غابة العطر والنايات.. قراءة المتن الأسطوري
ناجح المعموري في مشغل الشاعر
شاكر سيفو
منذ اكثر من ثلاثين عاما والباحث الكاتب الناقد الروائي ناجح المعموري يعمل في حقل الاسطورة وله مؤلفات عديدة في هذا المضمار التاريخاني الميثيولوجي.
لقد حرص الباحث ناجح المعموري ان يقرأ عددا من التجارب الادبية شعرا وقصصا وروايات..وقبل شهور عديدة دخل مشغل كاتب هذه السطور وأنجز مؤلفا موسوما ب غابة العطر والنايات الأسطوري والدنيوي في تجربة شاكر مجيد سيفو نطالع في متن المشغل القراءاتي للمعموري حفرياته السيميولوجية والأركيولوجية في نصوص الشاعر كاتب هذه السطور حيث يشير الى .
يعرف الشاعر جيداً بأن اليومي » الروحي » الديني مختزن للأسطورة. ومدرك موقعه في الاتصال بين الجماعة. بحيث تتحول اليوميات الى بؤر في التراتب الاتصالي بين الجماعة التي تجد وظيفتها في الطقوس ورمزيتها المألوفة والمعروفة. لكنها تنطوي على طبقات من الزمن والتوظيف. وتبدو هذه اليوميات رتيبة لكثرة مألوفيتها. لكن القارئ يصطاد منها القليل أو الكثير، فتشع الرمزية في الطقوس لتقدم لنا ما يشبه الأحلام. وكلاهما الرموز » الأحلام كامنان في عمق الأسطورة وهي رحمية لهما. ومن هذه العلاقة المتشاكلة مع بعضها تتبلور في النص يقظته المتمردة والفياضة بما تريده الشعرية من مندثرات الطقوس المستيقظة بشكل مفاجئ وهي تستعيد البعيد في الذاكرة الفردية والجمعية بشكل واعٍ أو غير واع. وهنا تبرز من نصوص شاكر مجيد سيفو ظاهرة الاستعادة لما هو غائب » وحاضر. غائب في مكمنه البعيد وطبقاته. وحاضر في الآن ولحظته المفاجئة. كي يتحول من مجهول الى معلوم » معروف عندما يستعيد المختفي ويكرسه في نص له وظيفة خاصة تتحين عبر الانزياح ومن خلال التشكيل بمعناه الفني. حيث الصورة المجسدة لما هو فردي. أو جمعي. ولأن سيفو متخندق بالأسطورة. فإنه من خلالها يستحضر الروحي » الديني. وأنا أعتقد بأن المسيحية أكثر الديانات تشبعاً بالأسطورة والشعائر. أسطورة الخصب والقربانية وتكاد تكون هذه الديانة تشكيل ثنائي. لا تبتعد عنه كثيراً. وتتجاذب معه ولكن بأطياف لونية متباتينة. لكنها معاً تفضي نحو أسطورة. هي لنا. لأنها جزء من ذاكرة ومخيال جمعي صاغ رموزه أو استدعاها للحضور والمثول مرة أخرى. لتومئ لمزاولة جديدة ليست طقسية » بل هي مدوّنة. ولا فرق بين الطقس والتدوين. كلاهما يسجلان المخبوء » المدفون عميقاً في ذاكرة لم يستطع الزمن التحكم بها والانغلاق عليها. هنا ينكشف الرمز وتستيقظ طاقته وتتفعل قوته ولا يقوى المبدع على مقاومتها ويسجلها ويمنح هذا الفضاء وجوداً وحياة. أنا أعتقد بأن العلاقة الموجودة بين المبدع والأسطورة بكل عناصرها. هي من نوع خاص. فيها غرابة وسحرية جذب. متأتية عبر التداخل الحاصل بين الرموز وتشاكلها مع بعضها البعض وامتدادها عبر فضاء واسع. هذا الاتساع هو ما يميز الرموز الجمعية التي صاغتها الجماعات المتخيلة عبر أزمنة قديمة كي تكتسب حياة وبقاء أزلياً. لأن الرموز هي وسائل الجماعات للبقاء ومقاومة الاندثار والترميد ولكن من خلال الممارسات الدينية وتمظهراتها بواسطة الطقوس ومدوناتها الأسطورية وهي عديدة وكثيرة. لكن التعدد يدنو من بعضه ويصير واحداً لا يلغي ما كان. بل يحفظه ويرمزه ويشير إليه. هذا التحرك الرمزي هو مانح الحياة للجماعة لأنها أدركته وتعاملت معه ومنحته حرية يكون بها وعبرها متنوعاً بدلالته. وليس لأن الأسطورة والدين هما اللذان أنتجا الرمز بل لأن الجماعة هي المانحة لها أنظمتها الخاصة والمشتركة. لأنها موجودة في حياة الجماعة وداخل المجتمع. ضاغطة للدور المميز لها. لأن الرمز يكتسب حيويته عبر تجدده في الممارسات الطقسية وفي التجارب الفنية والأدبية وكأن الإنسان يؤشر عبر تلك التنوعات والممارسات الى كينونته الرمزية باعتبارها إنساناً مرمّزاً كما قال ميشال مسلان. لأن الإنسان يفهم عبر ذلك ـ الرمز ـ أو الرموز ـ ويبحث عن معناه ودلالة أي شيء بواسطتها. لأن وظيفة الرمز ليست متمثلة فقط في إرساء رابطة بين بعض المجموعات البشرية ولكن بصورة أوسع في التعبير عن علاقات بين الإنسان والكون. فالرمز يوقظ أشكال استبصار مختلفة بما يمنحه من معان متشابهة. مكونة بطريقة شبه عفوية في العقل الإنساني وحاملة لمدلولات فنية. مباشرة وغير مباشرة. فهو لغة ذات تأثير مزدوج. بواسطته يحس الإنسان قبل أن يفهم أو يفسر تجربته الحالية. وقد قدم القديس أوغسطين وتوما الاكويني مفهوماً للرمز ما زال حاضراً بقوة ـ الرمز هو معطى. فضلا