علي الوردي وطبيعة المجتمع العراقي
عبدالرزاق صالح
لابد أن نشير في البداية إلى ريادة الدكتور وعالم الاجتماع والمؤرخ الأستاذ علي الوردي في دراسة طبيعة المجتمع العراقي ، وكان من الأوائل الذين درسوا طبيعة الشخصية العراقية دراسة وافية وحاول المقارنة بين شخصية الرجل البدوي وشخصية الرجل المديني (ساكن المدينة) أو بين البداوة والحضارة كما فعل عالم الاجتماع والمؤرخ العربي ابن خلدون من قبل ، وتطرق في دراستهِ إلى صراع البداوة والحضارة ، وتوصل إلى نتائج باهرة في دراستهِ تلك ، حيث بَيَّنَ ازدواجية الشخصية العراقية. كان الوردي من أوائل علماء الاجتماع الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه في مجال علم السيوسولوجيا في وقت متقدم من القرن العشرين من جامعة تكساس الأمريكية. ومعروف عن الوردي بأنَّهُ كان ذا ثقافة عالية وعريقة ولهُ قصب السبق في مجال اختصاصه ، وتفوق على الكثير من مجايله سواء في العراق أو الأقطار العربية ، كان الوردي قريباً من الواقع في دراسته، قريباً من أبناء المجتمع من جميع طبقاته العليا والدنيا ، ولم يكن يتحرج أو يأنف من مجالسة العامة والفقراء ، ويتعرف على أحوالهم وظروفهم والاستفادة من معاشرتهم في دراسة أحوالهم ومعرفة شخصيتهم ، كما فعل الجاحظ من قبل في الكتابة عن شرائح وطبقات متنوعة في المجتمع العراقي والعربي في الفترة العباسية .
لم يكن الوردي متعجرفاً في دراسته أو لم يكن أكاديمياً صرفاً ، لكنَّهُ زاوج بين الدراسة الأكاديمية والواقع اليومي المعيش ، فهو يجالس الناس في الشوارع ، وفي الوقت نفسه يلتقي أعيان الطبقة الحاكمة ، والموسرين من أبناء المجتمع، ويصغي إلى أحاديثهم ويُشِّكل من تلك التجارب معلومات علمية استفاد منها في دراسته الاجتماعية وفي تشخيص سلوكيات العراقيين في تلك الفترة في بداية القرن العشرين ، الذي كان فيه العراق في بداية تشكيل الدولة العراقية ، في زمن الحكم الملكي ، وكان العراق يغلب عليه الطابع البدوي والريفي ، حيث كانت القبائل البدوية تُشَّكل 35 بالمئة من مجموع السكان. والقبائل الريفية تُشَّكل 41 بالمئة من مجموع السكان . وأهل المدن 24 بالمئة من مجموع السكان ، (وللدكتور محمد سلمان حسن بحث قيم ينفعنا كثيراً في هذا الموضوع . وقد نشر معهد الإحصاء في جامعة أكسفورد هذا البحث في أحدى نشراته الدورية. وكان من النتائج التي توصل إليها الدكتور حسن في بحثه هو : أن عدد سكان العراق كان ، في عام 1887م، لا يتجاوز المليون والربع إلا قليلاً. ” كما يقول الوردي في كتابه ” دراسة في طبيعة المجتمع العراقي “ص 138 من طبعة دار ومكتبة دجلة والفرات ــ الطبعة الأولى 2013م).هذه الفئات الثلاث من السكان تدل بشكل واضح على ماكان عليه المجتمع العراقي من تغلب البداوة على سكانهِ ، وفي الوقت نفسه ، كانت البداوة طاغية حتّى في القبائل الريفية ، حيث كانت البداوة تؤلف 75 بالمئة من مجموع السكان في تلك الفترة أي ما يقارب ثلاثة أرباع السكان تقريباً. من هذه الزاوية يتبين لنا طابع الازدواجية في الشخصية العراقية ، إذا ما عرفنا أن الحضارة أو( المدينية) ، تتمثل في أهل المدن الذين يؤلفون الربع الباقي. هذا التداخل طبيعي ومألوف في المجتمعات ، ولكنَّهُ يكون غريباً إذا تتخلله العصبية القبلية ، والغزو والحروب والتطاحن ، تلك عوامل لا تجعل أهل المدن يُكوّنون حضارة ، لأنَّهم دائماً معرضون للغزو وقطع الطرق من قبل القبائل البدوية التي غالباً ما تحيط بالمدن. فيضطروا إلى اتخاذ بعض العادات والقيم البدوية. ـــ اتقاءً للشر، وهذا يؤدي إلى ازدواجية الشخصية المدينية ، فهي بين نارين. وأحلاهما مرٌّ. هكذا كانت طبيعة المجتمع العراقي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، التي قام بدراسته والتحري عنه الوردي ، وتوصل إلى كشوفات ونتائج باهرة في ذلك المجال ، خاصة عندما أزداد تركيزه في هذه الدراسة عام 1950م ، وهو العام الذي عُين فيه مدرساً لعلم الاجتماع في كلية الآداب والعلوم ببغداد. بعد مشوار طويل دام أكثر من ثلاثين عاماً. كما يقول.
