه، وتسواهن، وبسهن) الى أخره من الأسماء التي حفرت في ذاكرته..أحبوه وأحبهم، ولكنه كان يعرف حدوده جيدا، ويجيد الانسحاب في الوقت المناسب خشية أن لا يتعرض لمشكلة ما…هنا القانون العشائري هو الحاكم ..وقضايا الشرف والمرأة، هي أهم من تندلع عنده الخصومات والمعارك وتتبعها (الكوامات)12 و(الفصول) 13 الخ،كان على دراية بذلك ..يعرف إن مجرد تفسير أو تأويل كلامه علة نحو سيء. ..؟ معناه أن الأمور لن تكون على ما يرام، وعلى الرغم من معرفته الدقيقة بكل هذا ..لم يتمالكْ نفسه إزاء جمال وفتنة أحداهن ..ريفية تتفجر فتنة وجمالا ..وجه يزدحم النور فيه وقسماته الجميلة تهزل أمامها الكلمات وتنفرط الأوصاف، جاءت بجسدها الذي يتثنى ليونة ورقة وسحرا ..بدعة كانت اسما على مسمى ..انبهر عيسى وخانه حذره ووقاره..وهو يراها للمرة الأولى ..حدق فيها مندهشا ومبهورا …انصرف عن الجميع وتوجه بعينيه وقلبه وروحه لها..كانت بدعة تريد تمرا ..فقال لها

أبو الركبة بهية با عيني

اسويلج مجان أباي عيني

أمشي الله (بشريتي14 (با يعيني) 15

تمر كنطار (مليوج)16 من اديه

لا يخفي اي شي في الريف …الريفيون ليس لديهم أسرار ، بسبب طيبتهم وضيق مفردات حياتهم، والعيش على مقربة من بعض وصلة القرابة بينهم، خرج الرجل عن طوره لأول مره …سمعن المتبضعات ما قال عيسى في بدعة..فنقلنه إلى أزواجهن وإخوانهن ..وشاع الابوذية وتناقلته الألسن ..وتفشى تفشي النار في الهشيم ….سمعه والد بدعة وهو رجل شيخ وكبير لأخوته..قبل أن ينبس بكلمه يتلقفها أبناء عشيرته وينفذونها دون نقاش..سمع الرجل بتشبب عيسى بابنته..وفكر أن مجرد توجيه (كوامه) للعطار يعني إشعال فتيل حرب أولا وثانيا ان سمعةَ ابنته ستكون علكا على الألسن …فكر بطريقة تمنع اندلاع العداوة وتحفظ شرف وستر ابنته ويثأر فيها لنفسه …فأرسل الى العطار ببيت من الابوذيه بيد من يحفظ سرّه ويجعل الأمر طي الكتمان ..ولا يخرب سمعةَ ابنته..

قائلا

جيدك موش جيد النبع ينباع

سطرني وخله دمع العين ينباع

ها التمر التريده عيب ينباع

والف نعله على ابو راعي الشريه

خجل عيسى العطار الخفيف من نفسه وراح يكثر اللوم والتقريع ويطلب العفو والسماح من الرجل والد البنت، والأخير كان عاقلا وناضجا وحصيفا، تجاوز الأمر ولم يرد أن يسعر الأمر

أو فضح ما قيل في أبنته على الرغم من قدرته على فعل الكثير من الأمور ومعاقبة عيسى على ما قال، لكنه اكتفى ببيت الابوذيه واعتبر الشتيمةَ التي وردت في سياقه أقوى عقاب.

1- السياح خبز الرز

2- اصابع العروس نوع من الحلوى في الريف

3- الدانك زورق كبير يستعمل لنقل الطعام والبذور والتكور بكميات كبيرة نسبيا يصعب التنقل والصيد فيه كالمشحوف

4- المردي…..عمود خشبي لدفع الزورق

5- الشطوط جمع شط

6- منيحة بقرة او جاموسة تمنح الحليب ومنتجاته

7- الشريعه ضفة النهر

8- ذب الجرش انتمى لقبيلة مقابل دفع الديات والاشتراك بمناسباتها

9- الشلب الرز قبل نزع قشوره

10- الحديثات….البنات الصغيرات أو ما يقابل الصبايا حاليا

11- الطابك خبز ارز سميك يخبز على قرص طيني بعد تسخينه

12- الكوامه الابلاغ باعلان العداوة مع معتد او عشيرة معتدية بواسطة شخص ثالث

13- الفصل…….الديه

14- شريتي…..كمية من الحبوب حنطة او رز يبادلها مع العطار لشراء حاجة ما بدلا من النقود

15- با يعيني…..بؤبؤ عيني

16- مليوج…..معالج باليد.

مشاركة