غياب الخيارات الأمريكية ـ روبرت كابلان
يكاد يشعر المرء بالتعاطف مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. فمهما يفعل في سوريا سيكون مصيره الفشل. ولو كان قد تدخل قبل سنة، كما طالب العديد من المراقبين، لكان اليوم ربما وسط مستنقع يجعل مزيدا من المراقبين يشعرون بالغضب حياله، ولكانت نسبة شعبيته أقل بكثير عما هي عليه الآن. وإذا ما شاء أن يتدخل اليوم، فقد تكون النتائج أسوأ بكثير. وغالبا ما يطالب الصحفيون بالتحرك لغرض التحرك فقط، وفي ضوء محدودية قدرات الولايات المتحدة فهم يبدون غير مدركين بأن الكثير من المشاكل الدولية لا حلّ لها. وبوسع الولايات المتحدة أن تطيح بالأنظمة؛ لكن لن يكون بوسعها أن تعيد تركيب المجتمعات حتى وإن كان ذلك بشكل محدود، من دون، ربما، أن تكرس مواردها، على صعيدي الوقت والكلفة ذاتهما اللذين كرستهما لالمانيا واليابان خلال الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية.
والحقيقة، فان على اوباما أن يجري حسابات شاقة إذا ما شئتُ أن اتدخل، فأي جماعة ينبغي عليّ أن اسلحها؟ وهل أستطيع أن اضمن عدم وقوع هذه الأسلحة بأيادٍ غير مرغوبة؟ وهل أستطيع أن أضمن بأن المجموعة أو المجاميع التي اختار دعمها هي مقبولة حقا بالنسبة للغرب؟ وحتى لو كانت مقبولة، هل ستبقى هذه المجاميع مؤثرة في سوريا على المدى البعيد؟ وفي هذه المناسبة، ماذا لو تسببت الاطاحة بالرئيس بشار الأسد، من خلال فرض منطقة حظر للطيران، في وضع أكثر فوضوية، وتسبب ذلك في ازدياد انتهاكات حقوق الانسان مقارنة بما هو عليه الحال اليوم؟ وهل أرغب حقيقة في انتقال ارث هذه الفوضى إليّ؟ وحتى لو نجحت المساعي التي ابذلها، فهل من مصلحتي تكريس ولايتي الرئاسية الثانية بأكملها لسوريا؟ لأن هذا التكريس قد ينطوي عليه اضطلاع أكثر عمقا في تلك البلاد.
ويذكر في هذا السياق، بأنه في حالة يوغسلافيا السابقة سنة 1990، لم يستفز التدخل العسكري هناك قوى أخرى في المنطقة مثل روسيا، لأن الأخيرة كانت ضعيفة في العقد الأول الذي تلا الحرب الباردة، وكانت دولة تسودها الفوضى وغير قادرة على اظهار نفوذها التاريخي المعتاد في منطقة البلقان. بيد أن التدخل في سوريا قد يدخل الولايات المتحدة في حرب بالنيابة مع روسيا وهي اليوم في وضع أقوى، ومع إيران ايضاً.
لقد اصبح امتلاك السلطة في عالم تحركه وسائل الاعلام أمرا لا يحسد عليه المرء. في هذا السياق، ستكون فترة ولاية وزير الدفاع تشاك هاغل محددة بثلاثة أمور الانسحاب من افغانستان، وخفض كبير في الميزانية الدفاعية، واستجابة لأية حالات طارئة قد تبرز هنا أو هناك. وليس هنالك طريق معبد لتحقيق الهدفين الأولين، أما الهدف الثالث فغالبا ما تترتب عليه خيارات قاسية للادارة الامريكية التي عليها اليوم أن تواجه الاوضاع في سوريا. وفي هذه الاثناء، يواصل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مفاوضاته بنشاط دؤوب مع إيران وافغانستان، ومع إسرائيل والمسؤولين في الأراضي الفلسطينية، ليس بالضرورة لانه يريد مواصلة هذه المفاوضات، بل لأنه أمر لا بد منه. إن أي تقصير في هذا الصدد قد يعكس تخليا أمريكيا عن مسؤولياتها كقوة عظمى. ومع ذلك، فان فرص التوصل إلى نتائج طيبة في جميع هذه الأمور تبدو ضئيلة.
