غابة العطر والنايات
قراءة المتن الأسطوري
شاكر مجيد سيفو
لم يكتف الشاعر بذوبان أسطورة الإله الشاب أدونيس كما قال الخطيبي أو نرجس في الأسطورة الإغريقية وكلاهما انبعثا زهراً في فصل التجدد الحياتي. لكنه أشار للنرجس كنوع من الزهور. والإشارة ليست بعيدة عن المحيط الميثولوجي الذي صاغ شخصية الإله الإغريقي الشاب
أُنبئُّك أنا ذاهب الى الزرقة
اصطاد النرجس
دموعي كريستال
ومياهي لآلئ 13
ولأجل كل هذي الدموع. نمجد المياه
تنوع اللون الى التضاد بين الزرقة والنرجس. صفاء الزرقة وما تفيض عنه قدسية ونقاوة النرجس الذي يذكرنا بأنه بديل الإله الجميل. إله أخذ منه الصوت في النص أنوية واضحة. تماهت مع الأصل الميثي عالي الصوت ومفرط والتنوع » كريستال واللآلئ ليست جواهر. بل هي دلالة على مباهاة الفحل بذكورته وماء القلب حسب التعبير السومري. لعل المقطع الأخير والمكتفي بواحديته استجمع كل ما شعر به الصوت » الذات في تمركزات عندما أعلن بأنه يمجد المياه بسبب دموعه. التي لا علاقة لها بالبكاء. بل هي مياهه » اللآلئ. وبؤرة هذا النص الصغير ماء القلب » دفق الذكورة. لأن الشاعر سيفو لا يقول ولا يعلن اعترافه صريحاً. بل يختار له الرمز المستل من يومياته. لكنه يحورها ضمن السياق النصي ويغادر المألوف لتصير رمزاً. ويكرس هذا الموقف في نص أطراس المعنى ويقول
في غفلة من العالم دخلت الفردوس
احمل معي مياه الأزل وورد الجنان 14
لا يعني إلا أنوية طاغية وطيوف الأسطورة الأولى حاضرة في هذه النصوص. هذا هو حال صوت الفحل في نصوص شاكر مجيد سيفو وبؤرة الذكورة كافية لإيضاح مجال الأنوثة التي لم تكن غير متعية ولذّية وزهرة الأنثى خادمة للفحل
الوقت نرجس يشاكس
الأصيص
ويفلت منه القمر 15
الزهرة أنثى
هذا نص آخر. تكرر فيه النرجس بوصفه نوعاً من الزهور. وما يهم أكثر هو التماهي الأنوي بين صوت الفحل والأصل الأسطوري وهذا ما أكدت عليه عديد من النصوص. وتشظي الدلالة لتومئ نحو ترميز آخر وجديد للذكورة وادخال القمر رمزاً لها والتعامل النصي معه ـ القمر ـ ظل مثلما هو معروف عنه في بعض مراحل الديانة العراقية القديمة. باعتباره دالاً على الإلوهة عبر القرون. كثير الشبه بالهلال » القمر. وفي هذا التمظهر تعبير أنوي جديد. اتسعت فيه تنوعات الفحل.
تصير الزهرة أنثى » معشوقة تمتعت بسلطان وقوة. لها هيمنة على الفحل الذي لا يقوى على صدها. أنثى مثل زهرة النيلوفر. لها عطر سحري. جاذب
عطر زهرة النيلوفر
ـ يجرني من ياقة قميصي الوردي
ـ دائماً ـ احتفي بها ؛
وأسأل ـ أيها الاحتفاء.
