غزو الكويت 1990 كان مرتبطاً بطروحات عراقية في الخمسينات
القوات البريطانية في القرن العشرين كانت تمهّد إلي الانتشار الأمريكي في الخليج
حميد حمد السعدون
يقدّم الدكتور حميد السعدون مؤلفه الجديد الموسوم ” عناقيد النار – جدلية التأويل في السياسة العراقية ” بلغة رصينة تجمع بين البحث الاكاديمي والقراءة السيوثقافية للأفكار والآراء والأحداث السياسية، التي يعرضها باسلوب شائق ولغة شفيفة لاتخلو من مسحة ادبية. والمؤلف كما اعرف باحث متخصص وله دراسات وأبحاث ومساهمات قيّمة في مجال علم الاجتماع السياسي والعلوم السياسية، فضلاً عن وجدانيات مملّحة. لقد غاص الدكتور السعدون الي العمق في موضوعاته الاشكالية الساخنة التي طرحها علي بساط البحث علي نحو هاديء، محاولاً اضاءة جوانب ظلت خفية أو بعيدة عن دائرة الضوء، فحاول التنقيب عنها وتفكيكها، بل تشريحها بمبضع ” طبيب جرّاح ماهر يعرف حرفته جيداً ويتعامل مع مراجعيه بنوع من الحذر والحرص، مثلما تعامل السعدون مع مادته وأدواته، فهو لايكتفي أو يتوقف عند رأي الاّ ويحاول استكماله او مخالفته برأي من صانع آخر للحدث أو باحث أو مشارك أو شاهد عليه أو رواية أخري له، كي يعطي للقاريء صورة متكاملة عن موضوعات بحثه المعقدة والمتشابكة الي حدود كبيرة.
من مقدمة الكتاب لعبد الحسين شعبان
الجانب الآخر، وهو المتعلق بدور العميد – حميد الحصونة – قائد الفرقة الأولي. فقد اتضح لدينا، أن المراجع العسكرية العليا، لم تصدر أمراً عسكرياً له، ولغيره بالتنفيذ، لكن الرجل أدعي أنه امتنع عن تنفيذ الأمر الصادر اليه باحتلال الكويت، بعد ان استشار المرجع الديني في حينه السيد ” محسن الحكيم ” الذي أشار عليه بذلك. وتعليقنا علي ذلك، أن مثل هذا الأمر صعب حدوثه، لابتعاد السيد – الحكيم – من التدخل المباشر في مثل هذه الأمور السياسية الحساسة، لاسيما بعد فتواه الشهيرة بتحريم الشيوعية واعتبارها كفراً والحاداً، بل وامتناعه، عن اللقاءات الشخصية مع ممثلي الدولة. فكيف حدث لقاؤه مع قائد فرقة عسكرية، تنتظر عودة قائدها، لتنفيذ واجب عسكري مهم، خاصة ان الوقت في مثل هذه الأمور، يحسب بالدقائق، فما ظنك بالساعات التي غابها القائد المعني عن ساحة عمله الرئيسية. يضاف الي ذلك، ان انضباطية الجيش العراقي، خصوصاً عند مستوي القيادات، عالية جداً، فكيف يجوز لقائد فرقة عسكرية، الامتناع عن تنفيذ أمر عسكري صادر عن مراجعه العليا، وهو يعرف عقوبات الامتناع عن التنفيذ. او كما يقول العقيد – محسن الرفيعي – ” ان العميد الحصونة ماكان يجرؤ علي مخالفة أمر الزعيم عبد الكريم قاسم، لو كان الأخير قد أصدر أمراً بالتنفيذ “. ويؤكد ذلك أحد السياسيين المؤثرين في حكومة الزعيم – قاسم – حين يصف ما أدعاه – الحصونة -، بانه إدعاء غير صادق.
