علم السرد ما بعد الكلاسيكي – سهيل كبة

علم السرد ما بعد الكلاسيكي – سهيل كبة

صدر للناقدة الدكتورة نادية هناوي كتاب جديد بعنوان( علم السرد ما بعد الكلاسيكي: السرد غير الطبيعي) عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع. والكتاب هو جزء أول يتخصص في مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي مثل السرد المعرفي والسرد المضاد والسرد غير المقيد والسرد المستحيل ويتخصص في السرد غير الطبيعي ومقولاته. وبهذا يقدم الكتاب اطروحة جديدة على الصعيد العربي في دراسة علم السرد ما بعد الكلاسيكي والتعريف بأعلامه وفحص نظرياته ومفاهيمه مع الوقوف على طروحات منظري السرد غير الطبيعي الغربيين وتطبيقاتهم الروائية والقصصية.

مقاربات تحليلة

وجاء الكتاب في ثلاثمئة وسبع وعشرين صفحة وبأربعة فصول، ومما يلحظ في هذا الكتاب مراجعه ومن أهمها كتاب (السرد ما بعد الكلاسيكي مقاربات وتحليلات) بطبعته الانجليزية، اوهايو، 2010  لمونيكا فلودرنك وجان البر. هذا فضلا عن الدراسات المنشورة في دوريات الجامعات الغربية مثل ( علم السرد ما بعد الكلاسيكي: بعد عشرين عامًا) لارلين ايونسكو و( سرديات مخترقة : السرد غير الطبيعي واستراتيجيات قراءة غير الطبيعي) المنشور ضمن كتاب( سرديات الخرق: مواقف وتطبيقات نظرية) بتحرير آنا بابكا ومارلين شتاينر وفولفجانج مولر وصدرت طبعته الانجليزية عام 2016.

وتصدرت الكتاب مقدمة وضحت فيها المؤلفة اهدافها من وراء دراسة علم السرد ما بعد الكلاسكي ومفاهيم السرد غير الطبيعي وفي مقدمة تلك الاهداف فك إشكالية إنتاج الخطاب السردي التي بفهمها تُفهم العمليتان اللتان هما خارج الإنتاج السردي أي الإبداع من ناحية منتجٍ هو المؤلف ومن ناحية متلقٍ هو القارئ.ومن الاهداف ايضا المساهمة مع علم السرد الكلاسيكي او البنيوي في بلورة كثير من المفاهيم التي يمكن لها ان تفك بعض المستغلقات المعرفية حول الخطاب السردي وميكانيزما إنتاجه. أما مسألة تلقي هذا الخطاب فكانت من أولويات المؤلفة ومن اجلها درست نظريات ما بعد بنيوية ووقفت عند ما طرحته الدراسات الثقافية حول تداخل العلوم وتكاملها من مفاهيم ومصطلحات.ومما أكدته د. نادية هناوي أن لكل نظرية نواقصها ومتروكاتها التي من خلالها تتمكن نظرية أخرى من النمو والتشكل من جديد في دورة طبيعية لا نهاية لها. ومهما كانت وتيرة التطورات المعرفية متسارعة وحثيثة، فإن ميكانيزما اشتغال السرد تظل أبعد عن أن تطالها نظرية أو أن يفك أسرارها منهج أو قانون. ومنذ القدم وإلى يومنا هذا وعملية التأثر والتأثير السردي بين الأمم حاصلة، وكل أدب سردي يأخذ من آداب أخرى ما يجعله مجرِّبا آليات وتقانات، بها يستمر نهر جريانه بالتدفق فلا يتوقف عند حد معين. من هنا لا تدوم اجتراحات المفاهيم التي تبغي وصف العملية السردية بما فيها من سرد وسارد ومسرود ومسرود له كما لا تستقر المصطلحات عند ضفة الخطاب والنص والملفوظ، ولا تقبع في جادة معينة لأنه سرعان ما تبزغ ضفاف وجادات. ودللت المؤلفة على أن للمنظِّر السَّردي أن يستنفر قدراته من جديد وصفاً وافتراضاً وتنظيراً، ولعله يفك إشكالية ما من إشكالات مستجدة طرأت على الخطاب السردي وجعلت عملية إنتاجه برمتها مولِّدة لنقد جديد، عليه أن يُضيء مناطق هذا الانتاج المعتمة، ويُظهرها على السطح. وقد يُوصف هذا النقد الجديد بأنه علْم، ولا ضير في ذاك إذا فهمنا أن الفلسفة هي أم العلوم وأن النقد مهما كانت علومه، فإنها في المحصلة تصبُّ في الفلسفة شاء الفلاسفة أم أبوا. وكلما بدا الغموض محتوياً الخطاب السردي وميكانيزما فاعليته، فذلك دليل تجدده وتنوع مساراته وامتداد أفضيته. والعكس صحيح فمتى ما جمد السرد عند ما هو متعارف وما هو متوقع، كان الوضوح طاغياً على خطاباته. ومع الاستمرار في التجريب والمداومة على هذه الفاعلية يغدو النقد محتاجاً إلى مزيد من المفاهيم والنظريات التي بها يحاول سبر الغامض من التجريب والغوص بحثاً عن ميكانيزما التفاعل السردي.

