أشكال تطور الخطابات والرموز في رواية تفاحة حواء -2-
علاقة ملتبسة تظل معلّقة
ليث الصندوق
وعوداً إلى القصة القصيرة (تفاحة حواء ) فيبدو -كما توضح انفاً – أنها تتناظر دلالياً مع الرواية ، ولعل أبرز وجوه هذا التناظر تتمثل في :
– دور أبي منير في الرواية يتناظر مع دور أبي حواء في القصة القصيرة .
– دور سلافة في الرواية يتناظر مع دور حواء في القصة القصيرة ، وهذا التناظر ستعترف به سلافة فيما بعد لأبي منير عندما سألها عن سبب اهتمامها بالقصة ، فأجابت ( لأني وجدت في شخصية حواء وحياتها ما يشابه شخصيتي وحياتي . ص / 83 ) .
– ألعلاقة المحرمة ما بين سلافة وأبي منير تتناظر دلالياً مع العلاقة ما بين حواء وأبيها في القصة ، بالرغم من أن أبا منير ليس أبيها ، بل هو بمقامه ، لأنه ابو زوجها ، وإن علاقتها المحرمة به تطورت عن علاقة محرمة سابقة لها بأبيها الحقيقي ( عبد الله سلامة ) قبل زواجها ، وهذا ما كشفته لأبي منير بعد اشتراكهما في تحليل القصة القصيرة ( ص / 83 n 86 ) .
– ألعلاقة القلقة ما بين حواء وأمها في القصة القصيرة ، تتناظر دلالياً مع العلاقة القلقة ما بين سلافة وأمها في الرواية وكلا العلاقتين نجمتا عن التنافس لكسب مودة الأب . وفي حين امتازت بالبرود علاقة حواء بأمها ، تطورت علاقة سلافة بأمها لتصل إلى الكراهية والعداء
– الخلل التربوي الذي تمخضت عنه العلاقة المحرمة ما بين حواء وأبيها في القصة يتناظر مع الخلل في إدارة العلاقة ما بين سلافة وأبي منير في الرواية ، خصوصاً بعد غدائهما المشترك في مطعم الكهف .
– وحتى على مستوى التكوينات الفرعية ، فإيحاءات الرمز ( التفاحة ) ودلالاتها في الرواية ، تتناظر مع إيحاءاتها ودلالاتها في القصة .
أما ( التفاحة )التي سبق أن وقفنا على رمزيتها في مجتزأ حواري من الرواية ، فقد عادت لتظهر في القصة القصيرة بشكل اكثر اتساعاً ، وأبعد امتداداً ، فمحكية شجرة التفاح في القصة القصيرة تجمع طرفين فقط من ثلاثي العلاقة ( الأب + البنت + الأم ) ألا وهما ( الأب + البنت حواء ) ، واستبعدت الطرف الثالث ( الأم ) ولهذا الاستبعاد دلالة ، فقد ظلت البنت متحرزة تجاه أمها ، وظلت العلاقة بينهما علاقة تنافس وعداء ( كما تبين سابقاً ) . وها هما يقفان أمام شجرة التفاح في حديقة بيتهما التي كانت الريح قد أسقطت كل ثمارها ، ولم تبق إلا على تفاحة واحدة :
( قالت له :
– أنظر يا أبي إلى تلك التفاحة ، إنها صامدة لوحدها
ضحك :
– شجرة تفاح واحدة ، وتفاحة واحدة ، وحواء واحدة ، أية مصادفة عجيبة ، سنسميها تفاحة حواء .
قالت راجية :
– أقطفها لي
وجد نفسه يرد لها طلباً للمرة الأولى في حياته .
– لم يحن وقت قطافها ، إنها لم تنضج بعد ، إنها لك وليس لأحد غيرك ، سأقطفها لك حين تنضج .
( ص / 58 59 )
ويمثل هذا المجتزأ الجزء الأول الأفتتاحي من حبكة القصة القصيرة وهو يتناظر رمزياً ويتعالق دلالياً مع حوار ( الفاحة ) في الرواية ما بين سلافة وأبي منير في مطعم الكهف الذي سبقت الإشارة إليه . ومن الواضح أن هناك ثمة تزامن ما بين نضوج التفاحة وتطور مستوى الحوار ، فمع نضوج ( التفاحة / الثمرة ) يتطور الحوار ما بين الأب والبنت حواء في القصة ليكشف عن تطور في مستوى العلاقة ما بينهما وهي تمضي باتجاه منطقة التحريم . فبعد أن عادا إلى البيت لوحدهما تاركين والدتها في حفلة زواج أختها ، طلبت حواء من أبيها ان يذهبا إلى الحديقة أولاً ، ودار حديثهما حول ( التفاحة / الثمرة ) التي بدأت تتحول لدى حواء إلى ( التفاحة / الرمز ) .
