قدور مطبخ الأم – نصوص – نعيم عبد مهلهل
مغطى بأزهار،
على الفور، ودي أن أموتَ
بحلم يجمعنا
(تسوجين شاعر ياباني )
عبر نافذة القطار يمدُ الليل للمسافات أذرعا من ذكريات تتدلى سيقانها تحت أجفان المسافرين وقد سكن الكثير منهم تعاس لحظة ما تتأرجح بين غرام قديم ولحظات مؤثرة فيما فضل البعض قراءة كتاب ما ، واغلبها تنتمي الى كتب الجيب ، والسائد هذه الايام رواية لمارغريت دورا بعنوان (العاشقة ).
ذاهب الى شارلفيل تفتش قي خبايا الرغبة عن شيء ، تريد أن تثبتَ فيه أن الذي كنا نتمناه في لذة ما تمنحه لنا المشاهد الملونة والصاخبة في أفلام السينما ليست أساطير حتى لايمكن تحقيقها بل سيحققها حلمكَ المتشح بزرقة السماء التي كانت تعلو سطح غرفتك الطينية . الحلم الذي يستطيع ان يمسك الواقع بإرادة نبض قلبك يوم قررا أن يلامس موجات نهر السين تحت جسر ميرابو حيث كتب ابولينير قصيدته وانت تكتب وقائع تحقيق ما كنت تحلم به.
أتذكر أبي في تفسيره لبدء مشاعر البشر أزاء تجاربهم الحياتية حيث يبدأونها في حكاياتهم لأبنائهم بعبارة (( ذات يوم )).
وهي العبارة نفسها التي سكنت رأس شهرزاد التي افتش عن نظراتها بين اجفان المسافرين الذي ليس فيهم من يذكرك بالشرق سوى امرأة تحمل وجها صغيرا بحجم كف طفل رضيع وأظن أنها من فيتنام. ولكنها ليست من الشرق الذي تنتمي اليه احاسيسك وجوانحك بالرغم أن بلدها كان يلهم شبابك بحماس الثورة ، عندما كان صحن الرز الذي يقدم لعشاء هوشي منه يدعونا الى تقديس البساطة في الحياة من رجل هو من بعض متصوفي وزهاد الثوار في القرن العشرين.
القرن ذاته الذي ولدت فيه برجيت باردو التي قطعت بسبب خيالها تذكرة سفر من تلك الفاتنة التي اجلت طقس غرامك معها لحين عودتك من اللحظة التاريخية التي تسكن رغبتك من اجل التقاط صورة قرب تمثال صبي شارلفيل.
يضحك طيف أبي وأمي تهمس مع حزنها : أعوذ بالله.
من حقها أن تتعوذ حياتها كلها وهي تلوذ بأواني المطبخ وعباءتها وتفريخ الدجاج من اجل لا يدفعها العوز لتستجديَّ بنظراتها الحزينة الخروف المذبوح والمعلق في واجهة دكان الجزار ، وكانت تقول لنا : كلوا الدجاج هو أيضا مائدة الملوك ، أما لحوم الثيران والخرفان فهي لأولئك الذين يعتقدون أنهم حتى ينتصرون على الاضاحي التي تقدم كنذور من اجل احلامنا يشترون الخروف بنقودهم ويذبحونه ويناولوه بشهية انه اضحية من اجل يزيد ثراءهم وحتى تعرف سكاكينهم الطريق الى رقابنا.
تلك كانت حكمة أمي ، أثثت لشهية الدجاج وجودا في بطوننا ، لهذا كلما ارى دجاجة ،اتذكر أمي في خجلها أمام أبي وهو يقف أمامها مثل الديك.
أشعر بلذة نسائم الليل وهو يداعب صوت العجلات المدوية في صمت المراعي وقرى الشمال الفرنسي ونوافذها المرتدية الضوء الخافة لثريات في صالات بيوت الخشب التي لم يزل اصحابها الى منتصف الليل يشربون الواين ويستمعون الى إديث بياف وهي تعيد لهم رومانسية القرن الذي مضى .
