قانون دولي خاص – سداد عماد العسكري
الإحـــالــــة
ظهرت فكرة الاحالة امام القضاء البريطاني الا انها تطورت واصبحت نظرية بمناسبة قضية فوركو التي عرضت امام القضاء الفرنسي والتي تتلخص وقائعها بان شخصاً يدعى فوركو كان قد ولد بصورة غير شرعية من اصل بافاري وتوطن في فرنسا وتكونت لديه ثروة منقولة فيها الا انه رغم طول اقامته لم يكتسب موطنا قانونيا فيها، وعند وفاته عن عمر 63 عاما طالب اقاربه من الحواشي باستحقاقات ارثية في تركته امام القضاء الفرنسي، كما ادعت الحكومة الفرنسية باحقيتها في اموال التركة بوصفها وارثه من لا وارث له، وبحسب قواعد الاسناد الفرنسية يكون الاختصاص في حكم التركة لحساب القانون البافاري بوصفه قانون موطن المتوفي الاخير ،الا ان قواعد اسناد القانون البافاري ترجع الاختصاص لحساب القانون الفرنسي بوصفه قانون موقع التركة وفي هذه المناسبة قبل القضاء الفرنسي برجوع الاختصاص اليه فطبق القانون الفرنسي و في ضوء ذلك قرر القضاء في عام 1878([5]). رد دعوى حواشي (فوركو) واقر بعائدية الاموال لحساب الحكومة الفرنسية وعلى اثر هذا القرار ظهرت وتبلورت فكرة الاحالة وبناء على ما تقدم و للاحاطة بالاحالة لابد من استعراض مفهومها ومن ثم التنظيم القانوني لها.
اولا- مفهوم الاحالة
يقتضي بيان مفهوم الاحالة تتبع التعريف بها ومن ثم نطاق عمل الاحالة واخيرا التنظيم القانوني لها :
1- تعريف الاحالة
بدءاً ان الاحالة لا تظهر في ظل تشابه قواعد الاسناد بين الدول وهذا يعني اذا كانت قواعد الاسناد في دولة قاضي النزاع تقر نفس الحكم الذي تقرره قواعد اسناد القانون المسند له الاختصاص فستكون النتيجة هي تطبيق القواعد الموضوعية في القانون المسند له الاختصاص كما هو الحال في قواعد الاسناد العراقية وفي بقية التشريعات العربية أي ان الدول المتقاربة حضاريا تطرح قواعد اسناد متشابه ومن ثم لا تظهر فيها مسالة الاحالة وهذا يعني ان هناك شروط يستلزم تظهر توافرها لظهور الاحالة هي:
1- اختلاف حكم قواعد الاسناد في دولة قاضي النزاع عن الحكم الذي تقرره قواعد الاسناد في القانون المسند له الاختصاص.
2- اعتماد حكم قواعد الاسناد في القانون المسند له الاختصاص قبل تطبيق قواعده الموضوعية.
3- تخلي قواعد اسناد القانون المسند اليه الاختصاص لحساب دولة قانون قاضي النزاع او لحساب قانون اخر.
4- قبول قانون قاضي النزاع او القانون الاجنبي للاختصاص المتخلى عنه من قبل قواعد الاسناد في القانون المسندله الاختصاص.
ويمكن بيان الاحالة عبر مخطط في ضوء المثال ادناه.
تحديد اهلية مواطن بريطاني متوطن في العراق امام القضاء العراقي.
القانون البريطاني
تطبيق
قواعد اسناد
القانون العراقي
القاضي العراقي
التكييف
الاهلية
قواعد الاسناد
القواعد الموضوعية
قبول الاحالة تطبيق القواعد الموضوعيةبحسب المخطط اعلاه نجد ان عملية الاحالة تبدا بتخلي القانون المسند اليه الاختصاص وهو القانون البريطاني عن الاختصاص لحساب قانون القاضي وهو هنا القانون العراقي مع قبول الاخير للاختصاص وتطبيق قواعده الموضوعية.
في ضوء ما تقدم علينا ان نعرف الاحالة بانها تخلي القانون المسند اليه بموجب قواعد اسناده عن الاختصاص المسند اليه من قواعد اسناد قانون القاضي لحساب القانون الاخير او لحساب قانون اجنبي اخر.
وبحسب قضية فوركو نجد انها استجمعت شروط الاحالة المتقدمة وهو اختلاف قواعد الاسناد في القانون الفرنسي عنها في القانون البافاري ورجوع الاختصاص لحساب القانون الفرنسي بحسب قواعد الاسناد البافاري وقبول القاضي الفرنسي هذا الرجوع وتطبيق قانونه.
