ليليليف ساواي (اندونيسيا) (أ ف ب) – من أعماق الأدغال الكثيفة في شرق إندونيسيا، يوجه بوكوم، أحد آخر الصيادين وجامعي الثمار المعزولين عن العالم، رسالة بسيطة إلى مُعدّني النيكل الذين يهددون موطنه في الغابة ويقول لهم “هذه أرضنا”.
ينتمي بوكوم إلى قبيلة هونغانا مانياوا التي تضم نحو ثلاثة آلاف فرد مثله، يقبلون ببعض التواصل مع العالم الخارجي، و500 آخرين يعيشون حياة بداوة ترفض الاتصال بالعالم الحديث.
كان موطنهم في وسط هالماهيرا ذات يوم مكانا خلابا يوفر لهم الملاذ والغذاء، لكنه اليوم يدمّر بسبب أحد أكبر مشاريع تعدين النيكل في العالم، فيما تستغل إندونيسيا احتياطاتها الهائلة من هذا المعدن المستخدم خصوصا في المركبات الكهربائية.
وقال بوكوم لوكالة فرانس برس “أنا قلق من استمرارهم في تدمير الغابة… لا نعلم كيف نبقى على قيد الحياة بدون أرضنا وطعامنا”.
وحصلت محنة شعب هونغانا مانياوا أو “شعب الغابة” على بعض الاهتمام بعد انتشار مقاطع فيديو تظهر أفرادا هزيلين ومنعزلين يخرجون من موطنهم للاستجداء من أجل الطعام.
لكن مستقبل هذه المنطقة النائية التي تبعد 2414 كيلومترا عن العاصمة جاكرتا ومراكز صنع القرار، نادرا ما يكون موضع نقاش.
وذهبت وكالة فرانس برس إلى غابة هالماهيرا لمعرفة كيف أثّر الامتياز الذي منح لشركة “ويدا باي نيكل” على الأراضي القبلية البكر التي تضمها والتي كانت موطنا لشعب هونغانا مانياوا. وخلال رحلة استغرقت ثلاثة أيام وامتدت على مسافة 36 كيلومترا عبر أجزاء من مساحة التعدين البالغة 45 ألف هكتار، كانت تأثيرات عملية التعدين واضحة.
تدوي تفجيرات متتالية متحكم بها لكشف النيكل في حين تحلق طائرات هليكوبتر في السماء إلى جانب الببغاوات الخضراء والبوم وأبو قرن والنحل العملاق. كذلك، تقدّم جذوع الأشجار دليلا على قطعها، كما شوهد حراس مناجم خارج أوقات عملهم وهم يصطادون طيورا مدارية ببنادق هوائية.
طوال الليل، يخترق صوت الحفارات التي تخدش التربة السطحية الغطاء النباتي الكثيف، ويتنافس مع أصوات الضفادع العميقة وطنين الحشرات.
ويقول سكان محليون إن قيعان الأنهار امتلأت بطبقة كثيفة من الطين الناتج عن عمليات التعدين، ولا يمكن رؤية أي أسماك، كما أن المياه القذرة تسبب تهيجا في الجلد. خرج بوكوم من عزلته في وقت مبكر من حياته، لكن رغم ذلك، يبقى اتصاله بالعالم الخارجي محدودا للغاية. وهو وافق على مقابلة وكالة فرانس برس مع زوجته ناواتي على مسافة نحو 45 دقيقة سيرا من منزله في عمق الغابة.
لكنه لم يستطع البقاء طويلا. ففي طريقه، رأى عمال مناجم قرب منزله وأراد العودة وإبعادهم.
وقال لوكالة فرانس برس وهو يضع قبعة سوداء ويرتدي قميصا وسروال جينز ملفوفا “لقد حاول عمال الشركة رسم خريطة لمنطقتنا. هذه أرضنا ولن نعطيها لهم”.
ينص دستور إندونيسيا على حقوق الأراضي الأصلية، كما أعطى حكم أصدرته المحكمة الدستورية عام 2013 المجتمعات المحلية الحق في إدارة الغابات التقليدية بدلا من الدولة.
لكن شعب هونغانا مانياوا لا يملك أي سندات ملكية للأراضي، وبالتالي فإن فرصة تطبيق مطالباته ضئيلة.
يعد منجم “ويدا باي نيكل” الموجود في كبرى جزر مالوكو في إندونيسيا، وفق بعض التقديرات، الأكبر في العالم.
وتعود منطقة التعدين إلى “ويدا باي نيكل” التي تقول إنها مثلت 17 في المئة من إنتاج النيكل العالمي في العام 2023.
وهذه الشركة هي مشروع مشترك بين شركة “أنتام” الإندونيسية وشركة “ستراند مينيرالز” السنغافورية والتي يتم تقسيم أسهمها بين شركة التعدين الفرنسية العملاقة “إيرامي” وشركة الصلب الصينية الكبرى “تسينغشان”.
وقالت “ويدا باي نيكل” لوكالة فرانس برس إنها “ملتزمة التعدين المسؤول وحماية البيئة” وإنها تدرب الموظفين على “احترام العادات والتقاليد المحلية”.
وأشارت إلى أن “لا دليل على أن مجموعات منعزلة عن العالم أو معزولة تتأثر بعمليات +ويدا باي نيكل+”.
بدورها، قالت شركة “إيرامي” لفرانس برس إنها طلبت الإذن من معظم المساهمين في “ويدا باي نيكل” لإجراء مراجعة مستقلة “لبروتوكولات المشاركة” مع هونغانا مانياوا، من المتوقع أن تتم هذا العام. ولفتت إلى أنه لا يوجد “دليل” حاليا على أن أفراد القبيلة المنعزلين عن العالم يعيشون في منطقة امتيازها.