وبالرغم من هذا أشعر أنه ليل غريب لايمت لغرفة نومي الطينية بصلة وسوف لن يواسيني بشيء وانا اتمنى المجيء بضوء اجفان امي في المدن البعيدة حتى تبدد ظلمة تلك الامنية التي تسكنني الآن ان اضع لساني على خدها مثلما فعلت برجيت دومنيكان في كافتريا محطة نورد باريس قبل ساعات .
عطر النساء
لكن العطر الذي تتمناه من زهرتك البعيدة يسرقه عطر النساء اللائي يقفن على ارصفة المحطات أو تلك القطة التي اقتحمت حياتك عنوة في جلسة عابرة وابتياع تذكرة سفر والتي اقسمت أناها ستنتظرك وازاحت من رأسها فكرة ان تعيد علاقتها مع صديقها الكورسيكي وكأنها تردد في عمقها قصيدة رينيه شار التي حين اردت ان تستحضرها أمام عينيها ، فاجأتك مرة اخرى وقالت :لا تلقيها امامي بالإنكليزية أو بالألمانية التي تجيدها ، فأنا حفظتها في اول سنوات نضوجي وسأقرأها لك بلغتها وسيكون هذا اجمل وسنعمل انا وانت كما يقول السيد شار :
(( ستتهاطل حينها الرؤى. سوف تحلم بالغد و سيغدو فراشك خفيفا. ستحلم بأنه لم يعد ثمة لبيتك زجاج نوافذ. أنت تتعجل اتحادك بالريح…الريح التي تعبر سنة في ليلة يتيمة. ثمة آخرون يهزجون بإدماج الأنغام وتضمينها. اللحم الذي لا يجسد غير سحر الساعة الرملية. ستدين الامتنان الذي يتكرر ويتناسخ. لاحقا هم سيماثلونك بأحد الجبابرة العمالقة المتحللين المتفسخين. سيعرفونك بسيد المستحيل.))
قالت : أنت سيد المستحيل ، أو هكذا اتمناك وأريدك ، تركت صديقي الكورسيكي لأنه معجب بنابليون ، أنا لا أحب نابليون لأنه أرتجف أمام الانكليز .
قلت : وأنا اريد انكليزية ترتجف أمامي ، ربما لأن بيننا ثأر استعماري قديم وجديد ، قديم احتلالهم العراق في اوائل القرن العشرين ، والثاني قد لا يحسب له ثأرا ، ولكنهم دخلوا البصرة محتلين ايضا في 2003.
قالت : دعك من همومك الوطنية مع الإنكليز ، وهاهي فرنسية ترتجف امامك . قلت :ارتجافك قد يسعد الجزائريين اكثر منك . ضحكت وفالت :من حقهم ، فرنسا احتلت بلدهم لعقود. لكن من كثرتهم هنا ، لا نقترب منهم ،بالرغم أن الجنس الامازيغي منهم يمتلك نارا وحشية ومستعرة تشعر اي امرأة في العالم باللذة المطلقة. لكنك تختلف عن ملايين الامازيغ الذين يملئون فرنسا . انت تحمل عطر جلجامش ورجولته.
تذكرت جلجامش ، ولم أكن ارغب ان يكون ظله مرافقا لخصوصيتنا ، فقد مللت أن يكون فتى اوروك الصورة التي يراها الشرق فينا بالرغم من أنني أحب هذا الملك المتحدى لهاجس الموت والذي اقتنع في آخر الأمر أن الموت هو الحياة أن الخلود شموخ المعابد والأسوار والاعمال الخالدة.
قالت :حتما قرأت جلجامش .
قلت :وحفظت ملحمته غن ظهر قلب .
قالت :كن هو ؟
قلت :أفضل أن اكون صديقه أنكيدو .
قال : لماذا ؟
قال :لأنه علم المرأة كيف تصرخ نشوة في لذتها .
قالت :وانا اريدك كذلك.
قلت :متفقون عند العودة سيكون لنا معاصرة اخرى لتمارين انكيدو على سرير امرأة .
قالت :ولكني عاشقة ولست بغي.
ذهلت من فهمها لروح الأسطورة .وقلت : لا أدري أن كنت اتحدث مع قاطعة تذاكر في محطة قطار أو متخصصة بالحضارة السومرية ، انا اعرف ان الانكليز والالمان فقط من ارسلوا بعثاتهم الاثرية الى اور واوروك ،ولو كان هناك فرنسيون لقلت ان جدك كان عالم آثار .