ثانيا- نطاق عمل الاحالة
يمكن ان نحدد النطاق من ناحيتين الاولى بيان المسائل التي تظهر فيها الاحالة ومن ثم انواع الاحالة.
1- موضوع الاحالة
يمكن ان تظهر الاحالة في جميع مسائل تنازع القوانين الا انها في الغالب تعمل في مسائل الاحوال الشخصية لاسباب عدة منها ان باقي المسائل في الغالب تطرح قواعد اسناد متشابه بين الدول وهذا يعني غياب الشرط الاول من شروط عمل الاحالة حيث نجد مثلا مسائل الاموال تخضع في جميع الدول لقانون موقعها وكذلك مسائل الفعل الضار و النافع لدى اغلب الدول تخضع لقانون محل حدوث الفعل كما ان العقود تخضع لقانون الارادة في الغالب ولا تجد فكرة الاحالة في هذا المجالات اعلاه منذا واسعا بينما نجد ان مسائل الاحوال الشخصية تمثل مجال خصب يزدهر فيه عمل الاحالة ذلك لان قواعد الاسناد تختلف بين الدول في تقرر القانون المختص فيها فنجد القانون العراقي تقرر قواعد اسناده في مسائل الاحوال الشخصية الاختصاص لقانون الجنسية بينما القانون البريطاني تقرر قواعد اسناده الاختصاص لقانون الموطن في اغلب مسائل الاحوال الشخصية .
2-انواع الاحالة
من خلال ما تقدم يمكن ان تظهر الاحالة بنوعين الاول تكون فيه احالة بسيطة يصطلح عليها بالاحالة من الدرجة الاولى كما تسمى بالرجوع لان الاتصاص فيها يرجع من القانون المسند اليه الى قانون القاضي الساند كما يصطلح عليها بالدائرية لان الاختصاص فيها دائر بين القانونين اعلاه وفيها يتخلى القانون المسند له الاختصاص عنه لحساب قانون قاضي النزاع مع قبول الاخير للاختصاص المتخلى عنه اما النوع الثاني فتكون فيه الاحالة مركبة يصطلح عليها بالاحالة من الدرجة الثانية او المتعددة وفيها يتخلى القانون المسند له الاختصاص لحساب قانون اجنبي ويمكن ان يتخلى الاخير عن الاختصاص بموجب قواعد اسناده لحساب قانون اخر وهكذا نجد الاختصاص ينتقل عبر قواعد اسناد عدة دول لهذا يصطلح عليها بالاحالة المتعدد لتعدد قواعد الاسناد الناقل للاختصاص فيها.
وقد اخذت في البداية اغلب القوانين بالاحالة البسيطة الا انها في ما بعد قبلت الاخذ بالاحالة المركبة كما سيرد في حينها.
ثالثا- التنظيم القانوني للاحالة.
لم تكن نظرية الاحالة محل اتفاق الفقه ومن ثم القضاء والتشريع لذا نجد هنا انقساما بشأن هذه النظرية بين مؤيد ومعارض.
1-الاتجاه المؤيد للاحالة
يذهب هذا الاتجاه الى مناصرة الاحالة ويدافع هذا الاتجاه عن وجهة نظرة من خلال عدد مبررات تتمثل
1- المبررات العلمية : تتمثل في ان اسناد قاضي النزاع الاختصاص في علاقة ما الى قانون دولة معينة يوصف بانه عرض للاختصاص على القانون الاخير وله ان يقبل بهذا العرض كما له ان يرفضه وفي حالة رفض الاختصاص لحساب قانون قاضي النزاع او أي قانون اخر فما على قاضي النزاع الا ان يطبق القانون الذي احيل اليه الاختصاص وكذلك اذا رجع الاختصاص لقانون القاضي فعلى الاخير ان يطبق قانونه طالما حاز على ثقة القانون المسند اليه الاختصاص كما يجب على القاضي ان لا يتمسك بتطبيق القانون الاجنبي المسند له الاختصاص اكثر من تمسك الاخير بتطبيق نفسه فضلا عن ذلك ان عودة الاختصاص لقانون القاضي فيه توسيع لنطاق تطبيق الاخير وفرص اخرى لهذا التطبيق وهذا يصب بمصلحة قانون القاضي كما ان اصدار القاضي حكما وفقا للقانون المحال اليه الاختصاص (قانونه او قانون اخر) يعطي للحكم القمة العملية في التنفيذ أي سيجد الحكم نفاذ خارج دولة قاضي النزاع وخاص على اراضي الدولة التي اسند الى قانونها الاختصاص ابتداءا وهذا يعني اذا اغفل القاضي او اهمل احالة القانون المسند اليه الاختصاص سيتعرض الحكم الصادر منه لعقبات امام تنفيذه في الخارج مثال ذلك اذا اسند القاضي العراقي الاختصاص في مسالة طلاق بريطاني توطن في العراق لحساب القانون البريطاني واصدر حكما بالطلاق بموجب القانون الاخير فان مثل هذا الحكم سوف لا يجد له اعتراف في بريطانيا لانه صدر بموجب قانون غير مختص بحسب القانون البريطاني لان القانون المختص هو القانون العراقي بوصفه قانون موطن الزوج البريطاني وهو المختص بحسب قواعد الاسناد البريطانية ان مثل هكذا نتائج ستكون ضارة بمصلحة الاطراف لان حكم الطلاق سوف لا ينهي العلاقة الزوجية بحسب القانون المراد الاحتجاج بحكم الطلاق بموجبه امام القانون البريطاني وهذا يعني ايضا ان الزوج في بريطانيا لا يستطيع ان يتزوج لان القانون البريطاني يحضر تعدد الزوجات ولا يعترف بطلاقه لانه جاء مقرر بموجب قانون
غير مختص وفقا للمنظور البريطاني.