اما إدعاء العميد – الحصونة – بالامتناع عن تنفيذ الأمر العسكري، فان ذلك القول، جاء بعد 8 شباط 1963، ليتعكز عليه في ابتزاز الكويتيين والحصول علي مساعداتهم. وهذا ماحصل، فهو منذ خروجه من العراق عام 1969واستقراره في القاهرة، والحكومة الكويتية ومسؤولوها يغدقون عليه بافراط، بحيث جعلوه بعيداً عن الحاجة حتي الي راتبه التقاعدي من الحكومة العراقية، هذا جانب، ومن جانب آخر، فأن الشهادات اللاحقة التي أدلي بها العميد – الحصونة – والخاصة بهذا الموضوع، تناقض ادعاءه الأولي الخاص بالامتناع عن التنفيذ. ففي أحدها، يقول ” كنت مدعواً بدار نجيب الربيعي ” والصحيح بدار رئيس أركان الجيش اللواء احمد صالح العبدي ” مع آخرين، بينهم الزعيم قاسم، الذي طلب منّا جميعاً، أن نصغي لبيان مهم سيذاع الساعة الثامنة مساءً.. وأصغينا السمع.. واذا به بيان صادر عن عبد الكريم قاسم، يقول فيه: ان الكويت جزء من العراق.. ولايمكن أن يعلن استقلالها كدولة مستقلة بعد انسحاب القوات البريطانية منها.. فوجيء الجميع بما سمعنا، بما فيهم أنا، وطلبت من عبد الكريم قاسم أن يسمح لي ازاء هذا الموقف بالانصراف والالتحاق بمقر فرقتي العسكرية، خاصة ان قطعاتها موزّعة علي سبعة ألوية ” محافظات ” بما فيها محافظة البصرة.. فأشار لي قاسم بيده، أن أجلس ولا داعي لأن تذهب، فامتثلت للأمر، ولكن كنت قلقاً، ثم اصطحبني بعد العشاء الي وزارة الدفاع، أتيحت لي فرصة شرح الأبعاد العسكرية المحتملة جرّاء هذا البيان وتداعياته علي المستويين العسكري والسياسي وردود الأفعال المتوقعة، خاصة عدم وجود خطة عسكرية موضوعة سلفاً للتنفيذ، استمع قاسم لما قلته من دون تعليق.. “.
شهادة أخري
وتطالعنا شهادة أخري للعميد – الحصونة – حيث يذكر فيها، ” انه ذهب الي بغداد باجازة دورية، وبلّغ بضرورة حضوره افتتاح كنيسة الكلدان في الكرادة الشرقية ” والصحيح حضوره وليمة رئيس اركان الجيش في داره في معسكر الرشيد ” من قبل عبد الكريم قاسم، وكان مكان جلوسه بجوار – احمد صالح العبدي – رئيس اركان الجيش، حيث فوجئنا بما أعلنه الزعيم عبد الكريم قاسم بعائدية الكويت، لذلك أخبرت – العبدي – بأن ذلك يستوجب عودتي فوراً الي مقر الفرقة، استعداداً لتنفيذ الأوامر العسكرية بتهيئة القطعات العسكرية. الاّ أن – العبدي – طلب منّي عدم التسرع، وطلب منّي التوجه معه بعد الاحتفال الي وزارة الدفاع، لتلقي التعليمات المفصلة.. ذهبنا معاً الي وزارة الدفاع، وبعد وصولنا الي مقر – العبدي – دخل وحده الي غرفة عبد الكريم قاسم، وبعد دقائق معدودة خرج من الغرفة وبلغني مايلي: يقول الزعيم عبد الكريم، لاداعي لقطع اجازتك، وتمتّع بها.. تيقّنت حينذاك، انه لاينوي تحريك أية قطعة عسكرية باتجاه الكويت، وفعلا لم يصدر للفرقة الأولي بعد ذلك، أي أمر بالتحرك الي حدود العراق الجنوبية “.
وبرغم الاختلاف الحاصل بين شهادتي العميد – الحصونة – سواءً في المكان، وشكل تسلمه الأوامر، الاّ أنهما تؤكدان، أن الجميع، فوجئوا بالاعلان وتوقيته، مثلما فوجئوا بعدم حصول اجراءات لاحقة، تناسب خطورة ما أعلنه الزعيم قاسم، واقتصار الجهد في مثل هذه القضية علي المستويين السياسي والاعلامي فقط.
التدخل الدولي
بعد نزول القوات البريطانية في الكويت، أصبحت الأمور ذات أبعاد جديدة، ورؤي جديدة، مما أدخل هذه القضية مستوي آخر من مستويات الصراع، بحيث بدت إدارة الأزمة، تخرج من الأطراف المعنية بها، لارتباطها بمستويات أخري من أوجه الصراع الدولي وتأثيراته المرتبطة بالمصالح والمواقع والنفوذ. لذلك يمكنني القول، أن الأزمة وادارتها، كانتا دوماً خارج الحدود الجغرافية للأقليم العربي أو الشرق أوسطي.