عن الظاهر الذي يجلبه أمام حواسنا يجلب للفكر أمراً مغايرا كأثر الحافر الذي يعلمنا بمرور الحيوان. والرمز عند القديس أوغسطين دائماً يظهر بمثابة التقاء شيء مادي محسوس مع العقل الإنساني. يشحنه فيه بدلالة لا مرئية مكسبا إياه بعداً متعالياً. والرمزية هي المقدرة التي يمتلكها الإنسان لتجاوز الظاهر المادي للأشياء. وانشغال الجماعة برمزها دائماً تعبير عن محاولاتها المستمرة للإعلان عن حقائقها الحياتية وتصوراتها الروحية والدينية. وتطرفت بعض الدراسات في علاقتها من الرموز كثيراً. حيث ذهب كروز الى التعامل مع الرمز بطريقة غربية وأكثر تطرفا عندما وجد قدرة الرمز الهائلة على المساعدة في رؤية الإله أو جعله مرئيا للآخرين لأنه يأخذ الإنسان إليه ويسحبه بقوة فائقة كي يعاينه الإنسان ويستولي على روحه وكأنه أمر مرير.
في نص ـ صداقة الوردة ـ انفتاح على الرمزية لدرجة غابت وسط مألوف الورد اليومي وتحوله الى مفردة اختزلت البشري والمادي. لكن شاكر امتد معها وصعد الرمز متجاوراً مع شفافية كأنها آتية له من الورد.
أثقلني الورد بعطره
هذا ما تفوّه به الصباح
ووشوشنني به الرياح 3
هذا النص حكاية مكونة من سرديات قصيرة. طافحة بغنائية هادئة وحكاية الورد راويها الصباح وليس الشاعر. هو مستمع فقط لمرويات جاءت له من الغير. ووصلت إليه. حاملة رسالة اليوم الآخر ولكنه جديد حكاية الورد وراويها الصباح المشتغل بكل ما له علاقة مع الورد أو بكل ما يتوالد منه. الألوان الجميلة والباذخة. الاكتناز » الرهافة. علاقتها ـ الوردة ـ مع الأحاسيس ومركزها العين ومن هنا تتكون مركزية هذا الرمز الذي بالإمكان اعتباره معلوما ومعروفاً وأكثر علاقة للإنسان به. يسعى إليه غرساً ومداراة. مائل في ديمومته ومرسل لعطريته. مثلما هو يؤشر الى أصل أسطوري بعيد جداً. يومئ لنا بأسطورة نرجس وأول صورة قادت الى ثنائية العقل والعين في فلسفة ميرلوبولتي الخاصة بالعين والحواس. نرجس هو الجذر الأول لمفهوم الصورة في التاريخ. والوردة هي الاستراحة التي استيقظ فيها الإله الجميل. والوردة هي مختبر الحواس كلها وأكثر حضوراً وتمركزاً في الفلسفة العين واليد التي اعتبرها ميرلوبولتي من أدوات العقل وتعامل الشاعر معها بتخيّل واضح انحرف كل ما هو معروف الى زحزحة الصامت الى ناطق ببلاغة محسوبة للورد والصاخب هامس وكأنه يفشي سراً. هذا ما حصل مع الريح. والصباح راو والريح هامسة والتفوه ألصبحي نور وإضاءة. وابتكار زمن جديد والهمس أكثر خرقا لنسق الريح الصاخبة المعقلنة بخطاب الورد. وبين التفوه والوشوشة حضرت الوردة لا كاسم أو صورة وإنما كمتخيل استحضر مساحة واسعة للوردة التي قلنا عنها بتعددية الرمز ودلالته من خلال الواحدية وهذا النص هو الأنموذج لناظم التعدد الرمزي وصعود الواحد. معبراً عنه. فالعطر أثقل لحظة جديدة. يفترضها النص يقظة جمال جديد. هو الصباح تتسع فيه الوردة رمزيا وتفيض بشعريتها الصوفية
للوردة أشغال في السّر وفي الغيب
لا تفهمها إلا الروح
للعطر مراكب
لا تعرف موعدها إلا الريح 4
قلنا في البداية بوظيفة الرمز والمجاز في الأسطورة يعلن عنهما الشاعر في هذا المقطع. ويقولها صريحة وظائفية الرمز » الوردة. وظائفيات سرية » وعلنية. مخفية وغائبة تماما. هي حاضرة في السر ومعرفته صعبة ومعقدة. الاكتشاف استمرار الحضور الدلالي. وللشعر هذه المهمة. والغنوص المسيحي معلن عن السر والكتمان. وكل ما غير معلن معروف له. الغنوص هو الصاعد نحو الغيب والميتا الازلي. هذه انشغالات الوردة الصعبة والعصيبة هي مكشوفة » مفضوحة للغنوصي » الروح الداخلي العميقة. وكلما تتكتم الوردة. يصعد إليها التجلي والتصوف للإعلان عن العرفان الخاص بالروح. ومثلما للسر روح كاشفة. منورة له. فاضحة أسراره وتكتمات الوردة. فان للعطر سفائنه » مراكبه. الصغيرة والكبيرة. هي بصورتها المألوفة وان حضرت تخيلاتها الرمزية الأنثوية التي ازدحمت بها نصوص ديوان اطراس البنفسج ولان الشعر يحفر وراء شعريته فان تلويح الرمزية العميق في رمز المراكب كما ذكرنا. وهذا يطوعه النص بشعرية رمز أكثر عمقاً هو الريح المرموز الذكوري في أساطير العراق القديم. لأن الإله انليل وريحه طاقة جنسية مخصبة. ومساعدة على أنتاج الانبعاث والخصوبة. يضيء هذا المقطع القصير وظيفة الوردة الجنسية الملتمة على بذرتها الأنثوية الداخلية وان كانت الوردة في هذا المقطع مرمزة جنسيا. فأنها في النص نفسه يصيرها عطرها ذكراً. وكان الشاعر اوجد من مذكر العطر وظيفة نوع ويؤدي دورها الفحولي.
