عولّموها.. دولّوها .. أنسنوها – منقذ داغر

عولّموها.. دولّوها .. أنسنوها – منقذ داغر

طوال أكثر من سبع عقود ظلت فلسطين جرحاً نازفاً ومأساةً حية تجسد ظلم الأنسان وعجز العربان وأنحياز البلدان. جرّب الفلسطينيون ومن ورائهم العرب والمسلمون شتى المقاربات العنيفة والسلمية لتحرير فلسطين. فخاضوا ثلاث حروب كبرى فضلاً عن حروب ومناوشات عسكرية أصغر في لبنان وسوريا والعراق ومصر والأردن لم تسفر(غالباً) الا عن خسارة مزيد من الأراضي وأضعاف العرب وتعزيز سطوة أسرائيل ومكانتها وتأثيرها في العالم. كما خاض الفلسطينيون عبر عملهم المقاوم والفدائي كثير من المعارك  والعمليات المسلحة سواء من خلال المنظمات الفدائية في القرن الماضي أو الفصائل الفلسطينية المسلحة (وفي مقدمتها فصائل الأسلام السياسي). ولم تكن النتائج أفضل من الحروب العربية-الأسرائيلية، بل أدت أحياتاً الى مزيد من التشتت والأقتتال الفلسطيني. وثار الفلسطينيون في الأرض المحتلة عبر ثلاث أنتفاضات كبرى منذ عام 2000-2018،وأيضاً عبر ما سميّ بهبّات شعبية مثل هبّة الأقصى في 2017. أخيراً جائت مذبحة الأقصى لتتوج المأساة الفلسطينية وتضيف جروحاً على جروحها.

لقد جربنا «عربنة» قضية فلسطين فجعلناها في عز المد القومي العربي (قضيتنا المركزية) وكنا نصحو وننام على حلم تحرير فلسطين (العربية) ونشيد موطني موطني،ولبيك ياعلم العروبة،وكلنا فلـــسطين، والقدس عروس عروبتنا،وسواها من الأغاني والشعارات والأشعار التي ما زادتنا الا خسارةّ وتشتتا.

استقطابات عربية

ثم انتهت بنا الى كامب ديفيد وأوسلو وما نجم عنهما من أستقطابات عربية وتقاتل فلسطيني على فُتات غزة ورام الله! وخلال خفوت المد القومي شهدنا مداً أسلاموياً أقنعنا بأن فلسطين هي قضية المسلمين (وليس العرب) الكبرى. وبدلاً من لبيك ياعلم العروبة بتنا نردد «يا أولى القبلتين» و «الأقصى أولى قبلتنا» و « يا مسرى الرسول» وغير ذلك من الأناشيد والشعارات والأشعار التي وسّعت نطاق القضية لكنها جعلتها محصورة بالمسلمين بعد أن كانت محصورة بالعرب.ومثل سابقتها»فلسطين العربية» فأن «فلسطين الأسلامية» لم تفعل شيئاً للفلسطينيين سوى أضافة مزيد من الضحايا وعدم تحرير الأرض. ومثل سابقتها أيضاً ما زادت أسلمة القضية ، المسلمين الا صراعاً وتشتتاً حتى بتنا نسمع ونقرأ عمن جعل قضية فلسطين قضية مقاومة شيعية،وآخرون جعلوها قضية مقاومة أخوانية وآخرون جعلوها قضية سنية سلفية، فما نلنا من هؤلاء سوى مزيد من المزايدات الشعاراتية،وما حصلنا من أولئك سوى التطبيع مع «أولاد عمنا» ممن أخترعوا لنا ديناً «أبراهيمياً» جديداً!

أن أكثر ما بات يغضب العرب والمسلمين والفلسطينيين اليوم هو ليست الجرائم الأسرائيلية بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة، بل هذا الخذلان العربي والأسلاموي لغزة وفلسطين. فلا شوارب العرب أنتخت،ولا لحى السلفيين أستحت ولا بندقية «المقاومين» أنجلت. نحن أذاَ بحاجة لمقاربة جديدة فرضها صمود أبطال غزة وتضحياتهم التي جعلت كل العالم ينتفض لأنسانية القضية وعدالتها. أن سر قوة قضية فلسطين لم يعد يكمن في عروبتها،ولا في قدسيتها الأسلامية -رغم أن الأثنين مهمّين ولا يمكن أنكارهما- بل يكمن في أنسانيتها وعدالتها الواضحة. أن العرب والمسلمين ليسوا قادرين على أن يفعلوا أكثر مما فعلوه للآن-وهو لا شيء تقريباً- لأنهم في غالبيتهم محكومين بأنظمة أستبدادية لا تتيح لهم التعبير عن غضبهم وممارسة الضغوط على حكوماتهم لنصرة فلسطين. أما العالم (الحر) فرغم كل عيوبه وعوراته «الرسمية» التي كشفت عنها غزة الا أن شعوبه ما زالت حية. لاحظوا كيف باتت كل عواصم العالم ومدنه الكبرى تشهد أسبوعياً مظاهرات متزايدة،تنظّمها الشعوب لا الأنظمة كما هو الحال عندنا، بعد أن حاولت النظم الرسمية في أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا قمعها في بداية الأمر.

خطابات رسمية

لاحظوا كيف أجبر أحرار العالم حكوماتهم على تغيير خطاباتهم الرسمية من مؤيدة تماماً لأسرائيل الى مؤيدة الى حد ما لها،ثم الى معارضة لحد ما ومعارضة تماماً لها.اليوم رأيتُ أحدى الشابات الأمريكيات الناشطات لنصرة غزة وهي تخاطب الحكومة الأسرائيلية قائلةً: قد تتمكنون من أسكات الفلسطينيين من خلال قتلهم،وأسكات بعض شعوب العالم لأنهم يخشون حكوماتهم،لكنكم لن تستطيعوا أسكاتي والوصول لي لأني محميّة في بلدي!! لقد بدأنا نشهد تغييراً واضحاً،وأن ما زال ليس كبيراً،في مواقف دول العالم ليس نتيجة تعاطفهم مع دماء الفلسطينيين،بل نتيجة الضغط الشعبي الذي بات يهدد سياسييهم.

أن تأثير القوة الناعمة،أن جاز لي التعبير،الفلسطينية والغزيّة بات أكبر بكثير من أي قوة تأثير كبرى.

شباب العالم اليوم لم يعيدوا يطيقوا مصطلحات وممارسات الفصل العنـصري ، والأبادة الجماعية،والأستعمار،وقتل الأطفال،وحرمانهم من حقوقهم الأنسانية بالتعليم والصحة وهذا بالضبط ما يجب التركيز عليه. أنها القوة الناعمة التي لا يمكن لمصطلحات العروبة والأسلام السياسي،ولا حتى القوة الغاشمة الأسرائيلية والغربية  أن تجاريها .لذا يجب التركيز على مفاتيح القوة الناعمة من خلال عولمتها وتدويلها وأنسنتها. لقد كانت تجربة القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أفضل مثال لمساندة شعوب العالم لحق الأفارقة في المساواة والعيش الكريم،وهو ما أجبر كل حكومات الغرب على دعمها للأطاحة بنظام الفصل العنصري. ويقيني أن دولة فلسطين المستقلة يمكن أن ترى النور قريباً أذا ما تصاعد مد التأييد العالمي لهذه القضية الأنسانية التي يمكن أن تساندها أعداد أكبر بكثير وأقوى تأثير من الثلاثمائة مليون عربي أو المليار ونصف مسلم.

مشاركة