كانت الأزمة تُدار دوماً من طرف دولي مؤثر وفعال، وهذا ماحدث عام 1961، وبات واضحاً بعد 2 آب 1990، حينما إحتّل الجيش العراقي الكويت. فالانزال العسكري البريطاني عام 1961، ومن ثم الوجود العسكري العربي الذي تلاه، كوّنا، مع بعضهما، الأساس أو السابقة التي أسس عليها فيما بعد، حشّدَ أضخم جيش شهدته المنطقة، بتقنياته وقدراته وامكاناته، وهو الحشد الذي لم تقف حدود أهدافه الاستراتيجية عند التكليف الأممي الذي شرّعه مجلس الأمن الدولي، في الدفاع عن الكويت وحمايتها، بل تعدّته لتحطيم العراق واعادته لما قبل العصر الصناعي، مثلما أوضح ذلك وزيرالخارجية الامريكي ” جيمس بيكر” في مباحثاته مع ” طارق عزيز” وزير الخارجية العراقي في حينها، في لقاء جنيف في كانون الثاني 1991.
كما كان هذا الحشد، بداية لتأسيس مرتكزات الهيمنة الأمريكية في المنطقة، بما يتمم المشروع الكوني الامريكي، وبما يؤكد لنا، أن الكويت، ليست جزيرة عائمة بالنفط فحسب، بل أنها قاعدة من قواعد الدور الامبراطوري الأمريكي، الأمر الذي يستوجب الدفاع عنها، كأحد مسلّمات الأمن القومي الأمريكي. ولعل هذا الامر ازداد وتعاظم بعد دخول القوات العراقية، والنكبة التي حلت بالكويت واهلها.
وهذا يؤكد أن دور العنصر الدولي، سيكون حاسماً وبشكل دائم في حل إشكالية هذه القضية. في تلك الفترة 1961، قدّمت الكويت طلباً للانضمام الي منظمة الأمم المتحدة، الاّ أن الفيتو السوفيتي أبطل هذه الرغبة. وفي تلك الأثناء، دخلت مصر والجامعة العربية علي الخط، فقد ” اقترح عبد الناصر، أن تطلب الكويت، رحيل القوات البريطانية، وأن تستبدل بقوات عربية مشتركة، وعندئذ تفتح أبواب الجامعة العربية للدولة الجديدة “. وهذا ماحدث، حيث قبلت الكويت هذا المقترح، وبدأ وصول قوات عربية من المملكة العربية السعودية والسودان ومصر والأردن، بديلاً عن القوات البريطانية التي بدأت انسحابها الذي أتمته منتصف تشرين الأول 1961، لقواعدها في البحرين، والتي لاتبعد كثيرا عن بؤرة الأزمة، مما اتاح لها أن تمارس نفوذها من دون ان تنغمس في الفعل المباشر لادارتها.
وقد كان قبول الكويت في الجامعة العربية، علي وفق قرارها المرقم »1777« في العشرين من تموز 1961، حالة ملتبسة، خاصةً بعد أن ترك ممثل العراق في الجامعة العربية الدكتور ” عبد الحسين القطيفي ” جلسة المناقشة، من دون ان يستعمل حقه في نقض هذا القرار، كون مجلس الجامعة العربية، يأخذ بحالة الاجماع، ولا نعرف لماذا وكيف تصرّف بهذا الشكل؟؟، أم أن هناك من دفعه الي هذا التصرف، ولا نملك ما يعيننا من الوثائق لوصف ماحدث، بأنه موقف شخصي أم أنه الموقف الرسمي !! أسئلة كثيرة لم يجب عنها حتي الآن، تسببت لاحقاً بمآسٍ كبيرة علي العراق والمنطقة.