2- المبررات القانونية :
تتمثل في ان قانون كل دولة يتكون من نوعين من القواعد هما قواعد الاسناد و القواعد الموضوعية فاذا استند قاضي النزاع الاختصاص في علاقة لقانون ما فان هذا الاسناد يكون اجماليا لحساب القانون المسند له الاختصاص أي لقواعده بنوعيها الاسناد و الموضوعية وعلى قاضي النزاع ان يبدا باستشارة قواعد الاسناد فاذا قبلت الاختصاص طبق القانون واذا رفضها لحساب قانون القاضي او قانون اخر فعلى قاضي النزاع ان ياخذ بما احال به القانون المسند له الاختصاص وعبر عن ارادة مشرعه وبخلاف ذلك يعني تطبيقه في مجالات لم يقصد المشرع الاجنبي ان يطبق فيها هذا القانون كما ان الغرض من قاعدة الاسناد وهو تطبيق القانون الاكثر ملائمة وعدالة للعلاقة. فتطبق قانون اجنبي بخلاف ما تقرره قواعد اسناده معناه تطبيق لقانون خارج نطاق عرضه واختصاصه وللمبرارات اعلاه فقد اخذ القضاء الفرنسي بالاحالة من الدرجة الاولي وبعدها من الدرجة الثانية كما اخذ القانون الدولي الخاص الالماني بالاحالة بنوعيها كما كان ذلك موقف بعض القوانين الاوربية.
نظرية الاحالة
2- الاتجاه المعارض للاحالة
يعارض البعض نظرية الاحالة ويرد على الاتجاه المؤيد لها بمبررات تتمثل:
1- المبررات العملية
ان القول بان اسناد الاختصاص الى قانون ما بمثابة عرض للاختصاص يرد على ذلك لان وظيفة قاعدة الاسناد هو الاسناد وتقرر الاختصاص لقانون سواء كان القانون الاخير يقبل الاختصاص ام يرفضه فضلا عن ان القاضي عليه ان يطبق القانون المسند اليه الاختصاص وليس له اكثر من ذلك وهو استشارة قواعد اسناده وبذلك على القاضي ان يتقيد بالوظيفة الطبيعية لقواعد الاسناد والتي تتمثل بنقل الاختصاص لقانون ما ولا يجوز له تجاوز ذلك الغرض.
2- المبررات القانونية
ان القول باسناد قاضي النزاع للاختصاص لقانون ما يكون اسناد اجمالي لذلك القانون يفترض ان يقابل قانون قاضي النزاع رجوع اجمالي وهذا يعني اذا كان القاضي يسند بموجب قواعد اسناده للقانون المسند له الاختصاص فيفترض تطبيق اجمالي لقانون القاضي أي تطبق قواعد اسناده قبل القواعد الموضوعية وهذا يقودنا الى الدخول في حلقة مفرغة يتعذر الخروج منها فضلا عن ذلك ان تطبيق قواعد الاسناد في القانون المسند له لاختصاص معناه خضوع قاضي النزاع لاوامر المشرع الاجنبي التي تعبر عنها هذه القواعد ويفترض ان يعمل باوامر مشرعه التي تعبر عنها قواعد اسناد قانونه كما ان العلاقة ذات البعد الدولي يطبق عليها قواعد اسناد وطنية لان وظيفة الاخير اسناد العلاقة لقانون دولة معينة وان العلاقة الدولية بعد اسنادها الى قانون ما تصبح وطنية بالنسبة لهذا القانون و القاضي يطبق عليها القواعد الموضوعية لانها متخصصة لحكم العلاقات الوطنية، وهذا يعني ان على القاضي ان لايطبق قواعد الاسناد الاجنبية لانها متخصصة لحكم العلاقات الدولية وحيث ان العلاقة اصبحت وطنية بعد الاسناد فلا يجوز للقاضي استعمال قواعد الاسناد فيها وانما العودة الى القواعد الموضوعية في القانون المسند له الاختصاص.