العطر وحده سيد المخلوقات. ومنها
النساء
لأنه يطير إليهنّ دون جواز
ويختار أيّ قوس من أجسادهن للإقامة
كل ما يشاء 5
الوردة في هذا النص بثقلها الرمزي التنوعي تنزاح في المقاطع التالية نحو التجريد الكامل. العطر هو مركز الرمزية المجاور للوردة والتي تتخندق فيها. هو منتج اللون أو التاج السري. غير المرئي. العطر لا لون له مثل الوردة. لا صورة له. تتعطل الحواس كلها معه وتتفاعل حاسة واحدة. هي الكاشفة عن حضوره والمكتشفة له العطر في نص للشاعر مالا رميه زبد وهنا حصلت بلاغة التلاشي وكل شيء يحصل كأن شاعرية العطور والطيوب تخيل تصورها بصيغة لا نهائية من اجل تحقيق تأثير سلطتها على قانون آخر قريب من الكون المعطر. ولكنه أكثر قابلية للامساك. واقل اضطراباً، أي الى شاعرية تماثلية. ويذوب العطر. بطبيعته. ما هو قابل للامساك والتملك………حركة العطر هي سر الاضطراب الشهواني ودورانه. وحركة العطر قاسية وعنيفة 6 في نص الشاعر شاكر مجيد سيفو العطر ذكر » فحولة. تحضر أمامها الأنثى لا بل المخلوقات كلها. فهو سيدها ومنها النساء. ليست واحدة. بل كلهن. لأنه سحري. وبه جنون من نوع غريب. ليس جنون الشاعر الذي أشار له أكثر من مرة. جنون مخترق الحاسة الوحيدة. الراضية به والقابلة باستيطانه. انه قوة مستعمرة للأنثى. لجسدها. كل مكان فيه. يجثو عليها وفيها ويستدعي باسمها أو بخصائصها اللحظة اللذية التي يكون هو فارسها. انه رمز. شعري وتقريري. هو كناية عن الدعوة السرية التي دائما ما تكون الأنثى إجابة لها. والفحل نداء عليها. يخترق بتجريده الأنثى. العطر ذكر وفحولة. وحركة العطر قاسية وعنيفة. وهي سر الاضطراب الشهواني كما قال عبد الكريم الخطيبي.
عطر الوردة في نص شاكر مجيد سيفو خفيف. سريع الانتشار والوصول الى الآخر » الأنثى. هو رسالة حاملها الهواء لمتلق في مكان قريب وممكن أن يكون بعيدا. العطر شفرة معلنة عن تحضيرات الأنثى بعد صحوة شهوتها الصاعدة بالتجريد » العطر ولأنه خفيف جداً. هو الهواء. فمسموح له الانتشار والتوسع. الهواء صديقه. ومعلن عنه. يخترق كل ما هو مادي ثقيل. ويتهاوى بعطريته اللافحة. يخترق ويصل الى حيث توجب عليه أن يكون. حاملا رسالة الأنثى » التراب » الأرض. حتى يصل بدون جواز على الرغم من ذكريته. ولأنه احد أسرار الوردة. يطوف متخفيا. ومعلنا عن نفسه. يتسلل يختار أي قوس من أجسادهن للإقامة قارن هويسمان العطر باللغة. هي مقارنة استعارية. فهل يخضع العطر الى التحليل الصوتي ؟ الى النحو التعليمي ؟…… لقد تخلصت العطور مبكراً من وحشيتها الجليلة. على الرغم من أنها ترتبط أساسا بالطبيعة. ويظهر أن استعمالها التصق. منذ المرحلة البدائية تقسيم العمل بين الرجال والنساء. فالرجال يتوجهون الى الصيد. والنساء الى القطاف……وهذه المرحلة تثبت الوظيفة النسوية للعطور….مع ذلك فان للعطر خصيصة أقوى من المحرم كما في أسطورة أدونيس في النص الشعري فضاء للوردة وسحرية للعطر وشعرية للعلاقة مع الهواء. وللعطر ينبوع أسطوري أعاده الخطيبي 7 الى أسطورة أدونيس وهي أصل أكثر قدماً من أسطورة نرجس التي أشرت لها لأنها تحيل للحظة تشكل الصورة وسيادة النرجسية في العالم. بحيث صار العالم نرجسيا وانشغل بنفسه كما قال باشلار في كتابه الماء والأحلام. لكني قصدت في أسطورة نرجس الانبعاث المعروف وصعود زهر النرجس بديلاً انبعاثياً.