إنَّ عالم الاجتماع علي الوردي تأثر كثيراً بنظرية ( ابن خلدون) . المؤرخ وعالم الاجتماع العربي الكبير والقدير . خاصة في مقدمته. ( مقدمة ابن خلدون).والتي بيَّنَ فيها أهمية العصبية القبلية في بناء المدن والحضارة والانتصار في الحروب التي خاضتها الدولة العربية الإسلامية في وقت ازدهارها والفتوحات التي قامت بها، سواء في
مشارق الأرض أو مغاربها. ويضرب مثلاً كيف انتصرت الدعوة الإسلامية في مجتمع قبلي مبني على العصبية القبلية ، واستطاعت الجيوش العربية بعد ذلك خوض الحروب والانتصار فيها في ميادين كثيرة. والصراع بين البداوة والحضارة التي بُنيت النظرية الخلدونية على أساسها في نشأة الحضارة وتأسيس الدول ، ويحاول ابن خلدون في تفسير التاريخ البشري كله بأنَّهُ عبارة عن دورات متشابهة تَتَّابع مرَّة بعد مرَّة . ويسترشد الوردي ويستأنس بآراء ابن خلدون في علم الاجتماع. وبآراء الفلاسفة والمؤرخين من عرب وأجانب. ويستفيد من آراء الرحالة الذين زاروا العراق والوطن العربي في تلك الفترات ، والمؤرخين الأمريكان والغربيين ، ومصادر التاريخ العربي، ومن الشعر الجاهلي ، وشرح المعلقات من أجل معرفة سلوكية البدوي في تلك الصحراء القاسية . كي يُحلّل ويكشف ويسبر غور وأعماق الثقافة البدوية. ويتناول الكثير من آراء الباحثين الأجانب في عادات القبائل العراقية والعربية. مستفيداً في بناء مشروعه السوسيولوجي. آخذاً بنظر الاعتبار الكتب والمجلات والنشرات التي كانت تصدر في تلك الفترة ، وكذلك اعتماده في تأليف الكتب على مراجع شتى وكذلك تقارير طلابه ، والرسائل التي كانت تصله من المواطنين عندما كان يُقدم من تلفاز بغداد (ندوة تلفازية) بعنوان ” أنت تسأل ونحن نناقش” عام 1960م. وكانت تصلهُ (رسائل كثيرة يسألني فيها أصحابها حول بعض مشاكلهم الاجتماعية). كما يقول.كما استفاد من ملاحظاته الشخصية حينما كان يتجول في نواحي المجتمع العراقي ويصغي إلى أحاديث العامة، لاسيما المعمّرين منهم. وفي هذا الصدد أودُ أن أطرحَ سؤلاً يشغلُ بال الكثير من المختصين في هذا المجال أو الذين يشتغلون في حقول الثقافة بصفة عامة ، أو المهتمين بعلم الاجتماع من عامة الناس وليس المختصون الأكاديميون فقط. والسؤال هو: منذ الفترة التي ظهر فيها عالم الاجتماع والمؤرخ العربي (ابن خلدون) في مغرب الوطن العربي … وحتّى ظهور عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ، وقد مرَّت على الوطن العربي هذه الفترة الطويلة! هل كانت تلك الفترة الطويلة ، هي فترة انقطاع علمي في هذا المجال ، أقصد علم الاجتماع ، وحتّى في العلوم المختلفة الأُخرى ، وكذلك في مجال حقل الفلسفة ، ومنذ ابن رشد حتّى وقتنا الحاضر. هل كانت فترة انقطاع وعدم تواصل في هذا الجانب أيضاً!؟ وللإجابة على هذا السؤال المطروح منذ زمن سابق ولكن في الإعادة إفادة كما يُقال. يجب أن نعرف أنَّ هناك فترات مظلمة وقطيعة ثقافية وعلمية كبيرة قد مرَّت على وطننا العربي ، خاصة بعد الغزوات التترية المتواصلة ، والتي قضت على المعالم العمرانية وقتلت مئات الألوف من البشر، ولم يسلم منها حتّى الحجر! ودمرت المدارس والمعاهد ودور الحكمة والمساجد ودور العبادة الأخرى ، وقتلت العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء وغيرهم من أهل الفكر والمعرفة ، وحرقت الكتب والمكتبات ، وأغرقت أمهات الكتب والمصادر والوثائق الثمينة والكنوز الأدبية والتحف والذخائر في نهر دجلة! وحطمت المتاحف وأحرقت المستشفيات والدور والمحاصيل الزراعية والبساتين ودمرت الحرث والنسل ، وأحرقت كتب الترجمة ، وسيَّر التاريخ وكتب الفلسفة ، وأعداد كثيرة من المؤلفات ، حتّى أصطبغ نهر دجلة باللون الأزرق والأسود ، وهذا معروف على صعيد التاريخ. واستمرت غزوات الاحتلال للعراق بعد ذلك سواء الاحتلال العثماني أو الاحتلال الفارسي ، وبعدها الاحتلال البريطاني في التاريخ المعاصر. أدت تلك العوامل إلى انقطاع حركة التأليف والترجمة الحقيقية في مختلف العلوم ومنها علم الاجتماع ، حتّى لو كانت هناك بعض الترجمات ، لكنَّها قليلة وغير ذات أهمية أو فائدة علمية ! وحتّى في وقتنا الحاضر ، زمن العولمة وشبكة المعلومات والتواصل الاجتماعي ، نرى عدم الاهتمام بالقراءة الجادة والرصينة، وقلة الترجمة قياساً بالشعوب الأُخرى ، وهناك إحصاءات ونسب تُنشر من قبل مؤسسات ودوائر ثقافية تُبيِّن قلة نسبة القراء في الوطن العربي قياساً بالقراء في البلدان المتطورة ، وتُبيِّن كذلك نسبة الأُمية المتفشية في الوطن العربي ، ونحن في الألفية الثالثة وعصر الانترنيت وعصر المعلوماتية! هذه القطيعة والفترة المظلمة التي مرَّت على وطننا العربي ، ولازالت! حيث عانت مجتمعاتنا العربية من تخلف واضح وجهل كبير في أمور كثيرة ، ومن ضمنها علم الاجتماع الذي يهم الكثير من الشرائح الاجتماعية . إنَّ فترة الانقطاع حتماً كانت فترة مريرة وشاقة ، أدت إلى تخلف كبير في نواح كثيرة ، بعكس المجتمعات التي تواصلت مع العلم والثقافة ، ولم يحدث فيها هذا الانقطاع الكارثي الذي حدث عندنا ، خاصة في بلد الرافدين! تلك شعوب خدمت الثقافة ومجتمعات حافظت على المعالم والشواهد الحضارية لديها واهتمت بالعلم والعلماء والعمران واهتمت بكافة الحقول الثقافية والمعرفية والعلمية وفي كافة المجالات الحياتية ، أنَّها شعوب حيّة عرفت كيفية الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى لتطوير وبناء مجتمعاتها وبناء دول متطورة ومتحضرة أضافت إلى البناء الإنساني الكثير. واستفادت بشكل خاص من حركة الترجمة لديها من أجل الاطلاع على آداب وعلوم الشعوب الأخرى وفي كافة الميادين ، أنَّ الدول والمجتمعات لا تتطور أو تُبنى إلا من خلال التواصل الحضاري والمعرفي ، وليس من خلال صدام الحضارات ، أو نهاية التاريخ! بل من خلال تلاقح الحضارات والتواصل الاجتماعي والسلم ونبذ الحروب والتدمير ، وإتاحة الفرصة للشعوب من أجل تحقيق مصيرها ، ولها الحق