قال الشيخ لسالم المندلاوي وصعوبة التوازن السردي: أحاول الكتابة بلغة وسط بين الصحافة والتعبير الأدبي
هشام آل مصطفى
بغداد
لا يتوقف نهر الإبداع العراقي عن تدفقه على الرغم من سدود التخلف والقهر والرجعية، فتبرز أسماء جديدة، كالنجوم المنيرة في سماوات إبداعاته كعلامة ضوء مستقبلية تستحق الاهتمام والمتابعة، متجاوزة كل غيوم الظلم السوداء..
ومن هذه الأسماء الصاعدة، برز أسم القاص سالم بخشي المندلاوي، حيث كتب الأستاذ حسين الجاف، مقدمة عن مجموعته القصصية: (قال الشيخ) الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة،ط بغداد 2011، قائلاً: (أسجل للكاتب بدايته القوية) هكذا كتب الأديب المعروف عنه، وأضاف، واصفاً سردياته: (السرد الواقعي الساحر، بلغة تقترب من التجريب، والتجديد، وتخلو من التعقيد والترميز، بأسلوب إخباري) ونعته بالتحقيق الصحفي الإخباري، ويقصد الجاف، القصة الخبرية، وهي ميزة عصرية تميزت بها القصة الجديدة في العراق وخارجه.
كما تفاجأت برؤية القاص والناقد المبدع الأستاذ حسب الله يحيى في مقدمته الرائعة عن رواية (المخبر السري) لسالم المندلاوي الصادرة عن دار الثقافة والنشر الكوردية ط بغداد 2014، حيث نوه : (سرد الأحداث بعافية التشويق) واصفاً الرواية: (عملاً يبوح بقدر كبير من النجاح).
لقد كان لرأيهما دافعاً كبيراً أجبرني على الاقتراب من عوالم ـ المندلاوي ـ النصية والسردية، فكان هذا اللقاء الذي حاورته فيه بلغة النقد التي أميل إليها.
{ تكتب بتقنية السرد الواعي والتجريب السردي وهو من تقنيات السرد الجمالية…هل تقصد الكتابة السردية بهذا المنحى؟
– بالفعل أنا أمام محاولة جادة لتجاوز الأطر التقليدية السائدة، وخلق تجربتي الخاصة، وتهيئة منطقة سردية يمكن أن أتخذ منها منطلقاً لتحقيق هذه الغاية. وأعلم أنها محاولة تنطوي على الكثير من المجازفة والمغامرة في ذات الوقت لكن الأمر يستحق العناء ما دامت تلبي حاجاتي الذاتية وتعبر عن طموحاتي الشخصية،ناهيك عن لذة الاكتشاف عند الكتابة بهذه الطريقة، وكأنك ملاح يخوض في منطقة إبحار جديدة… ربما لم تمخر عبابه سفينة من قبل.
{ في بعض قصصك: ك(عرس عراقي) أو (قال الشيخ) يتأرجح السرد لديك بين الواقعية والخيال… هل تعتقد إنك وفقت في ذلك، وما مدى قرب هذه القصص من الواقع؟
– لا أخفي عليك مدى صعوبة المحافظة على التوازن السردي عند الانتقالات الكبيرة أو المفاجئة بين الواقع والخيال، لكن أعتقد إني وفقت في ذلك من خلال الانتقال السلس بين المنطقتين والقدرة على التحكم المرن بشرائط هذا الانتقال واستخدام الأدوات الصحيحة. وتناولت أحداثاً واقعية فعلية لكني لم أدخلها في قصصي بتجرد تام من دون إدخالها في معامل التشذيب والمقايسة والسببية بما يتلاءم والنسق السردي العام للقصة.
{ وجدت لديك تناولاً سردياً مباشراً في قصة: (عاشور في التنور) وهي من الثغرات الفنية وتمثل انزياحاً أسلوبياً قد يشكل ترهلاً غير مرغوب به في جسد القصة…هل لاحظت ذلك؟
– ربما فاتني أن أعلمك بداية، إنني في الوقت الذي سلكت فيه السرد بطريقة التجريب وخلق منطقتي الخاصة كما أسلفت، فإنني حاولت في ذات الوقت أن أجعل من بعض قصصي وثائق تاريخيةً تدين الإرهاب الأسود الذي يعصف بنا وتدين الفكر التكفيري، بما يحفظ للأجيال القادمة تصوراً دقيقاً عن حجم الكارثة وعمق المأساة من خلال تناول تجارب وأحداث واقعية صادمة ولعل هذه المهمة تستوجب أحياناً الكتابة المباشرة، للمحافظة على مصداقية الأحداث. وأنا لا أرى عيباً في ذلك طالما بقيت القصة تحت السيطرة ولم تتحول إلى أساليب تعبيرية أخرى. ولست أول من حاول أن يضمّن بعض قصصه هذه المهمة، فكلنا اطّلعنا على الأدب الروسي أو ما يسمى بالأدب الواقعي الاشتراكي الذي أنتج روايات عالمية رائعة تناول فيها الأدباء الروس الكبار أحداث واقعية عصفت بالمجتمع الروسي وضمن اشتراطاتها الفنية آنذاك بما يلائم ذاك العصر ولا يمكن أن ننكر فضيلة هذا الأدب في إلقاء الضوء على تلك الفترة بما يشبه السفر التاريخي الضخم. فقراءة رواية: (الأم) لمكسيم غوركي، مثلاً… يغنيك عن مطالعة عشرات الكتب التاريخية المجردة التي تتناول الأحداث الكبيرة وتفاصيل الحياة في المجتمع الروسي آنذاك. هذا ما دعاني إلى الكتابة أحياناً بطريقة تقريرية مباشرة للإحاطة بأكبر قدر ممكن من التفاصيل، خاصة وقد تناولت فيها أحداث بانورامية حقيقية تستوجب النقل الآمن للأحداث… لكن من دون فقدان الحبل السري الذي يحفظ حياة وجسد القصة.