العطر في نص شاكر فحولة خطيرة » اقتحامية. تفيض الجسد وتكتب عليه وفيه بسرية تامة. وللعطر قوة السم القاتل كما قال الخطيبي. ولأنه اقتحامي ـ كما قلنا ـ يختار أي قوس من أجسادهن للإقامة » كل ما يشاء أقامته اتصال جنسي مع القوس. رمزيته الجديدة الان سهميته. هذا هو التحول الشعري للرمز. وهذا ما لم يقله الشاعر ولا نصه. لكن السهم الرمز القضيبي لابد وان يحضر مع القوس وتوظيف الشاعر فيه ذكاء وللسهم كل ما يشاء لان جسد الأنثى كله يستدعي المقتحم ويرضي بالمستوطن ويقتنع به اعترافا له بالنوع اليومي. المعروف والمتفق عليه. العطر يلبس جسد الأنثى بالاستدعاء والإعلان ويصير متصلا ويختار صفة النوع ويتسلل التجريدي بعد تحولاته الرمزية ـ السهم مثلما قال بول كلي عن المشكل الذي هو مكمن الحياة » الخصوبة » الموت » الاندثار » والترميد تفضي هذه الثنائية عن القوس الحامل لدلالة ثنائية. التجدد أو الانطفاء وسر هذه الثنائية هو السهم الصغير المنزاح عن عطرية النص وتحوله قضيبا. تكمن في وظائفه الادخالية والاتصالية ثنائية بول كلي الحياة » الموت. أنها ثنائية الفكر الأسطوري وتمظهره الطقوسي الذي لم يغادر مطلقا فضاء هذه الثنائية المتجذرة عميقا في نص صداقة الوردة والنصوص العديدة التي تضمنتها ديوان اطراس البنفسج للشاعر شاكر مجيد سيفو والتي سنشير لها لاحقا تضمن نص صداقة الوردة احد عشر مقطعا او نصاً أخضعها الشاعر لسياق الانتظام تحت العنوان الذي أشرنا له. لكن المتلقي يتوصل بسهولة بأن أربعة نصوص محكومة للعنونة ومكسورة التراتب ولم أستطع التوصل الى التفكير الذي قصده الشاعر من هذا الخرق وربما أغواه تاريخ كتابة هذه النصوص التي تخندقت مع بعضها بشكل عشوائي. لكني لا أستطيع تفكيك رمز الوردة عن النصوص الأربعة. لأنها ممتدة وحاضرة ولكن حصل قلب أو خلخلة لدلالة العطر الرمزية مثلما سنرى بعد قليل
العطر وحده سيد المخلوقات. ومنها
النساء 8
أضفى الشاعر على العطر سيادة مطلقة بالإضافة الى قداسة غير مسبوقة أو مألوفة من قبل. عرفنا بأن الديانة العراقية القديمة فيها آلهة خالقة وحازت صفة الملك أو الأمير والسيد وعلى الرغم من ذكورية كل الآلهة » أنكي » شمش » آنو. فإنهم حازوا وظيفة التخليق وصار كل منهم سيداً لمخلوقاته وعباده. تدعمهم طاقة سحرية هائلة. تساعد الإله في لحظة ما. ووظيفة التخليق للآلهة الذكور خاصية في الديانة العراقية القديمة. تحوطاً من احتمال تعطل أو موت الآلهة الأم السومرية مامي » ماما » ننماخ » ننخرساك. أو الأكدية أورورو وازدواجية هذه الخاصية صار الإله سيداً للمخلوقات. وهذا ما يعرفه الشاعر شاكر مجيد سيفو بشكل واضح. لكنه فتح نصه صداقة الوردة نحو فضاء رمزي سنتناوله لاحقاً وهو الموسيقى. لأن هذا الديوان أطراس البنفسج توزع بين رمزين تجريديين هما العطر والموسيقى.