معالجة عراقية
ونري ان قبول الكويت في الجامعة العربية، أمام معالجة عراقية سيئة ومرتبكة في ادارة هذه الأزمة، سواءً في تصرف ممثل العراق في الجامعة العربية، أم في شكل القرار المتّخذ في بغداد، يتمحور تحديداً في الموقف المصري، الذي لم يكن من دونه تمرير قبول الكويت في الجامعة العربية. ونعتقد أن هناك رأياً لايتزعزع في السياسة الخارجية المصرية، برغم وجود – عبد الناصر – وبغّض النظر عن تأثير المخاطر الدولية المحيطة بهذه القضية، يتلخّص بحرمان العراق من الاطلالة البحرية الواسعة والتمّدد جنوباً، لأن ذلك يعطي العراق، قوة مضافة الي مايملكه، مما يسحب من وهج التأثير المصري علي هذه الدول حديثة النشأة في شكل النفوذ المتحقق، هذا غير أن مثل هذه الدول، تظل أماكن واسعة ومستوعبة لتشغيل الأيدي العاملة المصرية، وبمختلف الاختصاصات، مما ينعكس ايجاباً علي التحويلات المالية التي تدخل ضمن الموازنات السنوية لخطط الدولة المصرية. هذا جانب، ومن جانب آخر، فلا يمكن لأي صانع قرار سياسي، أن يلغي تنافس التأريخ الأزلي بين القاهرة وبغداد، حتي وأن كانت سياساتهما المعلنة، تندرج تحت شعارات وطنية وقومية ووحدوية، خصوصاً أن ما هو مطروح وأمامهما من قضية مغرية، تستحق حتي المقامرة.
إضافة الي ذلك، وهو من أخطاء الدبلوماسية العراقية، انها لم تفتح حواراً معمقاً مع مصر في تلك الفترة الواقعة بين 21 حزيران و 1 تموز 1961، خاصةً وان القاهرة في حينه، كانت محور المنطقة. فوجدت مصر، تجاهلاً لدورها، مما دعم حجج مجموعة الخارجية المصرية، بوجه القيادة السياسية المصرية، بضرورة ايقاف العراق وتطويق موقفه، حتي وأن تطلب الأمر، شكلاً من أشكال العمل العسكري، وهذا ماتحقق لاحقاً، مما سحب القضية لتخوم وعرة، أدمت الكثيرين، وفي المقدمة منهم أهل العراق والكويت.
والغريب، أن الموقف المصري عام 1961، عاد وتكرر عام 1990. بل انه في المرّة الاخيرة، كان أحد العوامل المعقدة لايصال الحالة الي ماوصلت اليه، حينما نقل الرئيس المصري – حسني مبارك – وعوداً غير حقيقية من العراق الي الكويت، فبني عليها صاحب القرار السياسي الكويتي، مواقف, تسببت في فشل مباحثات جّدة بين الطرفين، والتي جرت برعاية سعودية يومي 30 و 31 تموز 1990م، فتهيأ الأمر لينفجر الموقف في 2 آب 1990.
لذلك، فالموقف العربي عموماً، والمصري تحديداً، أسهم في تعقيد هذه القضية، ودفع بأطرافها الي أن تستنجد بالدول الكبري لحلّها، وبطريقة عنيفة، مما رهن القرار العربي عند الاطراف الدولية، الأمر الذي سهل من تدمير منظومة الأمن القومي العربي، بعد أن أحيط بغباء وعناد من القيادة العراقية، وتطويق ومحاصرة واستعداء الآخرين من قبل الاطراف العربية.