(قاطعته) : لكني ـ رغماً عن هذه التقريرية ـ وجدت أسلوباً ناضجاً في استخدام صيغة التأويلية في بعض قصصك، كما هو الحال في قصة: (فئران السّد)… لماذا غاب هذا التناول في قصص أخرى من مجموعتك القصصية: قال الشيخ؟
– من يطالع هذه المجموعة القصصية، سيجد قصصاً متفاوتة في المستوى الفني ومتنوعة في طريقة السرد ذلك أني جمعت فيها قصصاً كتبت في مراحل مختلفة من حياتي، وتفصل فيما بينها أوقات متفاوتة قد تمتد أحياناً إلى عقد من السنين فمن الطبيعي أن تلمس مثل هذا التفاوت.
{ في بعض القصص طفرة في كتابة القص وتأثيرات بمحمد خضير، وحسب الله يحيى، وعبد الستار ناصر… هل اشارتي واضحة؟
– بالتأكيد لقد تعلمت الكثير من الأسماء الأدبية الكبيرة التي ذكرتها، فلا يمكن لأحد أن ينكر إعجابه وتفاعله الوجداني مع الشخصيات الآسرة التي خلقها هؤلاء الكتاب في قصصهم، فتجدها مفعمة بالنشاط والحيوية والمجازفة على الرغم من معاناتها من وقع الظروف القاهرة.
ما يجمع هؤلاء الروائيين أنهم عرفوا ككتاب تجريبيين يحملون هماً وطنياً مشتركاً ورسالة إنسانية عملوا من أجلها متأثرين بالأحداث السياسية العاصفة آنذاك… فما زالت شخصية الجندي المأزوم (ستار) في قصة الأرجوحة لمحمد خضير، حاضرة في أذهاننا بكل خيباتها وهو انعكاس لوقع صدمة النكسة على نفسية كاتبنا المرهف. كذلك الحال في شخوص قصص الأستاذ حسب الله يحيى… ففي مجموعته القصصية: (حكايات من بلاد ما بين النارين) وبالذات قصة: (رئة الأرض) يصور الأرض وقد تحولت فيها الغابات الغنّاء التي تشكل مبعث سعادة إلى منطقة عسكرية وأرض حرام لا يمكن المرور من خلالها، وهي إشارة تأويلية ذكية لعسكرة المجتمع العراقي وتحويل حياته المدنية الزاهية إلى جفاف وعسكرة مقيتة… أما الكاتب الراحل عبد الستار ناصر، فكانت له بصمته الخاصة وظل مجدداً على الدوام في أسلوبه السردي التجريدي ولم يتخل عن التجديد حتى آخر لحظة من حياته والتي نلمسها في مجموعته القصصية الأخيرة: (متى يختفي الآخر مني).
{ في روايتك التي صدرت مؤخراً: (المخبر السرّي)…تجاوزت الأطر الشكلية للسرد المعاصر… كيف أمكنك ذلك؟
– عندما شرعت في كتابة رواية المخبر السرّي قبل عامين، وضعت نصب عيني هدفاً جديداً. يتمثل هذا الهدف في محاولة كتابة رواية يفهمها الجميع بأسلوب السهل الممتنع إن صح التعبير…رواية يمكن أن نطلق عليها: الرواية الواقعية الشعبية إن صح التعبير. كتابة رواية بلغة سردية سلسة جديدة تكون منطقة وسط ما بين اللغة الصحفية المجردة وبين اللغة الأدبية العالية، لغة أستطيع أن أخاطب من خلالها الجميع العوام والنخبة (وهنا أقصد بالنخبة الأدباء). بالطبع هي مهمة صعبة جداً لكنها ليست بالمستحيلة!
{ ما الذي قادك إلى خوض هذه المهمة الصعبة جداً كما أسلفت وهل ترى أنك وفقت في ذلك؟
– ما قادني للقيام بمثل هذه المحاولة هو الانقطاع شبه التام وانعدام التواصل والحوار ما بين النخبة الأدبية وسائر الناس! وفي محاولتي المتواضعة من خلال رواية المخبر السرّي حاولت أن أكسر الجدار الفاصل …أو بالأحرى أن أثلم شيئاً من هذا الجدار العاجي متأملاً أن يفعل الآخرون ويكملون ما بدأت.
وربما وفقت إلى حد ما وذلك من خلال الأصداء الطيبة التي تتردد على مسامعي من الفريقين: العوام والنخبة ممن قرأوا روايتي: (المخبر السرّي) بالذات أصحاب الخبرة من الأدباء والنقاد الذين بشروني بصدى ووقع كبيرين لهذه الرواية خصوصاً الأستاذ حسب الله يحيى والناقد إسماعيل إبراهيم، و د. سعد مطر، و د. شفيق المهدي، والأديبة عالية طالب وآخرين.