قالت :لا تنسى ان نصف اثاركم في متحف اللوفر الفرنسي.
قلت : بهذا أنت على حق .لن استغرب أنك تحفظين مثلي ملحمة جلجامش عن ظهر قلب.
بين جلجامش ونابليون يسكنني صدى نظرتها فأذهب بعيدا مع كل مفاجأة تضعها على اريكة المقهى غير عابئة بزحام المسافرين . استعيد ما املك من اغراء جعل هذه التي ولدت في ذات الشارع الذي ولد به نابليون ترمي كل أمانيها على صدري الذي أجل لحظته معها عندما ارادت رؤية اساطير الشرق ان كانت تبدا من نعاس حقائب المهاجرين أو فحولة الجنود التي دائما تنتهي بلحظة نحيب أو كتابة مرثية ، لأجل هذا دعتك اليها حين تعود وذهبت ابعد من ذالك حين ارادت ان تطيل معك طقوس تأمل عينيك فلربما تجد سلم الزقورة ومثل شهية عري الكاهنات لصنع المودة في غرفتها العلوية تخلع هي قميصا وتصعد سلمة ، سلمة على امل ان تجد الها سومريا يشبهني يعلمها كيف يصبح جسد المرأة المشتهية عصفورا ويطير في سماء صدر وشفتي رجل او اله تتمنى ان يكون اللذة القصوى هي اجمل ما توده وتحلم به وتتمناه.
لأجل كل هذا دعتك اليها حين عودتك وكأنك القادم من طروادة ، لعبتها التي تهواها أن يمشي الحصان الخشبي على كل مساحات جسدها من أجفانها حتى أصابع قدميها وان تكون انت واحد من صناع اساطير رغبتها وفورتها وثقافتها أيضا .
قال لها : هذا يعني أنك من أجلي تريدين أن تتخلي عن فكتور هيجو وقبعة ديغول وتغادرين صوت ميراي ماثيو الى حنجرة ناظم الغزالي .
قالت :ولما ، الليدي ديانا لحظة موتها كان برفقة رجل من ( أيجبت ) .
قلت :نعم كان صديقها مصريا .
قالت : ومات معها . هكذا هي نشوة الموت الحقيقي أن يموت الشرق والغرب معا وفي نشوة غرام.
تذكرت لحظة الموت لأميرة ويلز ، أغمضت عيني ، لكن شيئا من دمعة قديمة ظهرت من خلال الإغماضة.
قالت :تبكي من اجلها .
قلت :ومن اجل المكان الذي كتبت فيه مرثيتها يوم قتلت بحادث سير .
قالت :مرة اخرى نتقابل في حلم المكان ( ميزوبوتاميا ) ونفكر بذات الرؤيا . تحدث ماذا كتبت .اريد ان اسمع .
لم اتحدث ، رحت امسح دمعتي وأتذكر ذلك الشجن القديم .
وبين التذكر واللحظة التي سمعنا الخبر أول مرة استعادت عاطفتي كل تلك الطقوس التي رافقت موتها ، هناك في قرى القصب عندما سمعنا خبر موتها :
يوم قتلت الليدي ديانا سبنسر في حادث سير في احدى انفاق طرق السيارات في فرنسا ويقال أن سائقها كان ثملا ، وكان معها صديقها العربي عماد الفايد الذي هو ابن الثري المصري محمد الفايد اذي يمتلك عقارات وشركات تجارية في عموم بريطانيا ، ومات معها في نفس الحادث .
أظهر الخبر وجوما في بعض عيون بعض المعلمين ، والبعض الآخر تندرَ على تلك الملامح الحزينة التي كست عيون البعض ، وحين ذهب احدهم وبيده مجلة على غلافها الوجه السكسوني الساحر للأميرة القتيلة انبهر التلاميذ وسألوا استاذهم : عن هذه التي خدها مثل صحن القيمر .؟
فأجاب : هذه يا صغار سافرت مع الصحن القيمر الى السماء.
قال :احدهم :الى الجنة .؟
قال في صمت مع نفسه :لا اظن لقد كانت لحظة موتها ثملة قليلا جراء سهرة في فندق.
