قصة قصيرة 1
وتلك الأيام
كان يوماً غائماً وهناك غيوم وجلبة رعدية قاتمة في الأفق لواحدة من ليالي الشتاء الباردة ،زرت صديقي الحميم ، صديق طفولتي التي استمرت حتى أيام الشباب إلى يومنا هذا ، والتي ظلت في حدود المحافظة على القيم والتقاليد رغم تناقض الرغبات بيننا كي اخفف عنه وطأة معاناته ، وفاة زوجته بسرطان الثدي ، الذي ظهر في البداية على شكل بروز أحمر على ثديها الأيمن ، لم تشعر بهذا الدمل طوال مدة نموه ، كان يكبر وهي مشغولة عنه ، حتى صار ورم طوله وعرضه خمسة سنتمترات ،أجريت لها عملية إزالة هي كخطوة أولى ، ثم أتبعتها الخطوة الثانية العلاج الكيماوي ،حتى تفاقم المرض وتم بتر ثديها وبعدها توفيت وهي في شبابها المبكر ،يحبها من أعماق نفسه ،أراد ان يترك التعليم ، وصار يبحث عن غيره ليحصل على مرتب يسد به رمق أسرته راتب الثلاثة ألاف دينار التي يتقاضاها ومقصلة الحصار جعل أسرته ،تعجن الطحين الأسود وتغمسه بالوجع والأنين والمأساة لتشبع البطون الفارغة ،انتعش شبح الجوع الحرمان في تفاصيل حياته.
قال لي وهو يرمي قطع الخشب الصغيرة في موقد البيت المتواضع المؤجر الذي يقطنه في الحي الشعبي لمدينة العمارة مركز محافظة ميسان .
هذه الليلة كأنها ليالي الشتاء النووي ، لا زلت اشعر بالبرد ،الذي يرافقه المطر ، أحب المطر كثيراً ، بعد الله ووالدي وزوجتي والكتاب ، هي أحب الأشياء عندي في الوجود ،أذا لامس جسدي المطر ،اشعر ان عرش الله في قلبي وليس في السماء ، وقطراته التي تلامسني أتذوق منها حنان وكأني في أحضان والديٌ ,أما النشوة التي يبعثها فيٌ , هي نشوة عارمة بنفس القدر الذي أنشي به من زوجتي لكون حبي له حقيقة دون ان يكون خدعه , حبها أشعل بداخلي بركانا من العشق يكون دائما قابل للاشتعال ,أما الأفق الذي يرسمه المطر,هو نفس الأفق الذي اغرق فيه عندما اقرأ كتابا لاسيما كتب الرواية , لهذا أحبهم والمطر, وماسوهم أحبهم بقدر أخر
وانأ أين أكون من هذا الحب؟
أنت مع القدر الاخر
قلت
هل أنت متدين لكي تكون صالحا؟
ليس هكذا ، أنت صالح أذن آنت متدين ، وليس أنت متدين إذن أنت صالح ، ندعي جميعاً إننا صالحون ومتدينون وأننا الحقيقة وحياتنا عظيمه ، وهذا هو النفاق البائس ،لان صورة الحياة هي نفسها منذ الأزل ، والإنسان ضحية الإنسان .
تأملته جيداً وأنا ألزم الصمت ، أدركت أن صديقي الذي يشبهني إلى حد ما في التصرف والتأمل ، انه يريد أن يكون ويفعل ما يريد أن يفعل .سألته قائلاً وأنا أنظر إلى شبل صغير من الكتان موضوع على رف في زاوية الفرقة
أتحب العالم حيث يكون الزمان المكان خالدين وحاضرين ؟
لا ، لا أحب ذلك لكن أحب أن تتحقق أحلامي وان كانت في غير الإطار الذي لا يرغب فيه غيري ،لأن العالم والوجود عبارة عن وعود ، يغرينا فيها الحب يوماً، ويباعدنا الموت يوماً ، وها أنذا الذي أمامك أبعد الموت عني زوجتي التي هي أميرة حبي وعشقي ، ونحن مخلوقات ضعيفة معذبه ، حياتنا مريرة وظالمه بحد ذاتها
لكن ذلك قلما يهم ، فالزمن ليس قرص ليزري يمكن أعادته وقت ما تشاء
قبع مكانه بلا حراك ، مركزاً في التفاصيل التي حوله ، النار والموقد ، كفاقد الشيء الذي يبحث عنه .
أردفت قائلاً وأنا أربت على كتفه الأيسر
أشاطرك مواساتك في الذي أنت فيه ، كانت زوجة مثالية صبورة على عاتيات الزمن ، الله يرحمها ،لقد شهد لها الناس أنها أكثر رسوخاً مما كانت تتصور هي نفسها في مجتمع تستند كرامته على الحياء .
قال
شكراً لك ، لقد أرهقتك ،مشتاق أليك .
قاطعته قائلاً
لا تقل هذا يا رجل نحن لبعضنا .