ولعل الفارق المهم بين عامي 1961 و 1990، إن اختلالاً جوهرياً حصل في موازين القـوي، لاسيما بغياب الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، كما انه في العام 1961، كان النظام في حال افضل مما هو عليه في العام 1990، من حيث موقفه الداخلي والعربي والدولي، ناهيكم عن ذلك، فأن عبد الكريم قاسم، اكتفي بتهديد الكويت واعلن عن ضمها لفظياً، في حين إن – صدام حسين – دخلها وامحاها من الخارطة، بل وأعلن عن ضمها الي العراق وفقاً لأداء سياسي هزيل، إدعي فيه بحدوث انتفاضة داخلية، مستخدماً تبريرات مكررة، حول ” الأمن الوقائي ” و” المجال الحيوي ” و” الاطراف والمراكز ” وغير ذلك من المسوغات الايدولوجية والسياسية. فالعراق، وبغض النظرعن دعاوي الانظمة السياسية القائمة فيه، له حقوق في الكويت، وليست له أطماع. والغريب أن كل معالجة في هذا الشأن، خاصة من الجانب الكويتي والدولي، ترتكزعلي رسالة رئيس وزراء العراق في حينه – نوري السعيد – المرسلة الي السفير البريطاني في بغداد عام 1932م، والمتضمنة توصيفاً غير دقيق، لحالة الحدود بين العراق والكويت، علماً أن هذه الرسالة حررت كأحد مكمّلات الوثائق المطلوبة لقبول العراق في عصبة الأمم، والتي كانت تستوجب الاشارة الي حدود الدولة المتقدمة لعضويتها. والرسالة المذكورة، أرسلت من دون علم أو موافقة السلطة التشريعية »مجلس الأعيان والنواب« عليها، لأن هذه السلطة، هي المعنية بكل مايتعلق بحدود العراق استناداً الي المادة »26« من القانون الأساسي العراقي الصادر عام 1925، الأمر الذي يعني، أن ماحُرَّر، كان اجتهاداً من سلطة تنفيذية أقدمت عليه من دون علم أو موافقة الجهات التشريعية ذات العلاقة مما يحرمها غطاءها التشريعي اللازم بالالتزام في التنفيذ من الدولة العراقية، بل أن هذه الرسالة، لم تحظ بقبول أو توقيع وزير الدفاع في حينه الفريق ” جعفر العسكري ” لتقديره، انها سابقة قد يؤسس عليها في موضوع الحـدود، مما يحرم العـراق اطلالته البحرية، وتحديداً في ما يخص جزيرتي »وربة« و »بوبيان«.
إضافة الي ذلك، فأن الجانب الكويتي، يهمل كل ماسبق هذه الرسالة، وخاصة معاهدة لندن عام 1913 والمعقودة بين الدولة العثمانية وبريطانيا، والخاصة بتحديد وتوصيف وتثبيت الحدود، بين ولاية البصرة ومحّمية الكويت، الواقعة تحت سلطة التاج البريطاني آنذاك. فقد حددت هذه الاتفاقية وضع الكويت وحدودها، بما سمته بالدائرة الخضراء، وهي الدائرة المحيطة بمدينة الكويت وما حولها، بحدود عشرين كيلومتراً، في حين بقيت الدوائر الأخري الملونة ضمن عائدية الدولة العثمانية. وقد عدت هذه الاتفاقية في مادتها الأولي، أن »قضاء الكويت يتبع الحكومة العثمانية ويتمتع بالحكم الذاتي«.
التعثّر وضياع الفرص
بعد اكتمال تواجد القوات العربية في الكويت، وتأسيسها ما سمّي بخط الجامعة العربية، كحد فاصل بين المتنازعين، وهو الخط الذي تجاوزته الكويت لاحقاً، علي وفق قرار مجلس الأمن الدولي المرقم »833« والخاص بالحدود البرية، أو في تجاوزها علي قرار مجلس الأمن الدولي المرقم »773« والخاص بالحدود البحرية، واللذان صدرا عام 1993. فقد بدا ان الحل السياسي هو الطريق الوحيد لحل معضلات هذه القضية. وعليه، فقد بدأت في نيسان 1962، مباحثات سرية بين الطرفين، كادت تتوصل الي حل فدرالي بين العراق والكويت، الا أن ما أخر ذلك، حادثتان: الأولي مهاجمة الزعيم – قاسم – الأسرة الحاكمة، في خطابه الذي القاه في 6 كانون الثاني 1963، في وقت كان الوفدان بصدد التوقيع، مما أخر الوصول الي الاتفاق، مع ضياع فترة تقارب الشهر. وكان السبب الذي دعا الزعيم – قاسم – لذلك، هو اطلاعه علي بعض الوثائق الجديدة التي جلبها له وزير الخارجية – هاشم جواد – بعد عودته من اجتماعات وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة، ومروره علي بيروت، ولقائه مع بعض العوائل العراقية،المقيمة هناك والتي تملك بعضاً من هذه الوثائق.