العطر اسم للوردة. العطر مذكر والوردة مؤنث. ويخرق الشعر هذه الكنية وتغادر الوردة صفتها ويتعالى العطر المشتغل بأصوله الأولى ويحوز صفة طيرية. يحلق طائراً نحوهن. متسللاً. يختار ما يريد من أقواس الأنثى أو كل ما يشاء وربما كل الجسد. لأن العطر فحل. افتضاضي ومعربد وأجد ضرورة التذكير بطقوس الإلوهة المؤنثة في فجر الحضارة الزراعية التي ألمح لها الأستاذ عبد الكريم الخطيبي. حيث الدور الأمومي في اختراع العطر والمخدر. إنه من وظائف الإلوهة المؤنثة إلا أنها تحتاجهما ـ العطر والمخدرـ في أداء طقوسها الدينية ومركزها الجنس المقدس وظل سراً من أسرارها. وهي متباهية به ومعلنه عنه. وطقس الجنس الإلهي » المقدس حضور للعطر والذكورة مفعلة له. ونلاحظ تداخل الإلهي والبشري من خلال رمزية العطر. قال الخطيبي أن العطر مشهور بأصله الإلهي. هو الحمية المثيرة للشهوة. وهو بجفافه وسخونته. وعدم قابلية اختصاره في الطبيعة واللغة. القناع المتلاشي. للعنف الناكح الذي لا يمسك. ولان السلسة العطرية كما تسميها الكيميائية تدخل ضمن الشهوة لا استمرارية ثملة. فهي دوار المعنى والحواس الخمس في معناها الكامل وفي مقابل هذه اللا استمرارية العنيفة يكتب العطر. وهو يتلاشى. في جوف الجسد دليلاً مصطنعا لفناء مصطنع. فالفناء المعطر هو فن للحياة. تحريف لتمثيل الفناء الحقيقي. فناء عذب ملتصق بارتعاشه اللحم. هل هناك ما يرعب أكثر من هذا ؟ وما هو الأكثر ابتهاجا كهذا القانون المتلاشي الذي يمكن أن ننسفه. نلقفه » نفسده ؟ 9
عطرك لا يؤجل رائحته أبداً
لا تزال غرفة نومي دائخة منه
وأثوابي تثرثر بناياته
العطر يؤجل رائحة الموت 10
الفناء والذوبان بالجسد » الأقواس. عذب كالماء. لذيذ كاللحظة الفحولية. هذا ما فضح سريته النص. فالعطر طوفان. عربدة الرائحة هو مجنون بالمداهمة والتغلغل والاختراق والتدمير. فطاقة العطر وسحريته لعبت بالمكان ودوخته. فكيف كان الفحل ؟ كان حجاب الجسد الفحولي منشدها ومدوخا بالثرثرة. ولكن أية ثرثرة أنها تصوّت بالموسيقى وتوظف النايات. وفي هذا النص حضور للموسيقى التي اشرها ألخطيبي مقترنة معاً بالعطر الذي لا يميت في اللحظة وإنما يؤجله ويعطل رائحة الموت ويلاحظ بان شاكر مجيد سيفو على وعي بالعطر وما يعنيه وأشار الى رائحته في هذا المقطع المنقول عن الشاعر أدونيس. واعتقد بان اسم الشاعر أدونيس غير حيادي في نص استعاد العطر ثانية ودلالة الاسم الأسطورية لها اقتران مع الزهر » يعاود استحضار الأصل الأسطوري وما تعنيه رمزيته المعروفة. صاغ نص صداقة الوردة شبكة دلالية غزيرة. منها ما هو يومي » معروف. لكنه يفضي نحو فضاء طقسي ورمزي كذلك الأسطورة حاضرة في هذه الشبكة غير المرئية. او ليست طاغية بحضورها الواضح.
…. وحينما امتلأت بعطرها
داخ منّي المسك
فامتلأت بالجنون.
تلك هي رقيتي
وكلّ ما تضمره الظنون 11
عاود الشاعر مرة أخرى تكرار العطر. لكنه مقترن بالأنثى ـ عطرها ـ وقد امتلأ به واحتشد لها. وتاه منه المسك. عطر آخر على الرغم من أن النص لم يحدد عطراً. لان النص متمركز حول ما هو عام وتجريدي. لكنه أسمى عطره وربما هو ماؤه. لذا احتشد بالجنون » الفوران ونلاحظ تكرار الإشارة للاكتناز ـ امتلأت ـ والمثير للغرابة والدهشة هو ان جنون الرجل هو رقيته السرية. وهذا ما اشرنا ـ السحر ـ له سابقا
زهرتك خادمتي. مثل عيني
ـ دائما ـ تتبجّح بعطر جسدها
وحنّاء كفيها
أرسلت لها كلّ مديحي
لكنها لا تزال تلوب وتتأوّه
بين لوعة الروح
وأعمدة الريح.. 12
الأنا صاعدة في هذا النص والاعتراف فيه تباه والزهرة ليست وردة الزهرة هي بؤرة الجسد الأنثوي. موقدها ومع كل هذا الاعتراف بها ومديحها فهي باقية بقلقها وحزنها. تكرر تأوها بين الروح والريح والروح ترمز للزهرة واختصار لها. لا بل بديلا شعريا.
س اسم الوردة التي تجوهر بصداقته لها وتميز على العالمين وسينسى صداقته مع الآس . ويبحث عن صديقه الآس. اعتراف آخر باسم الوردة الدال عليه بحرف واحد. إنه رمز أيضاً. استعان به لنسيان تاريخه من الحزن والخسارة. واختزال الأنثى » المعشوقة الى زهرة » فرج وحده خادم للفحل. كذلك اختصارها بحرف واحد س .