بمن تحتفي أنت ؟
ومن يحتفي بك ؟ 16
زهرة غير مألوفة. استدعتها مخيلة الشاعر وعطرها مشاكس بمحبته المجنونة كالشاعر أو صوت الفحل يجرني من ياقة قميصي الوردي أخضع الشاعر لون قميصه للورد وارتضى الوردي لوناً لقميصه. ويعيدنا هذا اللون الى أدونيس ونرجس وتصعد رمزيته بوضوح الى الديانة المسيحية وتمركز الوردي » الأحمر فيها تعبيراً عن دلالة عميقة للخصب والتجدد للحياة وتكرر انبعاثها والأحمر لون الخصوبة في اليسوعية. ويا لهذا العطر من مشاكس » شقاوة. لكن الفحل يعلن صراحة بالاحتفاء بعطر زهرة النيلوفر ويرتضيه ويستفسر من الاحتفاء الشخصي بمن تحتفي أنت ؟ ومن يحتفي بك ؟
عمق البساطة وشعرية التلميح وبرقيته البينة في مفردة الاحتفاء الذي هو أرقى تعبيرات الاحتفال والسعادة وهذه من الذي يبتهج لها أو يحتفي بها ؟ ان الاثنين يبتهجان بالاحتفاء. الانثى والفحل. يتمتعان ليعلنا عن سعادتهما في هذا الطقس وذكرني هذا بمقطع شعري للشاعر
رجل وامرأة
يمتعان العراء
صعد الشاعر نحو الماضي » الحضارة الآشورية » ثقافة وديانة. ووظف زهرتها والأغلب دلالة على قوة وعظمة. هذا كشاف آخر على الأنوية. وزهرة البيبون شمالية » آشورية. هي رمز ارتباط بالديانة الآشورية. مثلما هي علامة للإلهة عشتار نينوى. وهذه الآلهة قريبة كثيراً من الإشارات التي أفضت لها نصوص [ أطراس البنفسج ] عشتار في أدوارها السومرية » الأكدية. إلهة الحب والجنس والإفراط بممارسة اللذائذ والرغبات وعلاقة عشتار بطقوس الجنس الإلهي المقدس واحتفالات رأس السنة الجديدة. لحظة صعود زهرة البيبون كساءً لسطح الأرض والجبال. المشترك واضح بين زهرة نينوى وألهتها. المشترك الأكثر بروزاً الذي أشار له الفنان بول كلي. الحياة الموت. ثنائية شهر نيسان ليس في نينوى وإنما كان قبلاً.
في الممالك السومرية وبابل. نيسان بداية السنة البابلية والآشورية الجديدة. بداية تحرير الإله القومي البابلي مردوخ والآشوري آشور وإنقاذهما تجديد للحياة والفوز بخصب يحضر مجاوراً له الإله نابو في بابل وننورتا في نينوى. احتفال رأس السنة الجديدة منح شهر نيسان دلالة ظلت الى الآن متواترة. وطقس الجنس الإلهي مكمل حيوي لإنقاذ الإله القومي وتدوين المصائر العامة في المملكة أو الامبراطورية. وظلت الآلهة عشتار محوراً مستمراً لهذا الطقس. والبيبون زهر نيسان في آشور. وينتسب هذا النوع من الزهور لشهر نيسان وكأنه متناظر بالانبعاث مع الملك »، الامبراطور في زمن منتظر. يشطب على أزمنة ماضية ويحين تاريخاً جديداً. حافلاً بالانتصارات واتساع جغرافية الاستيطان. وللروح ترجيع مموسق في أعماق الإنسان وتأشيرات الجغرافية بالجهات. التي كأنها هم. وصوت الفحل من بينهم. لكن الصدى يتسع هنا وتصير الجماعة » الجماعات هي الجهات التي لا مثيل لها في العالم والأنوية العرقية أكثر تضخماً
نحن الجهات التي لا تتكرر
نتمدد في سهونا ونومئُ
الى غيمة تموء في سرير المساء. 17
تورمت الأنوية الفردية الى أخرى جماعية » قومية. وتفردت بجغرافية لا مثيل لها في الحياة كلها. إنهم جهات خاصة بهم. مميزة لهم هي جهاتهم فقط. هؤلاء البشر يسهون لحظة الاستلقاء والجهات حاضرة في الذاكرة ويكتفون بذلك ويومئون
الى غيمة تموء في سرير المساء
النص مكون من ثلاثة مقاطع. وهو فاعل في تحرير القراءة. نحن دائماً ـ نحتمي بميتافيزيقيا » العشب والمياه.