إجراءات تحذيرية
والحادث الثاني: هو حركة 8 شباط 1963، فقد »حققت تهديدات عبد الكريم قاسم للكويت، بعض النجاح، اذ اتفق انذاك علي اقامة اتحاد فدرالي عراقي – كويتي، له جيش واحد، وعلي أن تترك الكويت للعراق، تصريف شؤون سياستها الخارجية والاشراف علي بعض أمورها المالية، لكن الانقلاب »8 شباط 1963« أزاح هذا التهديد.. ويماشي هذا الرأي العقيد – محسن الرفيعي – الذي يؤكد أن شكلاً من الأشكال الاتحادية، كان علي وشك الظهور بين العراق والكويت، لولا أحداث 8 شباط 1963.
في حين يشير بعضهم الي أن الكويت كانت تتعاون في الخفاء مع المعارضة العراقية التي حشدت جهودها لاسقاط عبد الكريم، من خلال اطالتها المفاوضات بين الطرفين، وكذلك مع أطراف عربية وأجنبية، تهدف للتخلص من هذا النظام لكونه العبء الذي كون لها أرقاً دائماً، برغم ان بعض أوساط النظام السياسي، تشير الي أن »عبد الكريم قاسم رفض التفاهم مع الانكليز الذين كانوا باعتقادي مستعدين الي الالتقاء معه في منتصف الطريق اذا ضمن لهم مصالحهم الحيوية. فقد طلب السفير الهولندي في بغداد، مواجهتي في وزارة المعارف،.. وسألني اثناء المقابلة عن مراحل تطور قضية الكويت، ثم طرح بعض الاراء، التي اعتقدت – وما أزال – انه كان موحي اليه بها، ومما قاله: لماذا لاتتفاهمون مع البريطانيين، فلربما أنهم مستعدون للتعاون معكم علي حل القضية. ولما أخبرت عبد الكريم قاسم، بتلك المقابلة، رفض الفكرة، وقال اننا سنحصل علي حقوقنا من دون الانكليز«.
ويبدو لي، ومن خلال مراقبة اداء وفن الدبلوماسية الكويتية واجراءاتها السياسية، آنذاك، وفي مابعد، ان تلك المفاوضات، كانت اجراءات تخديرية، لترويض نظام – قاسم – ومنعه من التدخل العسكري، دون أن تسقط من اعتبارها تكثيف جهدها الاخر، من خلال دعم واسناد كل الراغبين في اسقاط هذا النظام. ولا أستبعد المشاركة البريطانية في هذه اللعبة، بالجهد السياسي والاستخباري والمالي، مع تأشير السذاجة السياسية العراقية، في قبولها الاستمرار بهذه اللعبة، وبمستوي من يمثل الطرفان فيها، علي أمر كبير وبهذا الحجم. ويتحمل المسؤولية في ذلك، وزير الخارجية – هاشم جواد -. ازاء ذلك يواجهنا سؤال مهم ماحقيقة دعاوي عبد الكريم قاسم بالكويت، وما هدفه منها ؟
منهم من رأي ” مطالبته بالكويت، إلهاء للرأي العام العراقي، وتفنيد المزاعم المقالة عنه بأنه ضدالوحدةالعربية”، ومنهم من وجد مطالبته تلك، بأنها ” لتدعيم موقفه وسلطته أمام الشعب الذي انقسم علي بعضه جرّاء سياساته غير المستقرة، وحاول ان يحوّل اهتمام بلد منقسم علي نفسه عن الشؤون الداخلية الي الشؤون الخارجية “. في حين يري مؤرخ ثورة 14 تموز، بأن مطالبة الزعيم قاسم بالكويت »متأتية من رغبته في استعادة بعض الشعبية لنظامه ولنفسه، وهي بالنتيجة دعوي مفلسة..«، ويوافق رأي مدير الاستخبارات العسكرية، هذا الاتجاه، بقوله »انه ” عبد الكريم قاسم ” لم يكن جاداً في تنفيذ طلبه في انضمام الكويت الي العراق..