لم يكتف الشاعر بذوبان أسطورة الإله الشاب أدونيس كما قال الخطيبي أو نرجس في الأسطورة الإغريقية وكلاهما انبعثا زهراً في فصل التجدد الحياتي. لكنه أشار للنرجس كنوع من الزهور. والإشارة ليست بعيدة عن المحيط الميثولوجي الذي صاغ شخصية الإله الإغريقي الشاب
أُنبئُّك أنا ذاهب الى الزرقة
اصطاد النرجس
دموعي كريستال
ومياهي لآلئ 13
ولأجل كل هذي الدموع. نمجد المياه
تنوع اللون الى التضاد بين الزرقة والنرجس. صفاء الزرقة وما تفيض عنه قدسية ونقاوة النرجس الذي يذكرنا بأنه بديل الإله الجميل. إله أخذ منه الصوت في النص أنوية واضحة. تماهت مع الأصل الميثي عالي الصوت ومفرط والتنوع » كريستال واللآلئ ليست جواهر. بل هي دلالة على مباهاة الفحل بذكورته وماء القلب حسب التعبير السومري. لعل المقطع الأخير والمكتفي بواحديته استجمع كل ما شعر به الصوت » الذات في تمركزات عندما أعلن بأنه يمجد المياه بسبب دموعه. التي لا علاقة لها بالبكاء. بل هي مياهه » اللآلئ. وبؤرة هذا النص الصغير ماء القلب » دفق الذكورة. لأن الشاعر سيفو لا يقول ولا يعلن اعترافه صريحاً. بل يختار له الرمز المستل من يومياته. لكنه يحورها ضمن السياق النصي ويغادر المألوف لتصير رمزاً. ويكرس هذا الموقف في نص أطراس المعنى ويقول
في غفلة من العالم دخلت الفردوس
احمل معي مياه الأزل وورد الجنان 14
لا يعني إلا أنوية طاغية وطيوف الأسطورة الأولى حاضرة في هذه النصوص. هذا هو حال صوت الفحل في نصوص شاكر مجيد سيفو وبؤرة الذكورة كافية لإيضاح مجال الأنوثة التي لم تكن غير متعية ولذّية وزهرة الأنثى خادمة للفحل
الوقت نرجس يشاكس
الأصيص
ويفلت منه القمر 15
هذا نص آخر. تكرر فيه النرجس بوصفه نوعاً من الزهور. وما يهم أكثر هو التماهي الأنوي بين صوت الفحل والأصل الأسطوري وهذا ما أكدت عليه عديد من النصوص. وتشظي الدلالة لتومئ نحو ترميز آخر وجديد للذكورة وادخال القمر رمزاً لها والتعامل النصي معه ـ القمر ـ ظل مثلما هو معروف عنه في بعض مراحل الديانة العراقية القديمة. باعتباره دالاً على الإلوهة عبر القرون. كثير الشبه بالهلال » القمر. وفي هذا التمظهر تعبير أنوي جديد. اتسعت فيه تنوعات الفحل.
تصير الزهرة أنثى » معشوقة تمتعت بسلطان وقوة. لها هيمنة على الفحل الذي لا يقوى على صدها. أنثى مثل زهرة النيلوفر. لها عطر سحري. جاذب
عطر زهرة النيلوفر
ـ يجرني من ياقة قميصي الوردي
ـ دائماً ـ احتفي بها ؛
وأسأل ـ أيها الاحتفاء.
بمن تحتفي أنت ؟
ومن يحتفي بك ؟ 16
زهرة غير مألوفة. استدعتها مخيلة الشاعر وعطرها مشاكس بمحبته المجنونة كالشاعر أو صوت الفحل يجرني من ياقة قميصي الوردي أخضع الشاعر لون قميصه للورد وارتضى الوردي لوناً لقميصه. ويعيدنا هذا اللون الى أدونيس ونرجس وتصعد رمزيته بوضوح الى الديانة المسيحية وتمركز الوردي » الأحمر فيها تعبيراً عن دلالة عميقة للخصب والتجدد للحياة وتكرر انبعاثها والأحمر لون الخصوبة في اليسوعية. ويا لهذا العطر من مشاكس » شقاوة. لكن الفحل يعلن صراحة بالاحتفاء بعطر زهرة النيلوفر ويرتضيه ويستفسر من الاحتفاء الشخصي بمن تحتفي أنت ؟ ومن يحتفي بك ؟
عمق البساطة وشعرية التلميح وبرقيته البينة في مفردة الاحتفاء الذي هو أرقى تعبيرات الاحتفال والسعادة وهذه من الذي يبتهج لها أو يحتفي بها ؟ ان الاثنين يبتهجان بالاحتفاء. الانثى والفحل. يتمتعان ليعلنا عن سعادتهما في هذا الطقس وذكرني هذا بمقطع شعري للشاعر
رجل وامرأة
يمتعان العراء
صعد الشاعر نحو الماضي » الحضارة الآشورية » ثقافة وديانة. ووظف زهرتها والأغلب دلالة على قوة وعظمة. هذا كشاف آخر على الأنوية. وزهرة البيبون شمالية » آشورية. هي رمز ارتباط بالديانة الآشورية. مثلما هي علامة للإلهة عشتار نينوى. وهذه الآلهة قريبة كثيراً من الإشارات التي أفضت لها نصوص [ أطراس البنفسج ] عشتار في أدوارها السومرية » الأكدية. إلهة الحب والجنس والإفراط بممارسة اللذائذ والرغبات وعلاقة عشتار بطقوس الجنس الإلهي المقدس واحتفالات رأس السنة الجديدة. لحظة صعود زهرة البيبون كساءً لسطح الأرض والجبال. المشترك واضح بين زهرة نينوى وألهتها. المشترك الأكثر بروزاً الذي أشار له الفنان بول كلي. الحياة الموت. ثنائية شهر نيسان ليس في نينوى وإنما كان قبلاً.
