قاص بين السماء والأرض
الأمل والحرية في صناعة الإنسانية
من قاع قبري أصيح :
لاتيأسوا من مولد أو نشور
(السياب)
عشرون من القصص القصيرة هي إضمامة المجموعة القصصية البكر للقاص عادل الجوراني وتحمل عنوان إحدى قصص المجموعة ((بين السماء والارض)).
((الامل)) هو المحور الاساس في قصص المجموعة ، حيث يشكل هاجساً كبيراً يؤرق خلجات وارهاصات فكر وضمير القاص . إذ يقول في قصته الموسومة (على مدى الأثنى عشر ):
سنبقى نشتاق للأمل . ص : 6
أو قوله ضمن قصته (بين السماء والارض):
أبحث عن شعلة من النور تنعكس على وجهي لتمدني بالحرارة وتشعرني بانني طائر غائر بين النجوم المتدلية من بين فجوات السماء . ص:27 .
هنا الامل مع الحرية لازمتان لمعنى الانسانية الشامل . فالحرية تتيح للإنسان مديات لامتناهية للتحرك ودفع العنفوان الاخضر من بين احشاءه وشرايينه للبحث عن وجوده خلال براثن الزمن الرديء او تحت هيمنة السلطات الغاشمة والانظمة الشاملة القاسية
أمَا في قصة (اعوام السماسم) نرى براعة القاص في قراءته الدقيقة المؤطرة بالواقعية لمزمور التوجع والبحث عن الامل ، كمن يبحث
عن أبره في كومة من القش :
في متاهات الغربة وتحت هاجس خوف مرتقب نبحث عن جذور امل توصلنا الى بر امان – شاطئ امان – نغفو فيه ولو للحظات صمت مشبه بتمني اوقات خالية من السهر والتعب . تزداد الغربة في دواخلنا ..يوم بعد يوم .. وهموم تحمل قلوبنا على اللهاث وصوت تلك الافاعي تختزل أجسادنا المتهالكة . ص:31
ما أشد احساس الانسان بغربته في وطنه ، ولكن الاحساس الشديد والمؤلم هو احساسه بغربته داخل نفسه المعذبة وما أقسى الحياة ، وكثيراً ما نتساءل هل الحياة تستحق الموت من اجلها؟!
يقول سارتر: الجحيم هو الاخرون، فالأخرون هم الطغاة والسفلة الذين جبلوا من ((دمٍ وخواء)) وببزات عسكرية اصحاب الهدف السقيم : على المرء ان لا يعيش سعيداً وهم لصوص السعادة من قلوب الاحبة ، وسارقو القوت من افواه الفقراء المفتوحة دوماً للريح ، ولأشيء غير الريح يدخل اجوافهم الخاوية . والاسود الضاربة اكثر رحمة منهم لأنها تترك فتات جيفها للنمل والبراغيث . لنتصفح اوراق الوجع الدفين ، حيث يقول القاص في نفس القصة : تذكرنا… زمن غابر ولى مسرعاً واخذ زهرة الشباب ..زمن عسكر العقل والجسد .. وللقسوة التي ترافقك وانت مستبعد من لون واحد لا يتغير .. تنطوي السنوات وانت بهذه الملابس ذاتها ولا نتحدث هذه المرة عن الحالة النفسية فذلك له بداية وليس له نهاية ،ص:31
وموضوعة ((المرأة ))هي الاخرى تؤسس اقانيم جمالية وانسانية داخل بنيان نصوص المجموعة ، وبردية شفافة وعقلانية بعيدة عن التشنج وقريبة عن ايمان القاص بدور المرأة كخليقة الله وليست ضيعة الرجل او لعبته . فالمرأة كائن حي حالها حال الرجل وان كنا في مجتمع يرجع القهقرى الى الوراء وكأن المستقبل من الخلف .
في قصة ((ربما احببت )) هناك ديالوج داخلي يغلي في ذهن واحاسيس المرأة يرشح عنه انفجار فقاعة الخوف وكسر للقيود الواهية التي تكبلها ، وبالتالي قدرتها على الاعلان الانساني لرغباتها البايولوجية في حقها بان تحب نصفها الثاني :
في العتمة … في الدهاليز المظلمة … ابحث عن نصف حياتي المقبلة في دروب الامل وفي منعطفات الحياة وفي الطرقات المنبسطة وفي السيارات المتوجهة الى الاسواق وفي صفحات الكتب … ص :33 .