لكن الحكومة الإندونيسية التي تعترف بأن الجزء الأكبر من منطقة الامتياز كان في السابق غابة محمية، قالت لوكالة فرانس برس عكس ذلك.
وأوضحت المديرية العامة للفحم والمعادن في وزارة الطاقة الإندونيسية أن هناك “اعترافا بأدلة على وجود قبائل معزولة” حول منطقة امتياز الشركة.
وأضافت أنها ملتزمة “حماية حقوق الشعوب الأصلية وضمان عدم إلحاق نشاطات التعدين الضرر بحياتهم وبيئتهم”.
وقالت منظمة “سورفايفل إنترناشونال” غير الحكومية المعنية بحقوق السكان الأصليين، إن ذلك كان أول اعتراف من جانب جاكرتا بوجود شعب هونغانا مانياوا منعزل عن العالم أو “معزول” في المنطقة.
ووصفت الاعتراف بأنه “ضربة قوية” لمزاعم “إيرامي”، وقالت إن إنشاء منطقة محظورة لحماية القبيلة هو “السبيل الوحيد لمنع إبادتها”.
وأكدت “ويدا باي نيكل” و”إيريمي” أنهما تعملان على الحدّ من التأثير على البيئة، في حين لم تستجب “تسينغشان” ولا “أنتام” لطلبات وكالة فرانس برس للتعليق.
لكن بوكوم قال إن التعدين تسبب في هجرة الخنازير البرية والغزلان والأسماك التي كان يعتمد عليها كمصادر للطعام. وهو الآن يبحث عن الروبيان والضفادع في مجار مائية أصغر وأقل تأثرا.
وأضاف “مذ دمرت الشركة موطننا وغابتنا ونحن نكافح من أجل الصيد والعثور على مياه نظيفة”.
يُعد النيكل عنصرا أساسيا في استراتيجية النمو الإندونيسية التي حظرت تصدير خاماته في عام 2020.
وتعد البلاد أكبر منتج في العالم للنيكل، وموطنا لأكبر الاحتياطات المعروفة.
وتظهر بيانات حكومية أن التعدين، خصوصا الفحم والنيكل، مثل 9% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2025.
منذ بدء العمليات عام 2019، تحولت المنطقة إلى ما يطلق عليه البعض “وايلد وست” (الغرب المتوحش).
عند نقطة تفتيش قرب المنطقة الصناعية، أوقف رجال وكالة فرانس برس للمطالبة ببعض النقود وأجبروا سيارتها على الانتقال إلى مكان آخر، قبل أن يتدخل مسؤول حكومي محلي.
وتشكل المدن الواقعة على حافة المنجم، ليليليف وساواي وغيماف وساغيا، حدودا فوضوية.
يتنقل موظفون يضعون خوذا عبر الطرق الموحلة والمزدحمة، فيما تنتشر محلات تجارية متواضعة على جانبي الطريق، وعاملات جنس يبحثن عن زبائن أمام نزل قذرة.
ازداد عدد العاملين في قطاع التعدين منذ العام 2020 أكثر من النصف ليصل إلى 30 ألف شخص تقريبا.
ويقول سكان محليون إن معظم هؤلاء هم غرباء، وقد أثار وصولهم توترات وتزامن مع ارتفاع حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي وفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز.
وقال عدلون فكري، الناطق باسم حملة “سايف ساغيا” (أنقذوا ساغيا)، إن “شركات التعدين لم تطبق ممارسات جيدة، وانتهكت حقوق الإنسان، ونادرا ما يكون هناك أي تقييم”.
من جهته، روى نغيغورو الذي غادر قبيلة هونغانا مانياوا مع والدته عندما كان طفلا “قبل وقت طويل من التعدين، كان كل شيء هادئا للغاية وكان من الجميل العيش في الغابة”.
وأضاف “هذه الأرض لشعب هونغانا مانياوا. كان يعيش في الغابات المطيرة حتى قبل وجود الدولة. لذلك ارحلوا”.
وتخشى منظمات غير حكومية من أن تؤدي عمليات التعدين إلى القضاء على القبيلة.
وقال المسؤول في منظمة “سورفايفل إنترناشونال” كالوم راسل “إنهم يعتمدون بشكل كامل على ما توفره لهم الطبيعة من أجل البقاء، ومع تدمير غاباتهم المطيرة فإنهم يتعرضون للتدمير أيضا”.
وأفادت الحكومة وكالة فرانس برس بأنها “أجرت توثيقا” لفهم القبائل المعزولة في المنطقة وأشركتهم “في عملية صنع القرار”.
لكنّ الناشطين يقولون إن هذا مستحيل نظرا إلى أن معظم أفراد المجموعة لا يستخدمون التكنولوجيا الحديثة ويحدون من الاتصال مع الغرباء.
وفي الآونة الأخيرة، ارتفعت بعض الأصوات الداعمة للقبيلة، وأصبح لدى شركات كبرى اهتمام بهذه القضية.
والعام الماضي، قالت شركة السيارات الكهربائية السويدية “بوليستار” إنها ستسعى لتجنب تعريض “المجتمعات المنعزلة عن العالم” في سلسلة التوريد الخاصة بها للخطر.
كذلك، اقترحت شركة “تيسلا” التابعة للملياردير الأميركي إيلون ماسك والتي وقّعت صفقات للاستثمار في النيكل الإندونيسي، إنشاء مناطق محظورة لحماية الشعوب الأصلية.
لكن بالنسبة إلى بوكوم، فإن الخطر أصبح على عتبة داره. وعندما يقترب عمال مناجم من منزله، يستخدم ساطوره لتخويفهم وإبعادهم ويقول لهم “هذه أرضنا. موطننا. لن نعطي موافقتنا لتدميره”.