في الممالك السومرية وبابل. نيسان بداية السنة البابلية والآشورية الجديدة. بداية تحرير الإله القومي البابلي مردوخ والآشوري آشور وإنقاذهما تجديد للحياة والفوز بخصب يحضر مجاوراً له الإله نابو في بابل وننورتا في نينوى. احتفال رأس السنة الجديدة منح شهر نيسان دلالة ظلت الى الآن متواترة. وطقس الجنس الإلهي مكمل حيوي لإنقاذ الإله القومي وتدوين المصائر العامة في المملكة أو الامبراطورية. وظلت الآلهة عشتار محوراً مستمراً لهذا الطقس. والبيبون زهر نيسان في آشور. وينتسب هذا النوع من الزهور لشهر نيسان وكأنه متناظر بالانبعاث مع الملك »، الامبراطور في زمن منتظر. يشطب على أزمنة ماضية ويحين تاريخاً جديداً. حافلاً بالانتصارات واتساع جغرافية الاستيطان. وللروح ترجيع مموسق في أعماق الإنسان وتأشيرات الجغرافية بالجهات. التي كأنها هم. وصوت الفحل من بينهم. لكن الصدى يتسع هنا وتصير الجماعة » الجماعات هي الجهات التي لا مثيل لها في العالم والأنوية العرقية أكثر تضخماً
نحن الجهات التي لا تتكرر
نتمدد في سهونا ونومئُ
الى غيمة تموء في سرير المساء. 17
تورمت الأنوية الفردية الى أخرى جماعية » قومية. وتفردت بجغرافية لا مثيل لها في الحياة كلها. إنهم جهات خاصة بهم. مميزة لهم هي جهاتهم فقط. هؤلاء البشر يسهون لحظة الاستلقاء والجهات حاضرة في الذاكرة ويكتفون بذلك ويومئون
الى غيمة تموء في سرير المساء
النص مكون من ثلاثة مقاطع. وهو فاعل في تحرير القراءة. نحن دائماً ـ نحتمي بميتافيزيقيا » العشب والمياه.
لا يكتفي الشاعر بالمكتشف الرمزي المصاغ شعراً في واحد من النصوص. بل يعاود الاشتغال عليه ويكرره متناظراً أو منحرفاً كما في رامزية الجهات وإحالتها الأنوية من الذات الى الجماعة
نحن الجهة الخامسة التي تسرد تاريخ الجهات كلها
كل الجهات التي تنحني لنا
هم الجهات التي لا تتكرر في نص سابق وهم الجهة الخامسة التي ابتكر لها وظيفة شعرية عالية. مهمتها رواية وقائع » وأحداث. جهة امتلكت لساناً لاستعادة تاريخ الجهات الأربع كلها. ولا نستغرب من ذلك في شعر شاكر مجيد سيفو فكل الجهات التي تنحني لهم هي المعنية بالحكايات وزهوها. ونلاحظ التأكيد الجغرافي المتسع. حيث تكرر ـ كلها » كل ـ مرتين في مقطعين فقط. وكل ـ قصدية في وجودها البنائي المعبر عن ذاتوية ومغالاة مفضوحة مثل وأنا كلي الحدقة الأزلية 18
أو كلّنا يشربُ الجّن ص114 مع بروز رغبة الحيازة على حساب الآخر
أريد الزبيب كلّه. لأجل أبنائي 19
تراجع الشاعر عن جهته المتباهي بها والساردة لتواريخ الجهات. فيكتشف في نص ملائكة العجين ص125 بأن التاريخ لغو وصوت الفحل كريم. باذل ويعلن نداءه
تعالي. خُذي السّماء كلّها. خُذي المحابرَ كلّها
واتركي لي آخر البابليين الآشوريين 20
كنا قد قلنا بولع الشاعر بأسطورة أدونيس ونرجس ووظفها في نصوصه. حتى عنوان الديوان أطراس البنفسج يؤشر الانشغال بالأصل الأسطوري للالوهة الشابة المذكرة » القتيلة. التي أسست نوعاً رثائياً مشحوناً بالحزن والبكاء. وأخذ العنوان رمزيته من ذاك الأصل. والأنا المتمركزة متكررة في الديوان. ولا يضجر منها الشاعر
دموعي كريستال
ومياهي لآلئ
طوبى لأصابعي الملائكيّة 21
أو الأرض كلّها في قميصه 22
أو نحن أحفاد الورد 23
أو البحر والريح تطيعاني 24
أو أنا. حينما أنام » تحرسني عيناي 25
في هذا المقطع حاز صوت الذكورة خاصية غرائبية » ولا معقولة. تأسطرت الشخصية وغادرت حقيقتها البشرية وتماهى مع الذئب الذي يغمض عيناً واحدة عندما ينام. لكن الرجل في النص لا يغمض عيناً والشاعر ميال للإيغال في التخيلات كثيراً وتبرز الأنا متورمة. ويرشح عن بعض نصوصه تمركز قومي. هو السبب في كل تلك التصورات المكبوتة منذ زمن قديم كما في
السماء لمن.
ولمَ ؟
نحن سنمّد قامات وهامات أعلى منها ؟ 26
يتضح التمركز ويتضح التمركز الانوي وتعالي الذات في نصوص أخرى. لعل ما اشرنا له عن الجغرافية والجهات التي اختزلت الآخر وتحولت الذات الى ما يشبه الطموح الإمبراطوري زمن سرجون وفي تكرر ما المحنا له محاولة لتطمين رغبة ذاتيه أو جمعية. وتبدو المغالاة الانوية واضحة الأثر في نص
انتم لكم أربع جهات
لكنني الخامسة
التي تحرسها عيناي
وعيون أقماري الثمانية 27
حلم مماثل لأحلام سابقة والتكرر كاشف عن الذات التي لم تكف عن ذلك وقال هذا في ديوانه مثلي تشهق النايات
طريق الفرح اقصر.
