قصة قصيرة

قصة قصيرة
حروف لها معنى
قبل عامين وقد أنهيت شهر رمضان المبارك في سوريا متمتعا بجمال الطبيعة وجوها اللطيف ونعمة استمرار الكهرباء فمر شهر آب ولم أحس بحره .
عدت بالطائرة.. وكانت الساعة التاسعة صباحا .. وعلى المقعد بجانبي رجل يتسم بالهدوء متأنق في ملبسه وجهه يفيض حيوية تبدو علامات النعمة والثراء على محياه .
حييته : صباح الخير .. أستاذ .
فرد علي بمثلها وأضاف أنا لست بأستاذ .. أنا رجل أعمال .
جرى الحديث بيننا عن الأحوال والشؤون فسألته عمن يكون وعما جاء به الى سوريا ؟ .. تحدث ما شاء له الحديث : –
– أنا ( ريان ) أبن الحاج ( سالم ) : وكانت سفرتي للنزهة والاستجمام ولقضايا تجارية .. واستطرد يحدثني عن تطورات حياته المالية – بعد أن تعارفنا – حيث كنت أتبضع منه منذ أكثر من خمس عشرة سنة .. الحاجيات المنزلية .
– قال : – أملك الآن عدة شركات لنقل المسافرين برا بين العراق ودول الجوار . وأملك أسواقا متنوعة الاختصاصات .. في الكرادة و الحارثية . وانتقلت من داري القديمة في ( بغداد الجديدة ) إلى حي ( المنصور ) ..
اختتم حديثه بدعوتي لزيارته في داره وزودني برقم الهاتف .. وعنوان الدار .. شكرته على الدعوة واتفقنا أن تكون الزيارة خلال أيام العيد السعيد …
وبعد تحليق ساعة ونصف حطت بنا الطائرة في مطار المثنى وكانت المضيفة السورية شابة نشيطة الحركة بعمر الربيع وعلى وجهها مسحة رائعة من الجمال لا تفارق البسمة ثغرها ولا يفارق البريق عينيها ..تتكلم اللهجة العراقية بطلاقة .. تهتم بكل المسافرين .. ودعتنا وصافحتنا بيدها الناعمة الملساء .. كان ذلك مبعث سعادتنا وراحتنا .
افترقنا .. وتوجه كل منا إلى داره .. وكان في استقبال صاحبي اسرته بسيارتهم الفاخرة .. وأنا أقول : (يرزق الله من يشاء بغير حساب) .
وفي ثالث أيام العيد .. قمت بزيارة للسيد ( ريان ) فاستقبلني بحفاوة وأدخلني غرفة الاستقبال مخترقا ممرا طويلا تحيط به أشجار العنب والبرتقال .. وتتعانق فيه المصابيح والبنفسج والياسمين … بهرني البيت لبنائه الجميل .. شاهدت بهوا متسعا أنيقا فرش بالآثاث الفاخرة .. وحليت جدرانه وأركانه بروائع الفن من صور وتحف . تزينه حلة من الأنوار المتموجة ذات الألوان الزاهية .. شرفاته مطلة على الحدائق الغناء المحيطة بالقصر ..
كان الزوار والمهنئون بعيد الفطر السعيد يتوافدون فرادا وجماعات .. قدم الغداء عمال ( تايلنديون وماليزيون وهنود ) .
وبعد استراحة القيلولة تجولنا في حدائق القصر .. نتنسم فيها الهواء المعطر بأريج الزهور . كانت روعة في التنظيم والجمال .. الأشجار منسقة وأفرعها تتمايل بزهو من مختلف الأصناف والأجناس .. عطر الزهور يفوح بين أرجاء القصر … وزهور البنفسج والأقحوان والقرنفل وشجيرات الورد المنتشرة على هيئة أهلة ونجوم .. الفلاحون الأربعة منتشرون كل في قسمه .. ينظف ويرتب ويسقي ….
وفي ممر البيت تقف أربع سيارات حديثة الطراز .
طلبت أن ألتقي والده الحاج ( سالم ) فأخذني الى غرفته وعاد لاستقبال الزوار والضيوف .
سلمت عليه .. واستفسرت عن صحته وأحواله وسألته عما رأيته من تغيير في حياة ولده .