سرد بنيوي

واضافت د. هناوي قائلة: ( إذا كان علم السرد البنيوي أو علم السرد الكلاسيكي، قد قال ما هو مهم وأفاض في سمات وموجبات ومسائل تصب في باب فنية السرد وموضوعيته، فإن علم السرد ما بعد الكلاسيكي يحاول أن يبتدع الجديد والمبتكر وكأن ما اجترحه علم السرد الكلاسيكي وسنَّه ووضعه من فروض ومفاهيم ومنظورات كان قد استقر وصار لزاماً تغييره والتجديد فيه. بمعنى أن علم السرد ما بعد الكلاسيكي لا يريد مضاهاة علم السرد البنيوي، بل هو يسعى الى التميز عليه في الكشف عن مزيد من مستغلقات الخطاب السردي، وذلك لأمرين: الأول كي يصح وصف نفسه بأنه ما بعد كلاسيكي والآخر أن تكون له مشاريعه ومدارسه أسوة بما لسابقه من مشاريع ومدارس).ورجحت المؤلفة ان يكون التوصيف بـ(الكلاسيكي) صحيحا كما يصدق النعت بـ(الكلاسي) لأن صوت كي/ cal تحول الكلمة الانجليزية من الاسمية الى الصفة ومن ثم لا نحتاج عربياً أن نضيف الصوت عينه للكلمة لعدم حاجتنا إليه. ومن فرضيات المهمة في هذا الكتاب ما تناوله من شرح لعلم السرد البنيوي أو كما تصفه المدرسة الأمريكية بالكلاسيكي وانه مثَّل حقبة معرفية مهمة، قطع فيها النقد الانكلوسكسوني أشواطاً مهمة في فهم الخطاب السردي وسبر متاهاته، وكيف أن لهذا العلم أفضاله على المدرسة الامريكية وهي تجاريه بعلم السرد ما بعد الكلاسيكي مبتكرة مفاهيم ومنظورات، بعضها يأتي من باب المعارضة والتضاد وبعضها الاخر يأتي من باب الاجتراح والتأصيل. ولقد وضحت المؤلفة ان إذا كانت نسبة التأصيل أقل تقريباً من التعارض، فإن المهم هو أن تكون مفاهيم هذا العلم ومنظوراته مستوعبة ومستقصية ما أُنتج عبر التاريخ الأدبي من قصص وحكايات. ولا خلاف في أن ما أنتج من سرد قديماً بدءاً من المرويات الشفاهية وانتهاءً بالقصص والروايات المنتمية إلى القرنين الماضيين، هو أكثر مما أُنتج واجترح ونُظّر له وطُبّق حوله من نقد أدبي.وفي فصول الكتاب الاربعة كثير من المفاهيم التي تبناها علم السرد ما بعد الكلاسيكي Postclassical Narratology وحقق بها بعض الكشوفات التي تصب في باب تجاوز الشائع السردي واهمها مفهوم السرد غير الطبيعي Un-natural Narratology الذي هو محور هذا الكتاب وله فيه تطبيقات كثيرة بدءا من سرديات العصور الوسطى وعصر النهضة ووصولا الى الروايات والقصص الحديثة.