كما ان القول بان الاحالة تفضي الى وجود احكام تنال النفاذ عبر الحدود قول مردود يرد على ذلك ،ليس بالضرورة ان الحكم الذي يصدر بالاستجابة لاحالة القانون الاجنبي سينفذ من دولة القانون الاخير انما يمكن ان ينفذ في دولة اخرى لا يمنع قانونها تنفيذه. و امام هذه الحجج لم تاخذ الكثير من القوانين و منها العربية بالاحالة. اما على مستوى التشريع العراقي فقد كان المشرع ياخذ بالاحالة في قانون الاحوال الشخصية للاجانب لعام 1931 كما طبق القضاء العراقي فكرة الاحالة في احد القضايا و التي تتلخص وقائعها بزواج بنت بريطانية تبلغ من العمر 12 سنة طعنت والدتها بصحة هذا الزواج امام القضاء العراقي فعند تطبيق قواعد الاسناد العراقية وجد انها تسند الاختصاص في الاهلية للقانون البريطاني بوصفه قانون الجنسية وبرجوع القضاء العراقي الى قواعد الاسناد البريطانية وجد انها ترجع الاختصاص لحساب القانون العراقي وهنا اخذ القضاء العراقي ربما احالة قواعد الاسناد البريطانية وطبق القانون العراقي(6). وبعد صدور القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 تم حضر العمل بالاحالة في المادة 31/1 التي نصت على(اذا تقرر ان قانون اجنبيا هو الواجب التطبيق فانما تطبق منه قواعده الموضوعية دون التي تتعلق بالقانون الدولي الخاص)
الا ان المشرع العراقي اخذ بالاحالة بصورة استثنائية في قانون التجارة رقم 30 لسنة 1984 من المادة 48/3 التي اكدت على الرجوع في اهلية الملتزم بموجب الحوالة الى قانون الدول التي ينتمي اليها الشخص بجنسيته او أي قانون اخر يحيل اليه هذا القانون.
يمكن ان نستنتج من خلال تعريف الاحالة و انواعها في ضوء موقف المشرع العراقي وباقي التشريعات العربية وكذلك الاجنبية التي لم تاخذ بالاحالة ثلاث نتائج هي:
1- ان يكون الاسناد اجماليا للاختصاص بموجب قواعد اسناد قانون قاضي النزاع لحساب القانون المسند اليه لاختصاص ويتخلى الاخير عن الاختصاص بموجب قواعد اسناده لحساب قانون القاضي او قانون اخر ثم يسند الاخير الاختصاص مرة اخرى لحساب القانون المسند له الاختصاص ابتداء ثم يتخلى الاخير وهكذا يحصل اسناد ثم تخلي بموجب قواعد الاسناد ويصطلح الفقه على ذلك بالتنازع السلبي لقواعد الاسناد.
2- ان يتم الاسناد اجماليا للاختصاص بموجب قواعد اسناد قانون قاضي النزاع لحساب القانون المسند له الاختصاص ويتخلى الاخير عن الاختصاص بموجب قواعد اسناده لحساب قانون القاضي او قانون اخر مع قبول القانون الاخير للاختصاص المسند اليه في هذه الحالة تحصل الاحالة و التي اخذت بها بعض التشريعات الاجنبية ومنها القانون الدولي الخاص الالماني وهنا نكون امام ما يصطلح عليه في الفقه بالتنازع الايجابي في قواعد الاسناد.
3- ان يتم اسناد الاختصاص بصورة محددة له من قبل قواعد اسناد قانون القاضي النزاع لحساب القواعد الموضوعية في القانون المسند له الاختصاص من دون المرور بقواعد اسناده وهنا يطبق القانون الاخير بغض النظر عن قبول قواعد الاسناد فيه للاختصاص وفي هذه الحالة لا تظهر الاحالة وهذا هو موقف التشريعات التي رفضت الاحالة ومنها التشـــــريع العراقي [7 ] والمصري .