وفي هذا الصدد، تكمن العبرة الرئيسية في أن وسائل الاعلام تفترض بأن صناع السياسة الأمريكيين يمتلكون قدرة كبيرة على التحكم بالاحداث في الخارج، إلا أن الحقيقة هي أن هؤلاء المسؤولين غالبا ما لا يمتلكون إلا القليل من هذه القدرة. ومن المحتمل ألا يتمكن المسؤولون الأمريكيون من صياغة سياسات واضحة في ضوء الحقائق المعقدة والملتبسة ذات الصلة بحرب برية والموقف من كل من سوريا وايران وافغانستان، دون توفير قصف جوي وبحري أو نشر عشرات الألوف من الجنود على الارض. ففي أثناء الحرب الباردة، عندما كانت الفوضى محدودة نسبيا وكان الجزء الأعظم من العالم منقسما بين معسكرين آيديولوجيين، كان حينها من الممكن على الأقل صياغة استراتيجيات دبلوماسية خلاقة من خلال استغلال بعض الآليات في هذه الدولة أو تلك المجموعة من الدول ضد الأخرى. لكن في عالم تسوده ديمقراطيات متناثرة وضعيفة، وسط فوضى ضاربة في أطنابها وأنظمة تحالف عدائية، تبدو السيطرة على الأحداث أصعب بكثير. ولم يعد هناك حارس ليلي. ولا توجد أية جهة تمتلك السيطرة على الأوضاع، حتى وإن كانت وسائل الاعلام أكثر تصلبا وحيوية من أي وقت مضى. في الحقيقة، هل بوسع أحد أن يتخيل في عالم الاعلام اليوم وجود شخص مثل هنري كيسنجر أو جيمس بيكر قادر على ممارسة ضغط بناء على اسرائيل كما فعلا ذات مرة؟ .
إن وجود وسائل إعلام مندفعة في النشاط يعني بأن السياسات لن يكون لها الوقت الكافي لكي تنضج قبل أن يتم الاعلان عن فشلها. ويعني أيضا وجود سرية أقل بسبب التسريبات العديدة. ولأن الكثير من المعلومات تتسرب، فإن المسؤولين أنفسهم ما عادوا يمتلكون الرغبة ذاتها في أن يكونوا صريحين، حتى داخل الاجتماعات الخاصة، بسبب ادراكهم بأنه لا يمكن لاي محضر اجتماع أن يبقى سريا أبدا، مهما كانت نوعية السرية التي تضفى عليه. وعليه فقد شهدت نوعية النقاشات داخل الحكومة تدهورا، بل حتى أجواء السياسات العامة خارج الحكومة شهدت هي الاخرى تدهورا. خلاصة القول، أن الحالة شبه الفوضوية لما بعد الحرب الباردة قلصت من مساحة نجاحات السياسة الخارجية كما اسهمت في الوقت نفسه في تراجع نوعية السياسة الخارجية ذاتها.
ومما يزيد الأمور تعقيدا هو أن المشاكل معقدة جدا، وهي المشاكل التي لن يكون بوسع أكثر الدبلوماسيات إبداعا أن تجد لها حلولا. فجميع الرؤساء، من كلا الحزبين في الولايات المتحدة، فشلوا منذ عقود في إيجاد حل لمسألة كوريا الشمالية. وفي هذه الأثناء، تنال كل إدارة أمريكية نصيبها من اللوم مجددا لهذا الفشل.
