على مائدة الجمال
يونس عبدالله محمد العبادي
انتهت قبل زمنٍ تلك الحياة الجامعية، المليئة بالمواقف والأفكار العلمية، والتواصل المفتوح مع الآخرين، وبانقضائها تحملنا الكثير من المتاعب، بانخراطنا في المجتمع وتقديم ما تلقيناه من علوم للنهوض بالواقع المزري لكثير من البلدان.
وقبل أيام اقترح أحد الأصدقاء عمل لقاء، لتذكر تلك الأيام الخوالي، أيام الأنُس والمحبة، فكنا جاهزين لإنجاح تلك المبادرة.
وما إن التقينا حتى أخذ كل شخص يتحدث عن ما يواجهه من متاعب الحياة ومشاكلها.
فقلت انظروا إلى هذا النهر الجميل، وأمواجه التي تهز كخصر راقصة في ليلة هادئة، وتلك الفتيات كأنهن نخلات شامخات، بل زهرات يانعات على ضفافه، أما شعرتم بهذا العطر الأحمر الدافئ، ونسيمه العذب إما اخترقكم من غير نذير، فإذا دمتم على طرح المشاكل فسأغادركم ؛ لأننا اجتمعنا للفرح فتجنبوا ذكر الترح.
فقال أحدهم إذاً لنختار الجَمَال نتحدث عنه فإنه يؤنس القلب، ويفرح الروح ، وتهيج معه المشاعر.
فقال الآخر وعن أي جَمَال سنتحدث، عن جمال العبارات، وانتم فرسانها، أم عن جمال الشعر، وفيكم غواص في بحوره، متفنن في قوافيه، أم عن جَمَال النساء، ولكل منكم ألف قصة وقصة معهن.
فقلنا ما خلق الله لآدم أجمل من حواء، فلنتكلم عن جمالهنَّ.
وأخذ كل شخص يصف أجمل امرأة رأتها عينه، وأبصرها قلبه، وما بين مقلّ ومكثر في الكلام، وبين واصف لسحر العيون، ومنتقل إلى حاجبيها، وبين ناعتٍ لثغرٍ باسم المحيا، ونحرٍ ناعم الملمس، وبين هذا وذاك هزنا الشوق طرباً، فما عدنا نسمع إلا همساً.
وفي تلك الأجواء المشحونة بالفرح والابتسامة، بل كانت ترتفع إلى القهقهة، مِن ما وقع على المسامع من عبارات وأشعار، لفت انتباهي أحد الأصدقاء الذي أحسست كأنه منزوي عن المشاركة، وهو فارس من فرسان الوصف والبيان.
فقلت مَالَك، أأتعبتك الحياة، أم أعياك اللسان ؟
فقال لا هذا ولا ذاك.
فقلنا ماذا إذن ؟
قال رأيتكم تتكلمون عن جمال المصنوع ونسيتم الصانع.
قلنا قد نصنع أشياء أجمل منا.
قال أجمل من الجَمَال، أن تعشق منبع الجمال، أن تعشق من لا تستطيع أن تراه، فتعيش على أمل اللقاء، فيكبر في قلبك، حتى يستحوذ عليه، فلا يعود يسع غيره، فتحب كل أثر له، وتفتش عن منابع الرضا، علك تناله، أو تنال القبول، فتسعد سعادة أبدية، وتحيا حياة سرمدية، لا يشغلك فيها فقر و غنى، ولا يهمك مدح و ذم.
ولا تستطيع وصفه؛ لا لأنك عاجز، بل لأنه لا يوجد كلام في لغات العالم بأسره تستطيع أن توصفه به، فتتخيل كل الأوصاف، وهو ليس مثل ما خطر لك من الأوصاف.
فعندها علمنا أنه مشغول عن الحياة الدنيوية، وأنه يتكلم على جَمال غير الذي نتكلم عليه.
فتذكرت قولاً كنت قد سمعته ولم أدرك معناه من ذاق عرف ومن عرف اغترف.
AZP09