ومما ينطبق على مفهوم ” السرد غير الطبيعي” هو تنوع السراد وهم يمارسون ما يمارسه نظراؤهم في السرد الطبيعي لكن الذي يجعلهم مختلفين ومخصوصين في ممارسة التسريد هو محدودية نطاق الاشتغال وندرته على صعيد السرد العربي المعاصر. ووصحيح ان ما قدمته النظرية السردية الجديدة حول السراد وأنواعهم كثير، ولكن وظيفة كل واحد قد تختلف أو تتضاد مع وظيفة الآخر ومن ثم لا رواة يتعددون إلا لكل واحد استقلاله في الاشتغال الذي هو مخصوص به وحده دون غيره حتى وإن رافقه سارد منشق عنه موجود ضمن النطاق الذي يقدم فيه نفسه ويمارس وظيفته. ومما دعا اليه الكتاب هو ضرورة تجريب سراد غير واقعيين في الروايات والقصص كي تعبر عما هو واقعي ولعل بها يتمكن الروائيون من هز شباك الواقع وضعضعة نسيجه والسبب أن السارد العربي ما زال فاعلاً بنصف طاقته في هز شباك الواقع أو ملامستها في أدنى تقدير. وهو ما يدعوه إلى أن يصمم على توسعة توظيفه لفواعل جديدة في القصة والرواية وبسراد خياليين غير حقيقيين لا هم بالبشر عامة ولا هم بالمناضلين أو المفكرين خاصة. والمراهنة على الفواعل غير الحقيقية تعني أن ما يشتغل فيه وعليه سيكون واقعياً جداً ومتغلغلاً إلى أقصى ما يمكن للسرد الطبيعي أن يتغلغل فيه.

وعن هذه الدعوة تقول د. نادية هناوي: ( وليس وراء هذه الدعوة إلى تجريب الفواعل غير الطبيعية سردياً رغبة في مجاراة الآخر الغربي سارداً وناقداً، وإنما هي محاولة في العودة إلى جذور السرد التي هي في الغالب شرقية وفي بعض منها عربية. والإفادة مما خلّفه الأسلاف من قص شعبي وغير شعبي، والامتياح الإبداعي من المنابع نفسها التي كان الأسلاف قد امتاحوا منها فيما مضى إبداعاتهم، فكتبوا أخباراً وطرفاً وأحاجي وحكايات ونوادر ومنامات ومقامات ورسائل ورحلات اتخذت جميعها طابعاً سردياً في شكل نثر فني بديع وخلّاب، تُرجم جزء منه إلى اللغات العالمية كدليل على مقروئيته التي يكمن سر جاذبيتها في فواعلها السردية غير الحقيقية أو فواعلها السردية الحقيقية ولكنها غير مؤهلة واقعيا لتقوم بالسرد كأن تكون من المهمشين المخبولين أو الضعفاء أو الأموات وغير ذلك من الفواعل غير المركزية).

وتجدر الاشارة الى ان هذا الكتاب هو الجزء الأول من مشروع نقدي يتخصص في علم السرد ما بعد الكلاسيكي عامة ونظرية السرد غير الطبيعي خاصة، وقد بدأت المؤلفة العمل عليه مطلع العام 2020 وكتبت سلسلة مقالات ودراسات، وسيتبع هذا الكتاب جزء ثان به تستكمل المؤلفة مشروعها في دراسة علم السرد ما بعد الكلاسيكي.

مشاركة