وفي مثل هذه الاجواء، تُصنّف وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلنتون كنموذج دبلوماسي. إذ غالبا ما كانت تمارس النشاط لمجرد النشاط، حيث تجوب العالم من دون توقف وهي تعشق الكاميرات في وقت لم تضف فيه أي انجازات دبلوماسية إلى رصيدها، على الرغم من ميلها الكبير للتحدث بجرأة في بعض الاحيان. غير أن قبول وسائل الاعلام بها يرجع لكونها شخصية مشهورة. ويبقى أنها روجت لفكرة مفيدة انتقال المحور من الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولهذا السبب، وربما لهذا السبب وحده، ستبقى ذكراها عالقة في الاذهان. ولم يكن انتقال هذا المحور فكرة جهنمية بقدر ما كان تصرفا طبيعيا، ناتجا عن تطور طبيعي للنوايا السياسية، في ضوء انتهاء حربين في منطقة الشرق الأوسط وبروز الاهمية الاستراتيجية والاقتصادية لمنطقة المحيط الهادئ. ولكن بوصفها سياسة لم تثر جدلا كما كان ينبغي لها، فقد تم توجيه الانتقاد إلى المحور في وسائل الاعلام بوصفه ضعيفا للغاية كيف يمكن ألا يكون لنا المزيد من السفن الحربية المخصصة لقارة آسيا؟ وكثير العدائية ضد الصين .
استنادا إلى ما تقدم يبرز السؤال ما الذي يستطيع أن يفعله أي زعيم أمريكي في مثل هذه الظروف؟ وكيف يمكن لأي شخص أن يكون رجل دولة مقابل تضاؤل النفوذ الأمريكي في عالم شبه فوضوي وفي مواجهة وسائل اعلام تتزايد مطالبها باستمرار؟ تتجسد الاجابة عن هذين السؤالين في ما يفعله الرئيس أوباما تماما في سوريا يقدم الدعم المتواضع إلى بعض مجاميع المتمردين، ولكنه يتجنب أساسا مستوى التورط الذي قد يجعل منه ضالعا في الاحداث مما يجعله مسؤولا عن الأوضاع على الارض. بكلمة أخرى، دع إيران تغرق أكثر وأكثر في الدوامة السورية، وليس امريكا. إن كلفة الادامة التي ستتحملها إيران في سوريا التي تشرف على التفتت ستزداد، حتى وإن تمتعت إيران بنفوذ أقل هناك مقارنة بالنفوذ الذي حظيت به إبان عهد نظام الأسد القوي. وستقوم الولايات المتحدة، في الوقت نفسه، بتكثيف الدعم الاقتصادي والدبلوماسي المقدم إلى الأردن، والذي قد يسهل تأمينه في بلد ذي حجم سكان واقتصاد صغيرين نسبيا. وستصبح كل من سوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن وهكذا دواليك أكثر ضعفا، وستعيش هذه الدول حالة شبه فوضى، ولن تكون الولايات المتحدة قادرة على إعادة هذه الدول إلى وضعها الطبيعي من دون أن تبذل جهودا جبارة من شأنها أن تقوض مصالحها في مناطق أخرى من العالم وداخل الولايات المتحدة.
وقد لا تحظى الادارات الامريكية الناجحة بمشاعر المودة أثناء فترة حكمها حتى في حالة منحها احتراما على مضض في السنوات والعقود اللاحقة باستثناء الحالات التي تتعرض فيها الولايات المتحدة أو يتعرض حليف يرتبط بمعاهدة معها إلى عدوان عسكري يبرر بوضوح رد عسكري مناسب. وغالبا ما كان الحال قد جرى على هذا النحو في تاريخ أمريكا. ولكن، في ضوء طبيعة العمل الاعلامي وطبيعة العالم الخارجي، فقد يصبح ذلك الحال قاعدة في الغالب. وتجدر الاشارة إلى أن الرئيس جورج دبليو بوش كان قد حظي بمعدلات دعم شعبي عالية منذ بداية رئاسته، ومرورا بأحداث الحادي عشر من أيلول وغزو افغانستان والعراق. بيدّ أن العمليات العسكرية ذاتها التي شرع بها، والتي كانت تحظى بالشعبية في وسائل الاعلام في حينه، ادت إلى أن يتحول في دورة رئاسته الثانية إلى رئيس فاشل على نحو مأساوي.
إن الدرس المستنبط في هذا الصدد عندما تتعلق الأمور بالشؤون الخارجية، لن تكون هناك أية وسيلة لضمان الحصول على نتائج طيبة. ولكن متى ما سعى أي رئيس أمريكي إلى اضفاء طابع داخلي على هذه السياسات، عندها قد يكون قادرا على البدء في صياغة استراتيجية نبيلة تضمن له سمعة طيبة في نهاية المطاف.
AZP07