لم يسمع التلاميذ جواباً ، لكن الكثير أيقن أن وجوه القيمر لا تذهب سوى الى الجنة .
لكن أحد التلاميذ تجرأ وقال : الى النار؟
انتفض المعلم مفزوعاً وسأله : من أدراك؟
قال التلميذ بوقاحة بريئة فاجأت المعلم:
ــ نصف صدر صحن القيمر ( أمكشف ).
( صدر صحن القيمر ) عبارة سكنت اسماعي يوم تحدث المعلم في الاستراحة عن استنتاج التلميذ ، وتخليت الأمر أن تفكر اميرة ويلز في لحظة ما أن طفلا من أطفال الاهوار يختار لها قدرية المصير ، وبالرغم من هذا بعض الذين يألهون الجمال في ثقافتهم وقراءتهم قالوا : الله خلقها على شكل ملاك وستبقى كذلك.
هذا الملاك ، هو ذاته من سافر معنا في مشاحيف الذكريات التي كانت تسكن اخيلة الجيل الحالم بالتحرر من بيانات التجانيد ودعوات المواليد الجديدة والاحتياطات ، وحين ذهب هذا المعلم الى خدمة الاحتياط وحتى نودعه قبل صعوده المشحوف متوجهاً الى ( ثكنة الناصرية ) لمحتُ المجلة التي يحمل غلافها صورة الليدي ديانا ، وسألته :أتركها معنا في الجيش قد لا يسمح لهكذا وجوه بالدخول الى ساحات الحرب لأنها تشغل الجنود عن الرصد ، وربما وحدها مجلة ( حراس الوطن ) التي كانت تصدر عن وزارة الدفاع من يحق لها ان تسكن الخنادق الشقية.؟
قال المعلم : ولكنها تعويذتي لأعيش.
قلت : حتى وهي ميتة.؟
قال نعم ، وجوه من يرحلون تكون من اكثر الظلال الجميلة التي تجلب لنا الاحلام السعيدة.
أخذ الظل الجميل للأميرة الراحلة معه ، ولم يكتب لنا رسالة اطمئنان ، لكن الخبرُ الذي أتى مثل سحابة سوداء غطت شتاء القرية وجعلت أصحاب المشاحيف يطلقون نحيب المواويل في صباحهم عندما وصلهم خبر استشهاد صديقنا .
عرف الجميع ذلك حين وصل في الصباح الباكر مشحوف قادم من جهة الجبايش ويركبه شاب نحيف يرتدي دشداشة سوداء وأخبرنا ان اخيه كتب لهم في وصيته :ان يوصلوا هذا الظرف الى المدرسة .
بين حزن وبكاء فتحت انا الظرف الكبير.
كانت ذات المجلة التي تحمل صورة الليدي ديانا تشع بإشراقتها الخفية يوم ركبت معه في ذات المشحوف لتذهب معه الى جبهة الحرب ومن ثم سوية الى الوطن الذي يعيشان فيه الآن……..!
هي ايضا بكت . وحتى أهرب من طيف اميرة حزنت من اجلها تمنيت ان اغادر المكان .
قالت : فات موعد القطار عليك ان تنتظر الاخر في السادسة مساء .
أزاء كل ما حدث ما زلت اتخيل ان طيف ابي وأمي موجودين ، ابي استمر ضاحكا وأمي غطت عباءتها خجلا أزاء حميمة ما تراه بكامل تفاصيله وكأني ذات الطفل العاري الذي كانت تعريه وتجلسه بطشت مملوء بالماء وتغسل اعضاءه الذكرية الصغيرة بصابون ( الرقي ) حتى لا تصيبكَ الحساسية ، وقتها كانت تقول :هذه البلابل الصغيرة ،ذات يوم ستمتلكهن واحدة جميلة و( تفركهن فرك ).
ثم أسمع أبي وهو يشاهد طقوس مودة مقهى المحطة : كن مهذبا فأن السفر يحتاج منك ان تكون مؤمنا وليس سندبادا..!
