قصة قصيرة
ترنيمة الحياة
رفيق دربي في الحياة كتابي، لم اتخذ صديقاً حميماً غيره، يرافقني أو أرافقه في تجوالي لحقول وبساتين مدينتي، تنتابني الذكريات المتدفقة وأنا احمله، انظر إلى سنابل القمح بحملها الذي يقتات عليه البشر والكائنات الأخرى، قوامها جميل، رشيقة حد الإغراء، يستطيع الإنسان أن يسمع تنفسها عندما يجند جميع حواسه ويصغي إليها، تتمايل مع ريح الصبا كأنها شعر لفتاة في العشرين من عمرها، أجد نفسي معها في عزلةٍ لا قرار لها فيذهب خيالي إلى ابعد الأشياء حتى استفيق على رفرفة أجنحة الفراشات بألوانها الزاهية التي تلوحها الشمس فترسم بأشعتها عليها أيقونات الفرح الخالد الذي لا يستمر وسرعان ما يصبح فيما بعد حلم آخر، أحب ذكرياتي وهي جميلة في حقول وبساتين مدينتي التي يفوح منها عطر نباتي منعش تجعلني وغيري من الناس أكثر عشقاً للحياة. انظر إلى ألوان أجنحة الفراشات التي تمتد أمواجها فترسم على المكان لوحة لفنان ماهر تفوق بجمالها كل الأشياء، يفر لها قلب الناظر كطير ضائع، الحقول، الأرض، البساتين، المياه، الناس، كلها جميلة، لماذا نجعلها حبلى بالمللّ والأديان والطقوس فنجعل منها بركان خامل ينشط بعدما تحركه أيادٍ خفية تريد لها الخراب والدمار بعدما كانت معطاء ينبهر الوجود لعطائها ربما لوسيلة أو غاية لهذا أو ذاك.
تصفر الريح الخفيفة بهدوء تتمايل مع سنابل الحقل، أوزع نظراتي على كل الأشياء التي من حولي، تحمل معها رائحة التمر العراقي، تمر بلادي بكل صنوفه، قلت في داخلي (إن عالم الحقول والبساتين من حولي له نظام هائل من الصنوف التي تجعل الحياة تدب في مخلوقاته، الحركة، الإشارة، التنفس، الغذاء، ما جعلني أتأمل ذلك بإمعان لهذه المخلوقات).
جلست القرفصاء انظر إلى عباد الشمس وهي تولي وجهتها لأشعة الشمس أينما انحدرت، غادرت المكان، أتمشى ببطء يملأني شعور بالغبطة والسرور لهذه الخضراء والماء التي لا ينقصها سوى الوجه الحسن ليشاركني في غبطتي هذه.
ملاذي ورفيقي الكتاب، النخلة، التي لا تحتاج هي أن تبتسم بالمقابل، ففمها مصبوب في حالة ابتسام منذ ولادتها في هذه التربة الطيبة، التقيها لكل الأوقات فاشعر بعزلة كونية لا مثيل لها محاولاً امتصاص رتابة الزمن التي ظلت تنخر عظامي فاكتب جاعلاً من الكتابة نشيد يجد أصداءه من جزيرة نائية.
منتصف الليل لواحدةٍ من ليالي آب بطقسه الحار جداً، تلمست طريقي في البستان على ضوء القمر الذي لاح لي مع النجوم من خلال سعفات النخيل متجهاً إلى جرف النهر، الليل صديقه مختلف الأشياء، عيونه، ظلمة المكان، طقطقات السعف، كلها تجعل للمكان رهبة مخيفة أحياناً ترتعد لها أوصال جسدي وأوصال جسد رفيقي الكتاب، لكن على الرغم من ذلك لدينا شعور بالحرية…. الحرية، ما أجملها، سمعت حفيف للشجيرات الصغيرة المزروعة تحت أشجار النخيل مما يدل على أن شخصاً ما يتبعني، توقفت أرهف السمع، انقطع الصوت، عاودت السير، تكرر الحفيف مرة أخرى، أيقنت عندها أنه فعلاً هناك شخصاً يتبع أثري، ناديت عليه: من تكون يا هذا ؟!!، لم يرد، أوجست خيفة من المكان، أأستمر أم أرجع يا ترى، تسمرت في مكاني عندما رأيت شخصاً كأنه شبح أسود يتجه نحوي، حاول أن يختفي وراء النخلة عندما صار بمواجهتي، قلت بصوت عالٍ جداً وجسمي يرتعد: قف مكانك ولا تتحرك وإلا أرديتك قتيلاً، وقف مكانه، اقتربت منه وأنا أصنع من أصابع يدي هيئة المسدس!! نعم هيئة المسدس، علماً إني اكره بل امقت اشد المقت هذه الكلمة، ولم احمل سلاحاً قط، ولن احمله، لأني لا اعرف استعماله طيلة حياتي، بعكس الأوغاد المتمرسين على القتل والسلب والاغتصاب وسرقة المال العام، قلت له:
– ضع يديك خلف ظهرك واستدر إلى الوراء.
فعل ما أريد، مرت لحظات، اقتربت منه، وجدت قناعاً على وجهه، يخفي معالم ذلك الوجه حتى العينين، بحركة سريعة منه شعرت برأس السكينة في ظهري وقال:
– لا تتحرك وإلا غرستها في ظهرك.
شعرت عندها أني مخلوق ضعيف، غير مؤذي، وفعلاً إني غير مؤذٍ، وهنا تحطمت كل دفاعاتي، ربما أواجه الموت في هذه اللحظة التي جعلتني مسلوب الإرادة مثل دودة عمياء!!!