سيدي. خذ الأطلسي كله واختر لك جهة خامسة 28
يوزع الشاعر الجهات له ولصديقه. ربما لتخفيف صوت الذات الطاغية فيؤمى بجهة خامسة » مبتكرة » وحلمية لشخص آخر. لا يختلف عنه في الموقف والرؤية وصديقه أكثر مغالاة. لان الشاعر استرضاه بالأطلس كله وعليه ابتكار جهة جديدة. هي الخامسة. اعتقد بان مثل هذه التخيلات تنطوي على أحساس بالخبية والإحباط مثلما قد يتبادر للذهن وهذا لا يلغي شفرات متكررة وأخرى صارخة باندثارها وفشلها المتكرر في كثير وكثير من نصوص دواوينه
…….كل هذا
من اجل أصابعي التي اشتهت
أن تلعب مع الفراغ 29
وما يؤمى لتكرر الخيبة وتصورات العزلة هذا النص
……. وحينما لم أجد أحدا في الفردوس
عدت الى نخلة تشهق أمام بوابة عشتار 30
لا يتجاوز الشعر مع المكشوف بل هو معني بالخفي واللامرئي وينحرف النص بشكل مفاجئ. يعاود حركته متماثلا مع النصوص التي اشرنا لها قبلا. الجنس يأخذ المخيلة الى محيط في العتبة الأخيرة. ومثلما في هذا النص المهيمن عليه الايدلوجيا لكن الشاعر حرر فضاء الدلالة من الواحدية نحو التنوع وكان الجنس هو المغاير. ألاختلافي فيه. وبالعودة إليه ضبط الشاعر نسق الرغبات اللذائذ وكأنه ارتضى البقاء في فضاء الاكيتو. احتفال رأس السنة وطقس الجنس الإلهي المقدسي .
غيمة تموء في سرير الماء
الأنثى حاضرة. متهيئة. ممتلئة توقاً. مشحونة باللذة والمواء تعبير عنها. ولا حل لإسكات المواء إلا بتساقط المطر. اعتقد بان أجمل ما في نصوص شاكر مجيد سيفو قلب المعروف. ومعاكسته هو يشتغل على التضاد. الغيمة مؤنث. لكن مطرها فعل منسوب للإله انو وانليل. ينزل المطر وتخصب الأم الكبرى » الأرض. لكن سيفو انحرف بأصل الرمز وحوله الى أنثى تموء في اللحظة التي
استيقظت الطواويس في
سراويلنا
عودة اخرى الى نص صداقة الوردة وهذا النص المتماهي تقريبا مع نص غيمة تموء
ـ دائما ـ تطلب الأرض
من السماء
أن تغفر لها خطاياها
وتطمع أكثر
حين تجلس أمامها
وتستجدي أسرار الغيمة والماء….. 31
الخصوبة بؤرة النص ومهيمنته. أعادة أنتاج للأسطورة السومرية القديمة التي كانت من نصوص الجنس الإلهي. كانت وظلت هذه الأسطورة متمركزة. ليس في الثقافة والدين العراقي القديم. وإنما في الشرق. وتماهت معها الكثير من الأساطير في سوريا » كنعان » مصر » قبرص » أسيا الصغرى » بلاد الإغريق » التوراة. لكن البنية الذهنية الهندية الأكثر تركيزاً من كل أساطير الشرق ولم تفارقها بل تناظرت معها. وبشكل عام النصوص الطويلة أو القصيرة مشتركة بالبنية مع الأخرى. وسيتفتح التوظيف التناظري في النص السومري كلمة انليل هي حياة البلاد 32
أن هي مست السماء فهذا هو البياض
إذ تسكب من الأعالي الأمطار الغزيرة
ولئن مست الأرض فهذا هو الرخاء
فمن الأسفل تطفح الثروات كلمتك هي النباتات كلمتك هي الحب
كلمتك هي الفيض حياة البلاد جمعاء
وفي الأسطورة الهندية يقول العريس أنا السماء وأنت الأرض
وظف شاكر مجيد سيفو طقس الزواج المقدس ومستثمرا أسطورة الخطيئة التوراتية. ولان الشاعر انحرف قليلا عن حواء واتجه الى الرمز ـ الأرض ـ التي أرادت من السماء ـ دائما ـ تطلب الأرض » من السماء » أن تغفر لها خطاياها » ومع سعيها للغفران. تستجدي الأرض أسرار الجنس ـ الغيمة والماء ـ ماء القلب السومري ـلا حظنا كيف اشتغلت الأسطورة عبر رموزها التي أخذها الشعر نحو رهان الدلالة وتخليق شعرية جديدة تومىء لأصل العناصر الأولى. وكما قال ميشال مسلان الرمز كونه لغة الإنسان بإمكانه كأي لغة أخرى أن يكون متعدد الدلالات وان يكتسي العديد من المعاني 33 .
زواج الأرض مع السماء رمزيا شكل من أشكال القران المقدس وسيوضح لنا هذا النص السومري التشابه والتماثل للرموز عبر الزمان والمكان سوى في الأساطير كما شان التجربة اليومية للحالمين والمجهولة من جانبهم. تبني وجود حالات مشتركة بين كل الناس. لا واعية وجماعية. من ذلك النماذج الأصلية إمكانات تصور مشترك بين الإنسانية. نوع من الاستعداد الدائم لإنتاج نفس التصورات الأسطورية… المقصود بين كونية متماثلة للروح الإنسانية وليس مجرد هذيان.
AZP09