قال : وبألم ومرارة – إن الولد خسارة وربح .. فولدي هذا خسارة لي .. لأنه لم يطعني وانقاد الى هواه والى مصادقة أصحاب السوء واللصوص .. وأنا غير راض عنه ولكنني عاجز عن ردعه بسبب ما تراه من ضعف بدني .. فتراني محدوب الظهر .. وعصاي ترافقني أتوكأ عليها .. منهوك القوى …
– الله يحفظك ..ويعافيك … وبعد يا عم ؟
فأضاف : – إن كل ما تراه هو من المال الحرام .. والمال السحت …
فقد أتخذ من عوز الناس وسيلة للربح … فاحتكر ضروريات الحياة التي يحتاجها المواطن .. خلال الحروب التي مرت بالعراق يتاجر بالأغذية والسلع وقد أبتسم له الحظ : : وهو يردد ( جاء الدولار .. عاش الدينار ) :
يبيع بأضعاف ما أبتاعه .. فهو مجرم .. سواء سكن القصور .. أم السجون مستقبلا . واستمر بالحديث مستثمرا أنشغال ولده باستقبال ضيوفه :
– كل أمواله من المضاربات التجارية واعتماد السوق السوداء .. وأخيرا قالها بحسرة قاتلة .. وبعد الاحتلال المشؤوم .. إغتنموا الفوضى التي حصلت آنذاك … هاجم وشريكه (حمدان) المصارف الحكومية وسرقوا مع من سرق آلاف الملايين من الدولارات . فأثرى ثراء فاحشا وأمسى يلعب بالدينار لعب عابث مقتدر .. زاهيا بثروته .. : وكل ما تراه وما رواه لك عن أملاكه وشركاته وأسواقه من المال المجرم .. الحرام .. المال العام .. وقال وكأنه متأكد تماما :- أتوقع له نتيجة سيئة .. وصمت . دعوت الله له بالعافية وخرجت لأودع صاحبي .. الذي طلب أن لا أغيب عنه كثيرا .
وبعد عدة شهور قررت معاودة زيارة صاحبي .. استغربت حين وجدت الباب مغلقا بأحكام .. مختوما بالشمع . ولا حركة منه تدل على وجود ساكن .
– ماذا جرى للرجل ؟
وعند مراجعتي لمستشفى اليرموك لأجراء الفحوصات المطلوبة لي فوجئت بالحاج ( سالم ) في صالة الانتظار .. فهرعت أليه :
– السلام عليكم يا عم . رفع بصره ..
– أهلا يا ولدي ( حسن ) .
قلت :
– ما ذا حصل لكم ؟ وجدت الدار على غير حالها :
فأن وبكى واستدرك قائلا :
– إن ( ريان ) كان في الغرفة الحصينة التي جعلها ( قاصة ) لدولاراته ودنانيره .. يقلبها وينثرها ويأنس لمنظر ما يرى .. وأسمعه يقول لولده ( نادر ) الطالب في كلية الهندسة .. تعال نشتق حروفا ونكون كلمات .. ولنأخذ كلمة من أمامنا مكونة من ستة حروف .. عند مداعبتها يخرج منها روعة الكلام .. كلمات لها معنى .. أكتب منها قصة أو خاطرة .. أجمعها ( دنانير ) ودنا ( ريان ) من دنانيره .. كان أسمه من سادسها وخامسها وثالثها مع رابعها . كانت نائمة .. لا نفع فيها ولا مكرمة . سأله ولده : –
– ما الغاية من كنز هذه المبالغ الطائلة التي لم تساعد فيها سائلا أو يتيما أو محتاجا . فرد عليه : –
– إنها لمستقبلكم ..أمان وضمان لحياتكم ..
ثم فكر مليا بمشروع وقال لولده : – سأشتري ( دارا ) لكل من أختيك ( دينا وندى ) ولك يا ( نادر ) مضيفا : –
-أسماؤكم من حروف هذه الأوراق الجميلة الزاهية بألوانها : :
كان يملك ( نايا ) نفخ فيه .. أخرج صوتا .. تراقصت الدنانير ونادته : – ها نحن لك تهلكة : : أرتبك ( ريان ) مما سمعه وردد أغنية المساء المتفائلة كي يريح أعصابه المتوترة ينظر اليه ولده باستغراب لتصرفاته المرتبكة فيسأله : –
– ما بك يا والدي ؟ فيقول له : –
– جاءتني فكرة جميلة .. أريد شراء دار أخرى … بدنانيره المجرمة .. هدأ الدنانير وقال لها : – أجعلكم مكرمة : :
( سادسها ورابعها ) رن .. رن جرس الدار .. ارتبك .. وفزع .. وشبت ( النار ) في قلبه وحاول الهروب ..لم يتمكن لأن دنانيره أمسكته وأصبحت له محرقة .. لأنها مجرمة ..
ثم قال الوالد مكملا حديثه :-
-إن الله لا يغفل ولا ينام . ولم نعلم أنه أختلف مع شريكه ( حمدان ) .. وكما يقول المثل العربي : ( إذا تخاصم اللصان ..ظهر المسروق ) . فوشى به .. واقتيد ذليلا مهانا بعد مداهمة السلطات الأمنية للدار .. إلى نهايته المحتومة .. وصودرت الدنانير والأموال المنقولة وغير المنقولة … وصمت العجوز .. وطال به الصمت وهم مطرق برأسه الى الأرض .. ثم قلت أستحثه على أتمام الحديث : وما ذا حدث بعد ذلك يا عم ؟
فهز رأسه وقال بصوت خافت : – – لا شيء .. أكثر مما رأيته .. الخراب والموت .. وواصل حديثه : – لقد لجأنا إلى دارنا القديمة وهي كل ما بقي لنا .. دارنا التي بنيناها من عرق الجبين وتعب السواعد النظيفة .. فظلت نظيفة..
واختتم حديثه بلهجة مريرة وساخطة :
= هذا جزاء من يجاوز حده ( وسبحان من له الدوام )
محمد السيد ياسين الهاشمي – بغداد
/6/2012 Issue 4219 – Date 6 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4219 التاريخ 6»6»2012
AZPPPL