قلت:
– اتركني، لا تقتلني!!
– لا تخف، لن أقتلك، لكني أُريد إحدى كليتيك!! صديقي العزيز بحاجة ماسة لها لأنقذ حياته!!
– فعلتك غريبة، تقتل إنسان لتسلب منه إحدى كليتيه لتنقذ بها إنسان آخر، ما الذي تفعله؟ لكونه صديقك، اعتبرني، أنا صديقك!!
– لا، أنت لست صديقي، أنت،……..، وتوقف عن الكلام.
قلت:
– طيب، أنا لا املك إلا كلية واحدة، ربما لا تكون صالحة لصديقك، اتركني وأعوضك بالمال الذي تستطيع أن تشتري به كليةً تنقذ بها حياة صديقك العزيز!!
قال:
– أبداً، سأنفذ ما أريد!!
قلت:
– ربما تُخطئ إذا حاولت استخراج كليتي، فتمزق أحشائي وتتلف أنسجتها وبالتالي تخسر ما تريد ووفاتي في الوقت ذاته لذا أرشدك إلى طريقة مثلى!!
– ما هي؟!!
– نذهب سويةً إلى المستشفى وأتبرع لك بكليتي الوحيدة!!
قال:
– صحيح، أنت لديك كلية واحدة.
– نعم.
– وكيف اضمن ذهابك معي إلى المستشفى؟!!
– أعدك بذلك، صدقي ووفائي، والله على ما أقول شهيد!!
– هل أنت مخلص بوفائك؟
– سأكون مخلصاً!!
قال:
– الإخلاص يوجد لدى العشاق فقط.
– ربما أنا عاشق!!
سرنا معاً، أنا أمامه، وهو خلفي بعد أن رفع رأس السكين من ظهري، عاد لي هدوئي بعد أن صرت ضحية ترتعش في الهواء بصوت ضعيف بجانب هذا المتهور الذي يعتبر تهوره ضرورة في نفس الوقت.
قال بعد أن لاح الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر:
– عندما أحدثك لا تلتفت إلى الوراء!!
– سمعاً وطاعةً!!
– كيف حال حبيبتك؟
– من أين لك هذه المعلومة؟
– لا عليك، أجب!!
قلت:
– صارت علاقتنا (مد وجزر) كمياه البحر، تزعل بشكل مفاجئ وتعود بشكل مفاجئ، وهكذا أنا، لا استطيع أن اتركها، ولا استطيع أن أعود إليها، عندما أحببتها تصورت إني في نعيم الفردوس متذوقاً حلاوة ذلك الحب، شعرت إن السعادة لا تناقش الزمن وإنها لحظات لا تُهزم، كمن يعتقد أن الحياة سهلة جداً، لكنها غادرتني رغم إني كنت معها حميمياً وعندها لم أضع أية خطة للمستقبل، ولم افعل أي شيء، لأنه لا شيء يهم، اعتقدت إنها أخذت العالم معها، حتى عدت لم اشعر بوجودي كمخلوق، كانت جميلة لا تشبه أية امرأة من مدينتي… قال:
– كيف بادلتها الحب؟
– كنت عائداً لمدينتي، رأيتها في مرأب السيارات، قلت في نفسي (سوف اسألها أن تغادر معي)، اقتربت منها، نظرت إليَّ بعينيها السوداوين، جعلت وجودي بقربها كأنه مصادفة، سألتها: (من أي مدينة أنتِ؟)، لم يظهر عليها أي تعبير، ثم قالت (من ميسان) قلت لها (أحبكِ وأريدكِ أن تأتين معي)، استدارت نحوي مستغربة القول، هل هذا مجنون، نظرتْ إليَّ تتفحصني، بدت نظراتها المتفرسة ناعمة، ارتعد جسدي خوفاً من أن تصدر منها إساءة أو تستغيث بالشرطة أو الآخرين لتخبرهم بالعرض المجنون لاسيما ونحن في مجتمع عشائري يرفض هذه الأمور ويعتبرها معيبة للشرف والأخلاق، أجبرت نفسي على التحديق إلى الأرض كي لا تنفضح مشاعري.
قبل أن أتكلم صارت بجانبي في السيارة، وصلنا ميسان، التقيناً مراراً، أكثر لقاءاتنا في حمرة الشفق الرائعة، الساعة التي تودع فيها الشمس هذا النصف من الكرة الأرضية وعلى نهر دجلة.
قال:
– هل ترى الشمس في منتصف الليل؟
قلت:
– سبحان الله، لكل نبأٍ مستقر، كيف استطيع ذلك، إذا كان في صدرك من علم أخرجه لي!!
– بلى تستطيع متى ما اكتسبت الحد الفاصل بين الحياة والموت، وهذا لا يأتي إلا عندما توصل نفسك إلى حالة مميزة من الإدراك تكون فيها مؤهلاً لتلقي المعلومات من وعيك الباطني وهي حالة القدرة على التنبؤ والولوج إلى جوهر الأشياء، عندئذٍ تكتسب القدرة على رؤية المستقبل ورؤية ما لا يُرى وهي أن ترى الشمس في منتصف الليل!!!
قلت:
– أمرك عجيب أيها المخلوق، من أي بشر أنت؟!!
صار أمامي وابتسم بفرح بعد أن أماط اللثام عن وجهه وقال:
– أنا أخوك فلا تبتئس!!
– لماذا فعلت هذا إذن؟
– لكي أُعلمك ترنيمة الحياة مرة لليأس وأخرى للفرح في آنٍ معاً.
رحيم حمد علي- العمارة
/6/2012 Issue 4220 – Date 7 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4220 التاريخ 7»6»2012
AZPPPL