
كلام أبيض
قالت الكثير وقلنا القليل – جليل وادي
ما يقرب من أربعة عقود والعراقيون يكافحون أشد التحديات، من حروب خارجية وحصار اقتصادي واحتلال أجنبي واقتتال داخلي وارهاب بأشكال مختلفة صنعت سيناريوهاته مخابرات محنكة يعرفها سياسيونا ولا يتجرأون على تسميتها في العلن، وظلت حبيسة أحاديث هامسة، وفاسدون يظنون أنفسهم شطارا ونحن مغفلون، فيعتاشون على مأساة الناس ودماء الأبرياء ودموع اليتامى، بالمقابل كشف العراقيون عن صبر على البلاء عظيم، وبطولات في الدفاع عن الوطن تُضرب بها الأمثال، وقدموا من التضحيات أغلاها.
وليس غريبا ان يدور الزمان بالعراقيين دوراته المعهودة، فيضع الأراذل في مقدمة الصفوف، ويعود بالكرام الى المؤخرة، هذا هو الزمان، وهؤلاء هم الناس، وقيل انهم أجناس، فلا يخلو مجتمع من أشباه الرجال، لكنهم يظلون قلة وان استفحلوا في الظلمة، وأكلوا من السحت الحرام، ونهشوا في جسد الوطن المُمتحن من دون ان يكبحهم وجدان، أو يهتز لهم جفن وهم يبصرون الايتام بلا عشاء، واطفالا يرتجفون بردا في العراء، واما فقدت وليداً كافحت بالأيدي والأرجل حتى تراه يانعا، وحبيبة عصرتها السنوات وهي بانتظار فارس أحلامها الذي اختطفته يد الارهاب، وعجوزا أحنى الدهر ظهره وهو يهجر بيته المعجونة جدرانه بعرق سني عمره، واذا به في ليلة دامسة يلتحف خيمة ويفترش ارضا بلا حصير، وليس في باله سوى صبي لم يبلغ من العقل رشدا كان وراء مأساته، مدفوعا ممن لا يخاف الله، هم قلة الذين فرطوا بالوطن والناس، ولا يمكن لقلة ان تسود طويلا، لذا فالعراقيون متيقنون ان الوطن سيتعافى، وسيتعمق لقاء القلوب كما التقى في ربيع الموصل، والخنادق ستكون واحدة ، ولن يظل مما حدث سوى حكايات في الذاكرة، تتداولها الاجيال من بعدنا بدهشة واعجاب.
ومن الحكايات ما يظل عالقا في الذاكرة ، ومنها ما يطويها النسيان، ولا نريد لبطولاتنا ان تُنسى، ولحكاياتنا ان تضيع، ففيها من العبر ما يجب ان يُحتذى، وما يكون باعثا لحماسة الاجيال للذود عن الوطن وتعزيز وحدة شعبه، فالذي حدث خزين ثر من الحكايات والمشاعر، لكن ما تجسد منه فنيا وأدبيا يكاد لا يُذكر، والمذكور منه لم يرتق لمستوى تلك التي كابدها العراقيون، فبعضها كان مأساويا بما لا يوصف، وبعضها اكثر غرابة من الخيال، لكن التاريخ يسجل الحوادث التي تتصف بضخامتها،ويغفل عما يسمى بـ(التاريخ الاجتماعي)، وليس العبرة بضخامة الاحداث، بل بما تنطوي عليه حكايات الناس من مضامين مفعمة بمشاعر الحب والتكاتف والحزن واليأس والاحباط، وما فيها من قيم نريد لها الرسوخ، واخرى ان تُنبذ، وثالثة ان تُعدّل.
لا اظن بيتا من بيوت العراقيين الا وفيه حكاية، وفي بعض تلك الحكايات من الدراما ما يتعذر على كتّاب السيناريو تخيلها قبل رؤيتها او سماعها، لذلك نريد لها التجسيد، فالتجسيد توثيق لها، وكشف عن قيمها، وايضاح لعبرها، فضلا عما تنطوي عليه مهارة مبدعيها من جمال شعرا كانت ام قصة ام رواية أم فيلما ام مسلسلا ام لوحة تشكيلية ام تمثيلية اذاعية ام نصبا نحتيا، أرى في هذا حاجة ماسة للحاضر والمستقبل، علينا ان نحث المبدعين لتوثيق هذه المضامين، وان نوفر لهم بيئة ملائمة، ودعما ماليا كافيا ليتفرغوا لهذه الواجب الوطني، وان نفعل دور النشر القديمة ونستحدث اخرى، وأن نزيد من تنظيم الفعاليات الفنية بمكافآت مجزية، وان نستحدث متحفا جديدا لعرض المتميز من اللوحات التشكيلية بشكل دائم، وهذا ليس بالأمر الصعب ولا المستحيل، ففي العراق مبدعون لا يقلون ابداعا عن الاخرين، ان لم يكونوا أكثر تميزا، لكن ابداعاتهم تضاءلت لانشغالهم بقوت العيال، وضعف التقدير . قالت الكثير تلك الام التي جلست قبالة صورة ابنها الشهيد، لكننا لم نقل الا القليل.
ديالى















