قصة قصيرة
إغتيال عائلة
تعالت أصوات اصطكاك الأسنان ممتزجةً مع نوبات الارتجاف و السعال المتكرر وتكورت الأجساد الضئيلة وتقلصت تحت الأغطية المتهرئة كانت تحاول النوم في الغرفة الطينية الوحيدة التي تسكنها عائلة ( خلف ) … الفلاح في أرض صغيرة تابعة لأحد الملاكين الصغار وهم بقايا الإقطاعيين الذين ورثوا هذه الأراضي الموهوبة لأجداده من قبل الانكليز بلا مقابل ورغم إن الانكليز وهبوا ما لا يملكون فان هولاء المالكين يشاركون الفلاحين بنصف ما ينتجون بلا أي تعب أو جهد تلك الليلة كانت شديدة البرودة إلى درجة الانجماد وكأن الشتاء الذي كان ينتظره أبو أحمد ليخلصه من حر الصيف اللاهب يريد أن ينتقم من هذه العائلة لثأر لا يعرفوه. سألت أم عباس زوجها وهي تكسّر تلك الأخشاب والأغصان المبللة بسبب الأمطار التي هطلت ليومين متتاليين لتجعل كل شيء رطب وهي تحاول وضعها في الطشت الكبير الذي باتت له وظائف عديدة فأضيفت له مهنةٌ جديدة لم يعهدها من قبل ليمارس دور المدفأة.. لماذا يا خلف لم تجلب قليلاً من النفط لنملأ المدفأة ..؟ ألم تر كيف أننا لم ننم البارحة من شدة البرد والرطوبة وأنت ترى أطفالك أصابهم المرض كلهم حتى أن أجسادهم صارت زرقاء وطفلتك الصغيرة درجة حرارتها مرتفعة وتأخذ النفس بصعوبة وهي تسعل باستمرار…
خففي لومك علي يا أم عباس فأنا لم أدع باباً يطرق لم اسكب في عتبته ما تبقى من ماء وجهي وأنت تعلمين عزة نفسي التي لم يتبق منها ما افتخر به أمام أولادي أو أورثه إياهم حتى لا يقولوا لم يترك أبانا لنا شيء …
أعلم .. أعلم يا أبا عباس مدى عزة نفسك .. ولكن الشتاء قاسِ والبرد ليس في ساحته رحمة. .. وأنت بعت حصتنا من النفط بدنانير معدودة لنستجدي النفط من هذا وذاك. … وأطفالك رغم سكوتهم فهم يعانون فماذا نفعل لهم ..؟
أطلقت تلك الكلمات وعيونها الحمراء تحتضن أطفالها وتقلبهم وتتمنى أن ترجعهم إلى بطنها حتى يشعروا بالدفئ وياليتها تخرج قلبها المحترق لتضعه مع تلك العيدان المبللة لتزيد من حرارة غرفتها الطينية ولينام أطفالها بدفئ افتقدوه الليلة الفائتة.
أنتِ تعرفين إني بعت النفط لاشتري الأسمدة للزرع الذي كنا ننتظر حصاده لنوفي ما بذمتنا للناس ولكن البرد قتل زرعنا فاغتال معه كل أحلامنا .. وتركني ذليلاً لا أعرف أين أخفي وجهي من ذل الديون… وضع خلف رأسه المثقل بالهموم بين رجليه ولفه بذراعيه وضغط عليه بقوة محاولاً أخراج الألم الشديد منه والذي عشعش فيه منذ أيام.. أمازال الألم يطرق في رأسك ..؟ سألته زوجته محاولة التعاطف معه والتخفيف عنه ..
صمت برهة مستمراً بالضغط على رأسه ليخفف من ألمه دون جدوى …
أتعلمين أني اليوم و بينما كنت انتقل من باب إلى باب أبحث عن بضعة لترات من النفط الذي بات أغلى موجود في البيوت حتى أصبح يساوي حياة الناس و كرامتهم بينما أنا كذلك صادفت السيد مهودر (الملّاك ) صاحب الأرض … وقال لي أنه وكل محاميا ليرفع دعوى ضدي حتى يخرجنا من الأرض.. ويأتي بفلاح أخر بدلاً عني… فهو يحملني مسؤولية تلف الزرع الذي تجمد بسبب البرد رغم محاولاتي العديدة لإنقاذه ..