أستعير من كلمات ابي فهما كما البديهية ، واردد مع نفسي :من ليس لديه أب يرتدي قمصان القديسين فليصرف النظر عن أي رغبة بالسفر الى شارلفيل .تضحك قاطعة التذاكر ، تنساب قطرات القـــــــــهوة حارة ومغرية بسواد اللحظة المتخيلة في ايروتيكا أن تكون الفراشة بحضن الوردة ، يضيء لمعان شفتيها ، فتمتد لسانها الى الشفتين للتذوق بأغراء وقصد بقايا قطرات القهوة الملتصقة عليها .
تهمس : أحاول أن الغي سفرك اليوم لتكون عندي طوال الليل ؟
يرد : انا الان بصحبة ابي ، حضر الآن وعلي ان ارى فصال قميص القداسة الذي يرتديه ، امي خجلة مما تفعلين ، وابي يريدني مؤمنا لا سندباد سفر في بحار جسد امرأة ، وفي النهاية لن اوقف سفرتي واطيع رغبتك الان ، لقد اتفقنا على موعد مؤجل .
تقول : هذا أبوك .أما أبي فلم أرَ وجههُ ولا مرة واحدة .
أقول :كما اعرف هي قصة نصف الذكور والإناث هنا ؟
قالت : وإناثكم؟
ــ يكاد يكون الأب خلف الباب حتى في ليلة دخلتها كعروسة.
تضحك وتقول :هل آباؤكم مصنوعين من الصمغ ؟
قلت : كلا من الحنين .
هذا الحنين هو من ذكرني بوصية أبي قبل أن أحمل حقيبتي وأبدأ هجرتي مع الغيوم والسفن والقطارات وتلك الدهشة التي لم تسكنني يوم يغطي جسدي النحيل ظل ناطحة سحاب او سقف محطة قطار بعد ان كانت كل ايامي هو المنظر المألوف لبيوت القصب التي عادة ما تكون قامتنا اعلى من سقوفها ، فأسمع صوته عبر كل مسافات الضوء واميال الخرائط يتلو وصيته الأولى:
ــ كن كريما في السفر لأن صدفة الطريق قد تجعل ذلك الكرم مناسبة للتعرف على من يكون بوصلتك للجهات كلها.
ترد : لهذا كنت مصرا لتدفع ثمن فنجانين القهوة. اتخيل والدك اما أن يكون عرافاً او أستاذاً جامعياً او واعظاً دينياً .
قلت :كلا .ابي كان عتالا في خانات التمر .
ضحكت وقالت :صدفت اخرى لم اعشق ، جان جينيه المغرمة فيه كثيرا كان ايضا يشتغل عتالاً في الموانئ.
قلت :اظن اني قرأت عن هذا ونسيت أن أسأله عندما زرت قبره في مدينة العرائش المغربية ذات مساء شتائي بارد.
ــ أعتقد ان الوقوف على قبر القديس جنيه هو طقس للتعبد وليس طقس أسئلة . أنا مغرمة بصلعته ونظرته وعدميته في الحياة وقرأت كثيرا عن حياته في طنجة .
قلت :وانا احبه وأحب طنجة.
قالت : وأنا اعشقها أيضا ،تسكعت مرار في مقاهيها وكان معي صديقي الكورسيكي الذي لم يعشقها .
ــ ولهذا هو ليستحقكِ.
قالت : نعم طردته عند عودتنا الى باريس مباشرة ، وبقيت انتظرك. سنسافر اليها معا .
قلت : كل شيء بعد شارفيل قابل للنقاش.
ــ وقابل للمداعبات أيضا.
أخرج ورقة قديمة تتحدث عن خيال مداعبة لطيف امرأة بعيدة واهمس لها اسمعي ، هذه المرأة المكتوب لأجلها منذ أيام اور قديمة ربما كتبت لأجل برجيت دومنيكان .
ضحكت بساعة من تشتهي ان تكون الآن بين احضانه حتى مع زحام المسافرين في محطة القطار .
قالت :اقراها لأستعيد طيف المداعبة المؤجلة
(( في ورقة العمر يبحث الحالم عن عبارة واحدة تهمه : ستأتي واحدة وتخلع عني هذه الثياب..