استمر قائلاً
وهو كذلك ، فعلاً ، هي زوجه مثالية ، ماتت وماتت معها أمنيتها في ان يكون لها ولد ، ذات يوم قلت لها أنا مقطوع من شجرة ، لا أخ لي اشد به عضدي ولا عم ولا خال ،والآن لا ولد يرثني ويرث هذه الاسرة ، ليس أرث المال أو السكن ، أني لا أملك الاثنتين ، ولكن يحمل اسم الاسرة على أقل تقدير ،قالت لا عليك ،سأنجب لك ولد ،قلت كيف يتم ذلك وأنت بدون رحم ،قالت بلى سأقوم بأجراء عملية زرع الرحم , المتبرعة أختي , التي لا ترغب بعد الآن بالإنجاب واكتفت بطفليها ،قبلها أرادت والدتي ان تتبرع لي برحمها ،لم أوقفها ،لأني لا أريد ان الد من نفس الرحم الذي ولدت منه ،واكتفيت بالموافقة على زراعة رحم أختي ،قلت ان عملية زراعة الرحم غير مضمونة العواقب ،فبعد الزراعة تتم عملية تلقيح خارجي ثم يتم نقل الجنين إلى الرحم المزروع وبعد الولادة تخضعين لجراحه ثانيه لإزالة هذا الرحم المستعار ،كما ان صعوبة العملية تكمن في كون الرحم من أكثر أجزاء الجسم احتواءً على الأوعية الدموية وبالتالي فان احتمال حدوث نزيف أثناء الجراحة يكون كبيراً ، هذا ما يؤكد عليه الأطباء لمثل هذه الحالة ، بالإضافة الى ذلك ربما ان العملية قد تفشل اذا كان جسمك يرفض الرحم المزروع ،لكنها أصرت على زراعة الرحم المستعار ، وافقت على هذا العرض ببراءة الطفل المندهش لمرآى الأشياء الجديدة التي يراها للمرة الأولى ، محاولاً أن أصطاد الذكريات التي تربطني بها لأختم بها حياتي لتكون هذه الحياة حافلة بعطاءها الجميل الثري الذي ربما ستغدق به عليٌ للأيام المقبلة من هذا العرض الرائع ،عند ئذ عانقتها قائلاً احبك كأمي التي أعتبرها بركة نرجسيه رقراقة أتطهر بمائها لا تخلص من أدران واقعي المقيت ، حينها قالت لا تخف من العواقب ،ستأتي سليمة ،طالما عشقتك عشق الحياة التي لا أريد ان أبددها عبثاً ،بل اعد نفسي جذلة للحظة الإبحار الغامض في أعماق الابديه ، إلا أن الأمور جاءت بما لا تشتهي السفن ، داهمها المرض الخبيث .
عانقتني وأذرف الدموع ثم أردف قائلاً
ساعة وفاتها ، أحلك ساعات وجودي ،أنها لساعة رهيبة حقا
قلت له بعد ان مسحت الدمع من وجنتيه وانأ أربت على ظهره
اجعل الإيمان لله في قلبك وحب الحياة كما تريدها أنت وليس كما يريدها الآخرون لك الإنسان يعرف الله بقلبه لا بعقلة لان العقل يختلف بين اثنين في حين ان القلب واحد لكل منهما ونبوة الرسول الكريم ص أراد منها قبول أفكاره وأرائه الإنسانية فهو لا ينطق عن الهوى كي تتحرر الناس ، لا تبتئس ، البؤس الروحي يولد التخلي عن الذات والتضحية بالنفس .
قال وهو يعصر جبينه بين يديه بعد ان ضرب ملقط الخشب برجله
اشتاق إليها في كل اللحظات أنها معي أينما كنت واكرر كل ما قلته لها تصور ، كنت أحاورها قبل ان تدخل أنت ألان ، حيث قلت لها ذات يوم في وجنتيك نور عندما انظر الية ينتابني إحساس بأني اشهد منظرا منفرجا على أيماءة قد تكون معاصرة لاول انفصال مقدس للنور السماوي .
حبي لها هو العشق الحقيقي الذي شعرت بة أني كائن مختلف عن بقية الكائنات ، كنت معها اشعر ان عمري سيكون بعمر النبي ادم أو نوح ، أردت ان اجعل حياتنا معا جميلة ، لا ان أفسد عليها الدفء الذي نحن فيه ، حبها في قلبي ليس إلا ، وحب القلب هو الحب الحقيقي للوجود ، كنت دائما اكرر عليها القول نحن ثلاثة أنت وأنا والقدر
وفعلا لعب القدر لعبته وها إنا وحيد ، لامعها وربما لامع القدر ، حبها يا أخي يقتلني ببطء ، هي عندي أهم الأشياء ، هناك في الحياة أشياء لا نشعر بقيمتها ألا عندما نفقدها ، أبعدتها عني الرياح العاتية بعد ان حملتها لي ، صرت شراع ممزق لا يقود السفينة إلى بر الأمان ، ليس عندي ألان إلا التفكير بها ، بفارغ الصبر انتظر الليل ليكسوني بغطاءه الأسود ، وبعد انقضاءه انتظر ، شروق الشمس ، علها تأتيني بجديد وهي تغرقني بضيائها الباهر ، الا انه رغم حزني وشدة المي ومعاناتي فأن أيماني بالله لا حدود له كما قلت لي انت ، فهو الذي صاغ أرواح البشر منذ بدء الخليقة ، الا أنه اشعر أحياناً ، ان هذا الكون ما هو ألا سجن كبير يحكمه أباطرة الباطل ،كل ليلة استغرق في تفكير مكثف لم استطع معه النوم ، أتقلب في فراشي محاولاً السيطرة على ألم الذكريات لعل الألم ،
رحيم حمد علي العمارة
/7/2012 Issue 4252 – Date 16 Azzaman International Newspape
جريدة الزمان الدولية العدد 4252 التاريخ 16»7»2012
AZPPPL