ياإلهي ماالذي تقوله .. أين سنذهب ولا مكان لنا نلجأ إليه ؟؟ أليس في قلوبهم رحمة ؟؟ ألا يخافون الله ؟؟ أيقفون مع الزمن علينا ..
وانفجرت ببكاء صامت وكأنها كانت تنتظر من يهدم السد الذي بنته أمام دموعها المودعة في تلك العيون الجاحظة.. حاولت وقف سيول الدموع بكمها فلم تنجح .. تزاحمت في رأسها كل الصور .. أطفالها المرضى .. والبرد القارس.. وغرفتهم الطينية وزوجها المنهك من تعب السنين وزرعهما المحتضر الذي أكل معه ما ادخروه لباقي حياتهم … مالذي ستفعله ..؟؟ سألت زوجها و هي أعلم بأنه لا يملك حيلة في أمره ..
لا أدري .. لا أدري .. لا أدري .. قالها صارخاً وهو يصارع الالمّ في رأسه ..
أستيقظ أطفالهم من صراخ الأب الذي حاول أن يفرغ ما بجوفه من همّ … ليجدوا أمهم تذرف الدموع .. فبدأ الصغار يبكون لبكاء أمهم وشاركهم الكبار وتصاعد العويل في الغرفة الطينية ولم يبق إلا خلف الذي كابر على جروحه النازفة ألماً ووجعاً ويأساً وشعر بمرارة وغصة في صدره وهو يرى ما تعانيه عائلته ولا يستطيع فعل شيء لهم…. فكر في كل الحلول نسيان ألمه لوهلة و شرد ذهنه مبحراً يقلب أسماء جيرانه وأقاربه فلان وفلان … أنهم لم يعطوني بضعة لترات من النفط فهل يتحملوني وأطفالي… يا الهي مالذي أفعله سدت كل الأبواب في وجهي فلا زرع ولا مال ولا دفئ وحتى بيتي سيخرجونني منه …. قطعت عليه سلسلة تفكيره رجفة بردٍ هزت جسمه بشدة من أطراف قدميه المتشققة وحتى رأسه الذي يكاد ينفجر من شدة الصداع
ألم توقدي تلك الأخشاب بعد … ؟
إني أبذل جهدي… إنها مبللة .. نعم هاهي تخرج الدخان منها .. الحمد لله … إشتعلت .. أخيراً سنشعر بالدفئ …
توهجت النار في الطشت واشتعلت الأخشاب المبللة بصعوبة و كادت تنطفئ أكثر من مرة ولكن الأم عالجتها بصعوبة لتبقيها مشتعلة و يستشعر الأطفال الدفئ في غرفة الطين .. ولكن كثرة الثقوب والفتحات في الغرفة كانت تعطي البرد فرصة كافية ليسرق الدفئ منهم ويتسلل عبر الفتحات زاحفاً على الأجساد النحيلة الملتحفة ببعضها..
يالهذا الشتاء الذي لا يرضى أن يترك هذه العائلة لمعاناتها ..