لا يكتفي الشاعر بالمكتشف الرمزي المصاغ شعراً في واحد من النصوص. بل يعاود الاشتغال عليه ويكرره متناظراً أو منحرفاً كما في رامزية الجهات وإحالتها الأنوية من الذات الى الجماعة
نحن الجهة الخامسة التي تسرد تاريخ الجهات كلها
كل الجهات التي تنحني لنا
هم الجهات التي لا تتكرر في نص سابق وهم الجهة الخامسة التي ابتكر لها وظيفة شعرية عالية. مهمتها رواية وقائع » وأحداث. جهة امتلكت لساناً لاستعادة تاريخ الجهات الأربع كلها. ولا نستغرب من ذلك في شعر شاكر مجيد سيفو فكل الجهات التي تنحني لهم هي المعنية بالحكايات وزهوها. ونلاحظ التأكيد الجغرافي المتسع. حيث تكرر ـ كلها » كل ـ مرتين في مقطعين فقط. وكل ـ قصدية في وجودها البنائي المعبر عن ذاتوية ومغالاة مفضوحة مثل وأنا كلي الحدقة الأزلية 18
أو كلّنا يشربُ الجّن ص114 مع بروز رغبة الحيازة على حساب الآخر
أريد الزبيب كلّه. لأجل أبنائي 19
تراجع الشاعر عن جهته المتباهي بها والساردة لتواريخ الجهات. فيكتشف في نص ملائكة العجين ص125 بأن التاريخ لغو وصوت الفحل كريم. باذل ويعلن نداءه
تعالي. خُذي السّماء كلّها. خُذي المحابرَ كلّها
واتركي لي آخر البابليين الآشوريين 20
كنا قد قلنا بولع الشاعر بأسطورة أدونيس ونرجس ووظفها في نصوصه. حتى عنوان الديوان أطراس البنفسج يؤشر الانشغال بالأصل الأسطوري للالوهة الشابة المذكرة » القتيلة. التي أسست نوعاً رثائياً مشحوناً بالحزن والبكاء. وأخذ العنوان رمزيته من ذاك الأصل. والأنا المتمركزة متكررة في الديوان. ولا يضجر منها الشاعر
دموعي كريستال
ومياهي لآلئ
طوبى لأصابعي الملائكيّة 21
أو الأرض كلّها في قميصه 22
أو نحن أحفاد الورد 23
أو البحر والريح تطيعاني 24
أو أنا. حينما أنام » تحرسني عيناي 25
في هذا المقطع حاز صوت الذكورة خاصية غرائبية » ولا معقولة. تأسطرت الشخصية وغادرت حقيقتها البشرية وتماهى مع الذئب الذي يغمض عيناً واحدة عندما ينام. لكن الرجل في النص لا يغمض عيناً والشاعر ميال للإيغال في التخيلات كثيراً وتبرز الأنا متورمة. ويرشح عن بعض نصوصه تمركز قومي. هو السبب في كل تلك التصورات المكبوتة منذ زمن قديم كما في
السماء لمن.
ولمَ ؟
نحن سنمّد قامات وهامات أعلى منها ؟ 26
يتضح التمركز ويتضح التمركز الانوي وتعالي الذات في نصوص أخرى. لعل ما اشرنا له عن الجغرافية والجهات التي اختزلت الآخر وتحولت الذات الى ما يشبه الطموح الإمبراطوري زمن سرجون وفي تكرر ما المحنا له محاولة لتطمين رغبة ذاتيه أو جمعية. وتبدو المغالاة الانوية واضحة الأثر في نص
انتم لكم أربع جهات
لكنني الخامسة
التي تحرسها عيناي
وعيون أقماري الثمانية 27
حلم مماثل لأحلام سابقة والتكرر كاشف عن الذات التي لم تكف عن ذلك وقال هذا في ديوانه مثلي تشهق النايات
طريق الفرح اقصر.
سيدي. خذ الأطلسي كله واختر لك جهة خامسة 28
يوزع الشاعر الجهات له ولصديقه. ربما لتخفيف صوت الذات الطاغية فيؤمى بجهة خامسة » مبتكرة » وحلمية لشخص آخر. لا يختلف عنه في الموقف والرؤية وصديقه أكثر مغالاة. لان الشاعر استرضاه بالأطلس كله وعليه ابتكار جهة جديدة. هي الخامسة. اعتقد بان مثل هذه التخيلات تنطوي على أحساس بالخبية والإحباط مثلما قد يتبادر للذهن وهذا لا يلغي شفرات متكررة وأخرى صارخة باندثارها وفشلها المتكرر في كثير وكثير من نصوص دواوينه
…….كل هذا
من اجل أصابعي التي اشتهت
أن تلعب مع الفراغ 29
وما يؤمى لتكرر الخيبة وتصورات العزلة هذا النص
……. وحينما لم أجد أحدا في الفردوس
عدت الى نخلة تشهق أمام بوابة عشتار 30
نسق الرغبات
لا يتجاوز الشعر مع المكشوف بل هو معني بالخفي واللامرئي وينحرف النص بشكل مفاجئ. يعاود حركته متماثلا مع النصوص التي اشرنا لها قبلا. الجنس يأخذ المخيلة الى محيط في العتبة الأخيرة. ومثلما في هذا النص المهيمن عليه الايدلوجيا لكن الشاعر حرر فضاء الدلالة من الواحدية نحو التنوع وكان الجنس هو المغاير. ألاختلافي فيه. وبالعودة إليه ضبط الشاعر نسق الرغبات اللذائذ وكأنه ارتضى البقاء في فضاء الاكيتو. احتفال رأس السنة وطقس الجنس الإلهي المقدسي .