(- لقد نضجت وحان قطافها
– ما أدراك بذلك ؟
– رأيتها ظهر هذا اليوم . خرجت إلى الحديقة عندما كنت في الخارج ورأيتها
قال وقد بلغ الباب الخشبي :
– دعينا ندخل ونستبدل ثيابنا أولاً
( ص / 68 )
ويبدو هذا المجتزأ الحواري أشبه بتمهيد استباقي لفعل تنوي حواء القيام به بعد أن خلا البيت لها مع أبيها . وهذا الفعل سيأتي في نهاية القصة حين تسللت إلى غرفة نومه حاملة التفاحة مشطورة إلى شطرين ، ومدت إليه يدها باحد الشطرين وهي تقول :
( – هذه حصتك ، شطر لأدم ، وشطر لحواء ، كلها يا عزيزي
قضمها ، وفعلت الشيء نفسه . حين انتهيا قالت :
– أنظر
وانتبه إلى أنها لم تقل له ( يا أبي ) رآها تفتح أزرار الروب الخارجي ، وتخلعه
( ص / 71 )
ومن الواضح أن التدرج في مراحل تطور الرمز من التفاحة بصورتها الكاملة ، ثم وهي مشطورة إلى شطرين ، ثم اقتسام الشطرين ما بين الإثنين ، هو تدرج في تطور العلاقة .
ثمّ ( خرج من صدمة المفاجأة وأدار إليها ظهره على عجل . شعر بها تلتصق بظهره ، وكأنها تريد للجسدين أن يلتحما . قالت هامسة قريباً من أذنه :
– لن تهرب مني
وهمست لنفسها
– لا بأس ، ما زلنا في أول الليل
– ( ص / 71 )
ولكن إيحاءات الرغبة التي جاءت متخفية بغطاء رمزي في محكيتي (التفاحة ) ، سواء تلك التي وردت في الرواية ، أو تلك التي في القصة القصيرة ، قد تأتي أحايين أخر ضمن رسائل لفظية مكشوفة من دون اغطية بلاغية ، متوسلة – من أجل التبليغ – بذكاء المستلم فحسب . وهذا ما يكشف عنه الحوار التالي ما بين سلافة التي استدعت عمها أبا منير للعشاء معها في الشقة ، فجاء بدشداشته البيضاء ، إستقبلته هامسة :
– ما شاء الله عريس بهذه الدشداشة البيضاء
ردّ هامساً هو الآخر :
– وأنت عروس بهذا الرداء الأبيض
كتمت ضحكة . قالت :
– سبحان الله عروس وعريس دون زواج
( ص / 75 )
أو مثل المواقف المغالية في خصوصيتها ما بين الزوج ( منير ) والزوجة ( سلافة ) التي تنتهك سلافة خصوصيتها فتقصها لأبي منير . ولعل أبلغ تعبير عن إيحاءات الرغبة المندفعة عند سلافة ، والمقموعة عند أبي منير ذلك الحوار النقدي الذي دار بينهما لتحليل القصة القصيرة ( تفاحة حواء ) ، حيث حاول أبو منير إبقاء التحليل محايئاً في حدود النظريات النقدية ، بينما انزلقت به سلافة إلى خارج النص ، فطرحت توقعاتها لاحتمالية استجابة الأب للرغبات المحرمة لإبنته حواء . وفي مناقشة هذا الجانب الخارجي أسقطت سلافة رغباتها ودوافعها الشخصية على خاتمة القصة ، فأوّلت نهايتها المبتورة باستجابة الأب لرغبات إبنته حواء . وقد كان أبو منير واعياً لدوافع تعاطفها التأويلي مع بطلة القصة ، ولذلك نصحها – إذا ما أعادت المجلة إلى زميلتها – أن لا تدخل معها في نقاش حول القصة ، وأن لا تعلن لها عن تعاطفها مع شخصة حواء كي لا تسيء بها الظن ( ص / 92 ) . أما تأويل أبي منير لخاتمة القصة فلم يشذ عن مبدأ الإسقاط الذي اعتمدته سلافة ، مع فارق انه أسقط دوره الشخصي على دور ابي حواء في القصة القصيرة ، ولذلك تأوّل نهايتها بعدم استجابة الأب لرغبات إبنته حواء . ولربما كان بذلك التأويل يقمع رغباته التي كانت تستثيرها وتستفزها سلافة ، بل ربما كان يحاول قمع رغبات سلافة قبل أن تنضج وتهتاج ، وعندئذ يستحيل عليها وعليه أيضاً قمعها . ومن أجل أن يمنح هذا القمع إمكانية الإقناع حول مجرى التحليل النقدي للقصة القصيرة باتجاه نظريات علم النفس ، مؤكداً لسلافة أن حواء في القصة القصيرة كانت ضحية تربية اسرية مختلة أصيبت جراءها بما يسمى ( عقدة إلكترا ) المرضية ( ص / 82 ) . ولعله قصد من وراء اعتماد منهج التحليل النفسي للقصة القصيرة إيصال رسالة إلى سلافة مفادها : أنت أيضاً مريضة بعقدة ألكترا .