واحدة تدفن بين شفتيها عسل القبلات وتسرق لب الشيء ، وعلى صدرها الأسفنجي تذوب ثلوج القطبين ودموع شهداء صفين وحطين وهانوي ، وكل الرغبات التي جعلت أباطرة الأرض المهووسين بتاج الملك وثمرة الليل اللامعة يقولون لعينيك البربرية : تناولي على خاصرتي العنب وأنا أتذوق في حلمة نهديك التوت البري..
واحدة لها عرف دجاجة من كريستال متاحف أوربا كلها .
تميط اللثام عن الشهوة ، فتجدني وردة في عبارة هندية تقول : بوذا العاري يهزم الدبابة بنظرة عينيه ،وما عندك يهزم شهوة الجنرال ويوقظ في ليل باريس وأور حرارة التوابل .
تذكرت من دون رز وتوابل لن يحلو غرام العرس ، ولن يفضح اينشتاين عن نظريته ليقتل أهل هيروشيما ….
وأنت في مشية الغزال تقتلين التطفل كله ، وتضيفي لعطر الفراشة عطر سرير الدفء ونهد البرتقال وموسيقى التأوه والنوم على وسادة نجمة مصنوعة في مصانع توشيبا ليقول العاشق مابين نساء اليابان واهوار آل شيخان ، واحدة تتفن بصفير القبلة والرقص على عذابات الإنسان وتعرف معنى أن يأتي مسيح لأهل المشخاب فيطعموه الرز والفستق ونواح حسين مازالت حتى الساعة أفئدة الناس تبحث عن ندم لمقتله وتحاول أن تجعل من صلبان الايطاليين الآتين ببغال سمر إلى أور ثمناً ، لكن الطليان هربوا وبقت أمريكا وحدها عارية في الساحة تسمع قارئة الفنجان .. ))
بقيت مغمضة عينيها وقالت :ما زلت أنا اعيش نشوة مداعبة كلماتك لمظلات المطر المنتشرة على صدري ، سأفتح زرين من ازرار قميصي حتى تراه .وسأنشد لك مداعباتي :
شهوة لها مذاق حليب ، وفصل من رواية كاريبية يغازلها بحر عينيك ومدافع قراصنة من سكر القارات النائمة تحت أجفان هيلانة .
هل تعرف هيلانة ياولد .؟
قلت : اعرفها جيدا فهي التي هزمت الانكليز ( بهراوتها ) ، وعلمت حبيبها حفظ المعلقات السبع وفي ليلة نارية فتحت له أسرار كل هذا الجسد الذي أطعمته الجغرافية ولائم السلاطين
الجسد الايقوني الذي اسمه وقبيلته قرص الشمس ، عارية ستاتين إلي رغماً عنك..!
قالت : ورغما عن كل كواكب المجموعة الشمسية..
ابتسمت وبكيت ..ثم تمنيت أن اختفيَّ في ورقة التوت …
قالت : ليكن عربون شهيتي اليك ان تدفع لسانك هنا بسرعة البرق ، خذ لك شمه وعد الى كرسيك بسرعة.
قلت : مجنونة أنتِ .
مددت لسانها ..أنا مددت اليها ذكرياتي كلها .
أرتج جسدها كله . قالت : لا أحتمل شفتي قريبة من صدرك .
قلت :وقطاري سيحين وقته الثاني . طقوس الغرام المستعجلة لهاثها مزعج.
قالت : من اين تعلمت هذا .؟!
قلت :من أساطيرنا .
قالت : أترك بعضا منها مخبئة في صدري .دعني اتنفسها لأطير مع انوثتي الى معابدكم هناك ، وخذ الباقي منها واطبعه على الخد الاحمر لشاعرك المفضل رامبو.
قلت : مناصفة عادلة .
قطعت زرا ثالثا من قميصها تدلت تفاحتيها وكادتا يلامسان الطاولة الخشبية في كافتريا المحطة .ثم همست : انحني وكأنك تلقط شيئا من الطاولة وضع لسانك عليهما كي تطبع عليهما نصف اساطيرك التي قبلت ان تمنحي اياها.
كانت المحطة مزدحمة فأشعر أن كل العيون مصوبة إلي ، فخجلت أن افعل هذا .
قالت : ان لم تفعل سأقطع كل أزرار القميص .
قلت : مجنونة .
قالت : وهل هناك أشهى وأحلى من الجنون.