غيمة تموء في سرير الماء الأنثى حاضرة. متهيئة. ممتلئة توقاً. مشحونة باللذة والمواء تعبير عنها. ولا حل لإسكات المواء إلا بتساقط المطر. اعتقد بان أجمل ما في نصوص شاكر مجيد سيفو قلب المعروف. ومعاكسته هو يشتغل على التضاد. الغيمة مؤنث. لكن مطرها فعل منسوب للإله انو وانليل. ينزل المطر وتخصب الأم الكبرى » الأرض. لكن سيفو انحرف بأصل الرمز وحوله الى أنثى تموء في اللحظة التي
استيقظت الطواويس في سراويلنا
عودة اخرى الى نص صداقة الوردة وهذا النص المتماهي تقريبا مع نص غيمة تموء
ـ دائما ـ تطلب الأرض
من السماء
أن تغفر لها خطاياها
وتطمع أكثر
حين تجلس أمامها
وتستجدي أسرار الغيمة والماء….. 31
الخصوبة بؤرة النص ومهيمنته. أعادة أنتاج للأسطورة السومرية القديمة التي كانت من نصوص الجنس الإلهي. كانت وظلت هذه الأسطورة متمركزة. ليس في الثقافة والدين العراقي القديم. وإنما في الشرق. وتماهت معها الكثير من الأساطير في سوريا » كنعان » مصر » قبرص » أسيا الصغرى » بلاد الإغريق » التوراة. لكن البنية الذهنية الهندية الأكثر تركيزاً من كل أساطير الشرق ولم تفارقها بل تناظرت معها. وبشكل عام النصوص الطويلة أو القصيرة مشتركة بالبنية مع الأخرى. وسيتفتح التوظيف التناظري في النص السومري كلمة انليل هي حياة البلاد 32 أن هي مست السماء فهذا هو البياض
إذ تسكب من الأعالي الأمطار الغزيرة
ولئن مست الأرض فهذا هو الرخاء
فمن الأسفل تطفح الثروات كلمتك هي النباتات كلمتك هي الحب
كلمتك هي الفيض حياة البلاد جمعاء
وفي الأسطورة الهندية يقول العريس أنا السماء وأنت الأرض
وظف شاكر مجيد سيفو طقس الزواج المقدس ومستثمرا أسطورة الخطيئة التوراتية. ولان الشاعر انحرف قليلا عن حواء واتجه الى الرمز ـ الأرض ـ التي أرادت من السماء ـ دائما ـ تطلب الأرض » من السماء » أن تغفر لها خطاياها » ومع سعيها للغفران. تستجدي الأرض أسرار الجنس ـ الغيمة والماء ـ ماء القلب السومري ـلا حظنا كيف اشتغلت الأسطورة عبر رموزها التي أخذها الشعر نحو رهان الدلالة وتخليق شعرية جديدة تومىء لأصل العناصر الأولى. وكما قال ميشال مسلان الرمز كونه لغة الإنسان بإمكانه كأي لغة أخرى أن يكون متعدد الدلالات وان يكتسي العديد من المعاني 33 .
زواج الأرض مع السماء رمزيا شكل من أشكال القران المقدس وسيوضح لنا هذا النص السومري التشابه والتماثل للرموز عبر الزمان والمكان سوى في الأساطير كما شان التجربة اليومية للحالمين والمجهولة من جانبهم. تبني وجود حالات مشتركة بين كل الناس. لا واعية وجماعية. من ذلك النماذج الأصلية إمكانات تصور مشترك بين الإنسانية. نوع من الاستعداد الدائم لإنتاج نفس التصورات الأسطورية… المقصود بين كونية متماثلة للروح الإنسانية وليس مجرد هذيان.
AZP09