كلُّ الحق في ذلك. أنَّها الفرصة التاريخية المتاحة في وقتنا الحاضر ، في هذا الوطن العربي الكبير من الاستفاقة من ذلك السبات الطويل والليل البهيم الذي مرَّ على تلك الشعوب وهي في جهل مطبق ، قرون من الظلام والأمية والمرض والجهل ، فعلى الشعوب أن تنهض معتمدة على شبابها المتسلح بالعلم والمعرفة والثقافة الذي يواكب حركة التاريخ السائرة إلى الأمام تاركاً الخنوع والجهل والأمور الاستهلاكيةــ الكمالية ، الجاهزة ، على الشباب استغلال الفرصة التاريخية التي وفرها العلم والمعرفة ، خاصة في هذا العصر ـــ عصر الشبكة العنكبوتية ، والاستفادة منها في تطوير الذات ومسايرة واللحاق بالعالم المتقدم والمتطور على جميع الأصعدة. أنَّها مهمة صعبة ولكنَّها ليست مستحيلة. ومن سار على الدرب وصل. ومسافة ألف ميل تبدأ بخطوة أولى ، وهناك آلاف الأمثال سواء العربية وغير العربية في هذا الصدد. تركزت دراسة الوردي وسلطت الضوء الكاشف والقوي والواضح على المجتمع العراقي بشكل خاص ولم يستمد الرجل تجاربه من المجتمع الأمريكي أو المجتمع الغربي أو يقارن بين المجتمع الأمريكي والمجتمع العراقي ، لأنَّهُ ليس هناك وجه مقارنة في تلك الأوقات، وإنَّ طبيعة المجتمع العراقي تختلف حتماً عن طبيعة المجتمع الأمريكي والمجتمع الغربي ، ولم يستخدم كذلك الطريقة الأمريكية في دراسة المجتمع العراقي ، (فهي غير ملائمة ، وقد تورطنا في مشاكل وأخطاء نحن في غنى عنها ، ومهما يكن الحال فإننا يجب أن نرجئ استخدام هذه الطريقة إلى أن يصبح المجتمع العراقي كالمجتمع الأمريكي قلباً وقالباً. وهذا أمر بعيد!) كما ورد في ص22/ دراسة في طبيعة المجتمع العراقي / دار ومكتبة دجلة والفرات / الطبعة الأولى 2013م. /بيروت ــــ لبنان. من هنا نرى الفهم العميق والمستنير للوردي في ذلك الوقت ، لأنَّهُ كان يعرف عادات وتقاليد المجتمع العراقي والأسرة العراقية ، التي حتماً تختلف بدرجات عن المجتمعات الأخرى ، خاصة الأمريكية والغربية ، ولكنَّ الرجل استفاد من البحوث الغربية القيمة في هذا المجال ( علم الاجتماع) لكنَّهُ لم يستخدم الطريقة نفسها أو بحذافيرها أو كنسخة طبق الأصل!ويطبقها على المجتمع العراقي ، خاصة الطريقة الأمريكية! . وقد كان الرجل صريحاً عندما قال: (في رأيي إن أصح طريقة لدراسة المجتمع العراقي هي تلك الطريقة التي جاء بها العالم الألماني المعروف ، ماكس فيبر . وهي التي تعتمد على ” التفهم” وتكوين “المثال النموذجي ” . فهي ملائمة لطبيعة مجتمعنا وظروفه الخاصة.)ص21 ـــ 22/ المصدر السابق. يبقى الوردي عالِماً موضوعياً ، واقعياً في بحوثهِ ودراساته وكتبهِ المختلفة والعديدة ، ولم يكن باحثاً ينحو منحى التوعية والإرشاد ، كما أعتاد مجايله في الوطن العربي ، الذين كتبوا المؤلفات والتي صدرت في هذا الخصوص. لكنَّهُ لم يقف عند حدود هذه الدراسة والموضوعات التوجيهية ، بل تعداها إلى دراسة معمقة وموضوعية هي أقرب إلى منهج علم الاجتماع الحديث.