«. في حين يعزو أحد الساسة تلك المطالبة، بأنها جزء من جهده في خدمة العراق ووحدته، وكانت إحدي اُمنياته التي لم يسعفه الوقت لتحقيقها. والغريب، أن الشارع السياسي العراقي، بتياراته المؤثرة آنذاك، لم يعط هذه القضية، اهتماماً واسعاً، وتعامل معها بقدر من اللاابالية. فالحزب الشيوعي العراقي، وجد أن اشاعة الديمقراطية وترسيخ مؤسساتها، يتقَّدم علي مثل هذه المطالب، جاء ذلك عبر البيان الذي أصدره الحزب، تعقيباً علي “مطالب ” الزعيم – قاسم – بالكويت. في حين، حمل بيان حزب البعث العربي الاشتراكي، الرأي القائل: بأن الوحدة تصنعها الشعوب وليست الحكومات. في حين نلاحظ، أن الكثير من الوجوه السياسية الوطنية العراقية، والعديد من قادة التيار القومي- حتي الموجودين في القاهرة كلاجئين – تفاعلو بدرجات متفاوته مع تلك الدعوة، خاصة في أهمية وضرورة الاطلالة البحرية للعراق. اما صداها الجماهيري عند عموم الناس فقد كان واسعا. لقد ظلمت الجغرافية السياسية العراق، مثلما ظلمه حكامه، وجعلته أشبه بالبلد القاري، يري البحر من بعيد دون أن يصل اليه، ولعل إطلالة علي خريطة الشرق الاوسط، توّضح ان الأرض العراقية، عبارة عن برزخ بري وحيد في المنطقة ذاتها، فهو محاط بالبحار، لكنه محروم منها، وانما هو جسر للتواصل فيما بينها. ولذلك فهو بوابة برّية مفتوحة، بل أنه نقطة عبور جغرافية وتاريخية في آن واحد ” فعلي أرضها تصارعت اولي امبراطوريات العالم القديم، المصرية والفارسية واليونانية والرومانية، وكانت هي المعبر الي فارس والهند،وكانت هي ممر الاسلام الي آسيا. ومقر عزالخلافة وعاصمتها، ومقصد. التتار وطريقهم الي الشام…. هي باختصار أرض الاسكندر وبختنصر وكسري والحجاج وخلفاء العباسيين الكبار والصغار… “.
رجل عسكري
ونري أن “مطالبة ” الزعيم عبد الكريم قاسم بالكويت، نابعة من عقلية رجل عسكري طموح، ومهما كانت نواياه، صادقة في مراميها، الا انه لم يقرأ التاريخ، ولم يأخذ توازن القوي علي نحو صحيح. كما أنه، وحينما وجد أن الطريق أمامه موصداً، بسبب التدخلات العربية والدولية، لم يركب رأسه ويغامر بالعراق ومستقبله، مثلما فعلها صدام حسين لاحقاً، بل تصّرف بمسؤولية عالية ازاء ما مناط به من مسؤوليات، وحاول قدر الامكان، الوصول الي حل يستجيب للحد الأدني من المطالب الوطنية العراقية، لكن الاحداث لم تنتظره لترتيب مارغب فيه.. فضلاً عن ذلك، فأن مطالبته بالكويت، مع ماصادفت هذه الدعوة، من قبول جماهيري لها، أوجدت له فرقاً ومعسكرات وكتلاً، داخلية وخارجية، ربما توافقت جهودها معاً لاسقاطه ودفن مشروعه، وهذا ليس بعيداً عن طبائع البشر التي تتسبب الاوضاع القلقة أو المشروعات الاستراتيجية الكبري، في صراع تختلط فيه الحقائق بالاوهام. ولا يفوتنا، أن نشير الي احتراق وضياع وتلف الكثير من الوثائق والأوراق والمراسلات، الخاصة بمشكلة الكويت أثناء قصف مقر الزعيم عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع، يومي 8 و9 شباط 1963، بسبب حرصه علي ادارة هذه القضية بعيداً عن سلطة الموظفين والبيروقراطيين، الأمر الذي عرضها بسبب القصف الجوي الشديد ومدافع الدبابات، أن تذهب حرقاً أو ضياعا. لذلك، فأن حركة 8 شباط، كان لها فضلان علي الكويت، الأول: أنها اُسقطت نظام الزعيم قاسم الذي أحرجها كثيراً في مطالبه، وكاد يحققها، والثاني: أنها أحرقت أو أضاعت كل مدوّناته وأوراقهِ ووثائقهِ التي استندَ اليها في مطالبتهِ بعائدية الكويت.
/2/2012 Issue 4127 – Date 20- Azzaman International Newspape
جريدة »الزمان« الدولية – العدد 4127 – التاريخ 20/2/2012
AZP07