وبارتعاشة خجولة . أغمضت امي عيناها ، وهي تضرب على خديها من خجلها ، وهي تولول ببحتها الحزينة التي تشبه بحات الامهات حين يفقدن ابنائهم الجنود في حروب سومر وبابل واكد ونينوى وتقول :علمتك لتكون مؤدبا وأمينا لدعائي في الصلاة ، آه ، تألمت وتأسفت لأني كنت اصحبك وحتى عمرك 8 سنوات الى حمام النساء.
أبي كتم غضبه وأدار وجهه الى الحائط ، فيما قربت فمي بأستعجال ولامست شفتاي مساحة من نار ملتهبة وعطر. وكانت هي مغمضة العينين.
وحين شعرت واحست بماء لساني يبلل الحلمة السوداء للأنثى الشقراء ، فتحت عينيها بتأثير ثمالة نشوة غريبة طفحت مثل سعادة الورد على خديها وقالت : هاهي نصف أساطيرك معي.
ولن أعيدها إليك إلا عندما تفي بوعدك عندما تعود من شارلفيل.
أنا في الطريق الى المدينة ، وكل طريق للقطار صديق .
أنت صديقكَ حُلمكَ ، وقد تحقق قافزا من القرية التي يشيدها الطين والقصب الى غرفة في فندق بني على الطراز القوطي منذ اواخر القرن التاسع عشر ، وفي ستينات القرن الماضي اشتراه من اصحابه اليهود رجل من اهل بنزرت وقد سكنت فيه لرخصه أولا ولأنكَ وجدت مترجما بالمجان هو البنزرتيُّ صاحب الفندق.
مغامرات الشوق
لكنك تواصلت مع برجيت دومنيكان لأنكما تحسنان الانكليزية ، وكل مغامرات الشوق التي سكنتها اليك نطقتها بلغة شكسبير أما التونسي فكان يترجم طلاسم الدليل الذي اعطوك لك في المطار ، خارطة باريس وامكنتها التاريخية ومحطات المترو ، حتى لا تضيع في باريس وتقع ضحية للنشالين الزنوج .
برجيت دومنيكان مزقت الدليل وقالت : من الآن دليلك الى باريس شفتيّْ .
وحتى تصف شفتي امرأة فرنسية أذهب الى القشر الأحمر في التفاحة بعد ان تنزع عنه ورقة التسعيرة وماركة الشركة التي قطفته من مزارع الجنوب الفرنسي . وحتما ستغيب في بوح اللحظة الصوفية لامتلاك حواء مميزة بعطرها .
الى الآن ارتشفت برجيت دومنيكان خمسة فناجين قهوة ، وفي كل فنجان تقرأ طالعا جديدا مكتوب تحت اجفان هذه المرأة التي اتت اليك بصدفة المحطات وجعلتك مقتنعا تماما بما ذكره الكاتب الروسي تورجنيف في قصته مذكرات صياد . يريك طالع سفرتك التي جعلتك تبيع تخبئ نصف اساطيرك في صدرها .
بعتها بوعد أنك ستعود اليها وقد تعلمت منها : أنك اذا حتى تعرف باريس جيدا عليكَ أن تضع واحدة من إناثها تحت اجفانك. واغلب اناث باريس رومانسيات وشقراوات وشهيات.
تضحك وتهمس لها :من أين لكِ هذه الوصفة السحرية؟
قالت وكأنها تعرف كما عرافة أن السومري عندما تطأ قدماه أوربا ، قبل أن يبهرهُ الصباح هنا ، يبهرهُ خيال أمه التي هناك : من قدور مطبخ أمك..!
قلت : آه ما أجمل تلك القدور ، بعضها من النحاس أو الفافون .
لقد كنا نسمي في المدرسة التلميذ الغبي أن قلبه وعقله مصنوعين من الفافون . لهذا فأن فلبي من الفافون حتى لو كنت غبياً.
تضحك برجيت دومنيكان وتعيد أمامي شيئا من نشأتها :
ــ أبي لم أره وأمي أودعتني عند جدتي وانا بعمر ثمان سنوات وهاجرت مع بحار برتغالي وسكنت لشبونة .



