أبو عباس هلا أغلقت هذه الفتحات القاسية .. لنقطع الطريق على الهواء البارد الذي يسرق من أطفالنا الدفئ الغالي .. كم أكرهك أيها البرد .. سرقت منا جهدنا لأشهر وسرقت منا طعامنا والآن تسرق منا ما حصلنا عليه من دفئ ماذا ستسرق منا أيضاً ..؟؟؟؟
تعاون الاثنان على سد كل الفتحات والثقوب حتى الصغيرة منها بباقي الخرق البالية لم يسمحوا لأي نسمة هواء باردٍ غادرة أن تخترق حصنهما الطيني وضعوا الطشت الدافئ قرب أجساد أطفالهم لينعموا بدفئ افتقدوه ليلة أمس ولا يريدوا أن يفتقدوه هذه الليلة .. فعلا أنتشر الدفئ في أرجاء الغرفة الطينية .. ما ألذه من طعم افتقدوه .. حشر خلف جسده تحت إحدى الأغطية ليستغل هذا الدفئ ويحضى بنومة أفتقدها منذ يومين وعيناه تقلب أطفاله وتحتضنهم بحنان الأب .. ولكن عاودته نوبة اليقظة وتذكر كمية المشاكل التي حشر فيها ولا مخرج منها و عاود ذهنه الاستغراق فيها فجانبت عيناه النوم… انتبهت الزوجة المنكوبة لعينيه المعلقتان في سقف غرفتهم الطينية والتي تحكي مقدار بحر الهموم الذي يسبح فيه زوجها.. فبادرته لتخفف عنه قليلاً من الهموم
لا تحزن يا طيب فالفرج قريب لا محالة …. صدقني غداً ستحل كل مشاكلنا … في تلك اللحظات التي غفوت فيها ظهيرة اليوم أو ربما أغمي عليّ من شدة التعب رأيت رؤيا عجيبة و تحمل فيها بشرى لنا … لقد رأيت أننا و أطفالنا مسجونين في غرفتنا الطينية هذه و يحاصرنا الذئاب من كل جهة و هم ينبحون علينا وبعضهم يحاول الدخول إلى الغرفة ليلتهم أطفالنا و نحن نرتجف من الخوف أو من البرد أو منهما معاً ونحضن أطفالنا بأيدينا لنحميهم من الذئاب ورأيت أهل القرية يتفرجون علينا ولا يفعلون شيئاً لمساعدتنا حتى أن السيد كان يضحك على ما ألم بنا واطلق ذئبين من ذئابه لتشارك في هجوم الذئاب علينا أما أنا وأنت فغلقنا كل الفتحات في الغرفة حتى لا تدخل الذئاب إليها .. كما فعلنا قبل قليل .. صمتت أم عباس .. فبادرها زوجها.. ثم ماذا حدث يا أم عباسس أكملي…. نعم .. كانت الغرفة مظلمة و كل ما يحيط بنا مظلم ونحن جالسون في الغرفة نرتجف … وفجأة فتحت كوة في جدار الغرفة انبثق منها ضوء أبيض شديد السطوع أنار الغرفة كلها وظهر من خلاله رجل يرتدي البياض ويشع نوراً لم أر ملامح وجهه من شدة الضياء الذي تخلل إلى أجسادنا فشعرت بدفئ لم أشعر به من قبل وسرت في أنفسنا طمأنينة عجيبة لم نشعر بها في حياتنا وتوقف أطفالنا عن السعال ونهضوا من فراشهم .. فدعانا هذا الرجل إلى دخول الكوة المشعة بالضياء . ومغادرة غرفتنا الطينية وفعلاً مشينا نحو الضوء… ودخلنا النور وغادرنا غرفتنا الطينية وصعدنا الى السماء برفقة ذلك الرجل … فصحوت من نومي …. ومازالت نفسي تستشعر ذلك الاطمئنان وكأنها أغتسلت في نهر جارٍ فنزعت عنها كل أوساخ الدنيا وهمومها … أنها رؤية رائعة تحمل الأمل والبشرى لنا… سكنت نفسه القلقة .. وهدأ الألم المزمن في رأسه بعد أن سمع هذا الحلم من زوجته .. قاطع كلامهم نوبة السعال الشديدة لطفلتهم الصغيرة ولكنها سرعان ما هدأت لتخلد العائلة إلى نومةٍ هادئة حول طشتهم الذي تحترق فيه الأخشاب المبللة لينعموا بالدفئ والنوم …
في ظهيرة اليوم التالي جاء (الملاك) ومعه شرطيان يحملان بندقيتين وورقة طرقوا باب الغرفة الطينية واستمروا بالطرق كثيراً بلا جواب من ساكنيها…… أضطروا لكسر الباب ليدخل الملّاك والشرطيان والشتاء على جثث نائمة بهدوء …
صدمت القرية على فاجعة مقتل عائلة (خلف ) و لم يعرف من هو القاتل لحد الآن و لكن سجل في وقوعات مركز الشرطة أنهم ماتوا خنقاً بسبب دخان أخشاب محترقة في طشت …
علي فاهم – بغداد
AZPPPL