لم يقدم ((الجوراني)) في هذه القصة امرأة مثالية ، بل إنسانة تعطي محيطها الملغم بالألسنة اللولبية وما تعنيه حرية المرأة والتعبير عن ذاتها التواقة لأثبات الوجود وبانها لم تخلق من ضلع اعوج وامكانية الرجل ان يدوس عليها بقدميه ، حيث تقول :
اعجبني فيه كلامه المقنع بالعسل ومنذ اول لقاء قال لي :-
أنتِ جوهرة غنية ولكن لا احب ان تضيء للجميع احب ان تنثري نورك من حولي فقط . احساسي بالكلمات الاولى والرنين المتعاقب في قلبي ضل يشدني اليه فاسموا في علياء خواطري واكتب اليه قصائدي واسطر على بحر هواي كلمات تنبض من وحي فكري المشتت . ص :34
وفي هذه اللحظات تستدرك بوعيها الثاقب ، لعبة الرجل مع المرأة ، فتقول :
مع الشغف الذي صاحبني لهذا الهوس فقد تحاشيت ان اكون معه في غرفة واحدة في دائرة العمل ولكنني كنت حريصة على ان يبقى قريباً مني وان تأخذ الاحاديث فيما بيننا طابع التجرد . وامَا امام الجمهور المتطلع صاحب الالسنة اللولبية فقد كنت حذرة من ان اقدم على عمل اندم عليه بقية حياتي . ص:34 .
الواقع العربي الراهن …كان وما يزال في وضع لا يحسد عليه والقضية العربية المركزية (قضية فلسطين ) لا تزال الفرس الخاسر في حلبة الرهانات الداخلية والاقليمية بسبب من جهل الفارس وغباءه وحماقته .
ولنقرأ صورة ذات مغزى في قصة رجل لموسم الربيع:
حقاً .. انه زمن التناقض .
يكرر التلفاز الاعلان لمئات المرات .. فرصة ذهبية .. حصان معروض للبيع بقيمة لا مثيل لها …مناسب .. اغتنم الفرصة فقط (80) مليون دولار . الامير يفكر في العرض المطروح والصف يزداد في العدد ،الكل ينتظر دوره ليحصل على (1) لتر من الماء وفي انية وسخة قذرة …ص:12،13 .
ومن الجدير بالذكر ان احد الامراء اياهم قد خسر في ليلة حمراء على مائدة القمار في موناكو خمسة ملايين من الدولارات . وحين سأل صحفي صاحب كازينو القمار عن وضع الامير بعد الخسارة . أجاب :
– لقد تحولت ضحكته الرنانة الى ابتسامة دافئة !!
وما لذوي العلم والثقافة أصحاب الاسمال البالية والذين يفترشون الارض ويلتحفون السماء الا مقولة الشاعر :
يا امة ضحكت من جهلها الامم .
” الحنين” ضمن الخطاب الانساني للمجموعة يقسم بمسارات وخطوات محفورة في ذاكرة القاصي وانه يعني المكان والزمان والوطن بشوارعه وأزقته وناسه وأحبته مياهه واشجاره و مراتع الصبا وملاعبه والمرأة الحبيبة وكل عصب ينبض بالحياة . ما أثقل العيش لمن هام على وجهه حاملاً على كتفه صليب الحنين ويمشي الهوينا في درب الالام لاسيما لمن شابه المسيح في انسانيتهِ وصفحهِ .
في قصة “نتوءات من جدار الحياة” , يقول القاص في مقطع (الحنين) :
وحنيني .. الى المكان يزداد يوماً بعد يوم . أيتها الارض الطاهرة .. صاحبة الغصن الاخضر .. مر بك وليد الكعبة .. أيتها الارض التي حملت رفات الصالحين .. أرسل لك لحناً مع العائدين في مساء تسرف فيه شهب انتصارك على الظلام . ص : 39 .
وفي مقطع “ترقب” من نفس القصة , يتجلى لنا رسوخ صورة من أحبها في مخيلته وذاكرته , حيث مفردات الجمال القياسية ذات الحيوية والدفق الحنون وكأن لسان حاله : (( يا حبيبتي هناك هدف يستحق منا العيش من أجله )) . وفي سرد هادئ يتحدث بطل القصة :
(نظرت إليها وتوجهت نحوها .. حاولت أن اضغط بصدري على صدرها واحتويها باليدين ولكنها ليست هي بل امرأة ثانية لا اعرفها وكل ما في الامر إن لها شبهاً محدداً بصاحبتي ربما بياض الوجه أو سواد الشعر أو العينين , تركتها ترحل بعيداً بينما بقيت بقرب لوحتي والواني الزيتية المبعثرة لأرسم صورة صادقة لصديقتي وكما أعرفها . ص:41) .
ونتيجة لذلك يتوضح لنا ما يلي:
1- إن لغة السرد شاعرية تتصف بالسلاسة والوضوح , بعيدة عن البهرجة والتزويق اللفظي , فواكبت بذلك الاقتراب والتلاقح مع ذهن القارئ بملامح هادئة وبانسيابية غير متقعرة أو غامضة .
عبد الستار زنكنة – بغداد
AZPPPL