عندما أعدت بناء الإنسان أعدت بناء البلدان – علي الشكري

عندما أعدت بناء الإنسان أعدت بناء البلدان – علي الشكري

في رواية من الأدب البرازيلي للكاتب الكبير ” پاولو گولو ” يروي أن أباً كان يقرأ صحيفة فيبادر أحد أطفاله ، وكان فرط الحركة ، كثير النشاط ، متحرك لا يركن للهدوء، يبادر الى سحب الصحيفة من والده راغباً في انتزاعها ، لا لقراءتها ولكن رغبة في افراغ شحناته الزائدة التي لم تستوعبها اجساد الإخوان ، فتوجه بها قاصداً الأب ، وفي محاولة لاستيعاب حركة طفله غير المعتادة ، ورغبة في استكمال قراءة ما ورد في الصحيفة ، اقتطع الوالد جزءا من الصحيفة وقد ضمت خارطة العالم ، وقام بتمزيقها قطعاً صغيرة وأعطاها لابنه وقال له إذا قمت بتجميعها سأكفاءك بدولار ، وما هي الا خمسة عشر دقيقة الا والولد يأتي بها مرتبة ، فتعجب الأب من فطنة ولده وقدرته على تجميع اجزاء الخريطة ، فبادر بسؤاله هل بادرت والدتك أو أحد اخوانك الى مساعدتك ، فاجاب الطفل لا ، فسأله وكيف رتّبت اجزاء خارطة العالم ، فرد الطفل كانت هناك صورة لانسان على الوجه الآخر للصحيفة ، فحينما أعدت بناء الصورة أعدت بناء العالم ، فوقف الأب متعجباً من فطنة وذكاء ولده ، فأخضعه لاختبار آخر ، إذ قام بتمزيق صورة أخوان يجلسون على مائدة واحدة ، وقال له نسّق ما شاءت ورتّب ما مزقت، فوقف الطفل عاجزاً لصعوبة الاختبار ، وصغر قطع الصورة الممزقة ، فبادر بإجابة والده ، دعهم يمزقون بعضهم الى أن يلقى كل واحد منهم مصيره . وبالقطع أن ليس أكثر من الشعب العراقي ولود للكفاءات ، متحرك بنّاء ، مبدع ذوّاق ، ديّن ورّاع ، كريم معطاء ، أصيل ممتد ، حديث مساير ، أرضه خصبه ، ونهر ممتد ، وجباله شاهقة ، وسهله مخضّر ، فيه الدين والورع ، والعلم والإبداع ، والثروة والثراء ، الغيرة عند رجاله ، والشرف في نسائه ، والكرم بمضايفه ، متحرك لا يركن للهدوء وغيره ساكن ، من أجل هذا راح القريب يتآمر عليه ، والغريب يطمع فيه ، والعميل من حاملي الجنسية يمهد لذلك ، فهُجّرت كفاءته ، واستهدف شرفائه ، وقُتلت رجالاته ، وسبيت نسائه ، وكل ذلك بقصد تمزيقه، وتحويله الى ملل ونحل ، وأطياف وشلل ، فصار العربي يرتاب من الكوردي ، والكوردي لا يأمن موقف العربي ، والشيعي يخشى من السني ، والسني يرى في الشيعي دخيل لا شريك وأصيل ، فاعتقد الباغض أن الحلم تحقق ، والمخطط نجح ، والتآمر أثمر ، لكن الحاسد الباغض نسي أو تناسى أن مخطط اليوم ليس الأول ، ولن يكون الأخير ، وأن العراق يبقى عصي ، حيث فيه مرجع أعلى يرشد ، ورعية تسمع ، وعقل يفكر ، وعلم يقدح ، وأرض تنبت ، ومخبر يحلل . لقد حاول الباغض بعد سنة  2003رسم الحدود المصطنعة ، وإقامة الحدود المفتعل بين أجزائه ، بل راح يجول في خاطره ، تقسيم الأحياء على أساس الطوائف والمذاهب ، فهجّر بقصد ذلك آمنين ، وأرعب قاطنين ، وشّرد مقيمين ومُلاك ، على آمل توزيعٍ وتقسيم وتقزيم ، لكن مخططه خاب ، وآماله راحت سراب ، وتآمراته تكشفت حين ولدت ، فراح الشعب الواعي ، يلملم اجزاء الصورة التي حاول الباغض تمزيقها وتقطيعها أشلاء ، وحيث أعيد بناء الصورة سيعاد بناء الوطن عاجلاً لا آجلاً ، وإن تآخر الأجل قليلاً ، فمضي ثمانية عشر سنة على التغيير ، ليس أجل كبير في عمر التغيير ، بلحاظ ما خلّف الراحل من ديون وخراب ودمار ، فخرابه طالب البشر والحجر ، فترك شعب محطّم ، وبناء مُخرب ، الأرض تعاني الجدب ، والمبنى يشكو الإشعاع الملوث ، والبشر يأن من ويلات الحروب والحصارات والتقسيم والتهجير ، والديَن ثقيل مضخم ، تشعب حتى كثر أصحابه ، وتفرعت مطالباته ، وثقلت موازينه ، ويحدثونك عن أفضلية الراحل ، وقد ملء أرض العراق جثثاً ، وشرد شعب ، واهلك حرث ، وقطع نسل ، لكن ليس العبرة في الوقوف على ما خَلَف الراحل ، لكن العضة كلها فيما فعل وتصرف وتعامل ، فالظلم وإن طال لابد أن ينجلي ، والشعب باق والحاكم راحل ، وإن طال أمده ، فالمُلك متحرك والشعب ثابت ، ويقيناً أن البقاء للثابت في المعنى العام لا للمتغير ، وعلى المتصدي أن يولي الثابت جل الاهتمام ، فبناء إنسان أولى مقدمات بناء الأوطان ، فلا بناء للأوطان والإنسان مخرب محطم مهزوم ، وعلى المتصدي للشأن في العراق ، أن يولي الإنسان كل الاهتمام بعد طول ظُلامات وسلسلة اضطهادات ، ومسلسل انكسارات ، فقد انكسر القيد ، وذهب الظالم ، وانجلت الغبرة ، وآن الأوان لتعويض ما فات ، وجبر ما تضرر ، وترميم ما تصدع ، وبناء ما تهدم ، وبالقطع أن التاريخ حافظ لكلٍ ما شيد وما خرّب ولو بعد حين ، وعلى ظلالة من ظن أنه قادر على تغيير الوقائع ، وتحريف الحقائق ، وتزوير الوثائق ، وإلا كان التاريخ عبث ، والحقائق وهم ، فقد زال الحاكم الظالم ، وأثر باقِ محفوض ، والسعيد من قرء التاريخ واتعض بسلفه .

مشاركة