ويبدو أن النقاشات النقدية التي تسللت عبر نافذة ثقافية محض قد حرفت مجرى حياة سلافة مؤقتاً باتجاه أكثر عقلانية واتزاناً ، ونبهتها إلى علتها ، لذلك جاءت الأحداث بعد تلك النقاشات وما رشح عنها من تشخيصات خالية من أية تلميحات حسية سواء كانت لفظية أو جسدية . وكان هذا التغيير انعطافة سردية مهمة حولت مجرى الأحداث باتجاه تحقيق هدف آخر الا وهو متابعة إجراءات مغادرة سلافة إلى القاهرة للحاق بزوجها . ولكن تلك الانعطافة السردية لم تدم طويلاً ، إذ أن تنبّه سلافة لعلتها لم يشفها منها ، ولكنه أرجأ استفحالها أو بطّأه ، إذ ظلت العلة مدفونة في طيات عقلها الباطن في انتظار الظروف الملائمة التي تنشّطها وتعيد إطلاقها من جديد ، وبقوة أكبر من السابق ، وهذا ما حدث لها في القاهرة وسنأتي عليه فيما بعد .
أما ( التفاحة – الرمز ) فقد ظلت تخيف أبا منير ، وظل ترداد ذكرها على لسان سلافة سواء بصيغتها الاستعمالية او الرمزية يثير ريبته من احتمال ان تكون قد عادت إلى ما ظن إنها برأت منه ، بل أن ريبته كانت كفيلة بتحويل الصيغة الاستعمالية للمفردة إلى صيغة رمزية ، وبذلك يتضاعف قلقه ويترسخ . وعلى إيقاع هذا القلق المستديم كانت سلافة تعزف هازئة هازلة بأعصاب الرجل ، ففي عمان – وهما في طريقهما للحاق بمنير في القاهرة – طلبت منه أن يأكلا التفاح بعد عشائهما في الفندق (… بدأ قلبه يضطرب وقد تملكه القلق ، هل ستعيد ما حدث ليلة تحدثا عن قصة – تفاحة حواء – توقع أن تمد يدها بنصف التفاحة ، لكنها لم تفعل ذلك ، فقد عادت وشطرت كل نصف إلى إثنين ، وقالت له وهي تضحك :
– كل يا عمي من تفاحة حواء
زايله القلق فقد أدرك إنها تمزح . رآها تخرج تفاحة كبيرة حمراء وتقول :
– سآخذ هذه التفاحة معي إلى منير ، سأشطرها هناك إلى شطرين ، وأجعله يأكل تفاحة سلافة ، وليس تفاحة حواء .
( ص / 146 )
وبقرار سلافة الاحتفاظ بالتفاحة لزوجها منير ، واقتسامها معه تكون التفاحة n الرمز قد أدت دورها الأسطوري الذي خلقت له ، أو خلق لها . ويكون ابو منير قد اطمأن بأنه لن يُقحم في أي تأويل سلبي للرمز ، وتكون عقدة الكترا قد حُلت ، أو هذا ما ظن ، وأن تعابير لغة الجسد التي قد تبدر من سلافة قابلة لقراءة بريئة جديدة . ولأن المرض النفسي هو عدو غير مرئيّ ، لذلك ظل أبو منير يرى نفسه مع سلافة في مواجهة حالة مرضية معافاة ، ولكنها قابلة للانتكاس ، وهذا ما جعله يتحرز من المفاجآت التي ربما يثيرها تواجدهما ليلاً معاً في غرفة نوم واحدة على سريرين منفصلين في فندق بعمان ، وليس لتحرزه وقلقه من علاج آنيّ سوى النوم ( إن القلق يتلبسه الآن ، بل قد يستحيل إلى خوف وهما وحدهما تحت سقف واحد . عليه أن يكون حذراً لئلا يستسلم ، ولا يدري كيف سرقه النوم . ص / 146 ) ولكن إلى متى سيفلح النوم في علاجه من آفة مزمنة لم تشخّص مبكراً ، ولم تنل أي قسط من التفهم والعلاج فظلت تنمو في ظل أخطاء تربوية أسرية ساهمت في بناء العقدة واستحكامها ، بل ان العقدة ليست في المريض ( سلافة ) فحسب ، بل في الأسرة ذاتها التي تربت فيها ، وانتقل إليها منها السلوك المرضي . لقد كانت تحرزات أبي منير في محلها ، وصدقت مخاوفه بعد وصولهما إلى القاهرة إذ عادت عقدة إلكترا تتحكم بتصرفات سلافة كلما وجدت لذلك متنفساً ، وما أكثر المتنفسات في غياب الزوج والاختلاء بأبيه . فلم تعد علاقتها الجسدية المشروعة بزوجها تشبع حاجاتها فصارت تتمادى في إغواء أبيه ومراودته ، وصارت اللغة المفعمة بالإشارات والتلميحات والرموز والشفرات الحسية هي ميزة الخطاب المشترك بينها وبينه . وأدخلت سلافة إلى قاموس اللغة الحسية المشتركة ما بينهما رمزان جديدان ذوا طبيعة إيقونية ( الكوب والملعقة ) وتتأتى إيقونيتهما من علاقة التشابه ما بين داليهما ومدلوليهما بالرغم من كون الأوليين من معدن والأخيرين من لحم حي ( لك الملعقة ، ولي الكوب ، قسمة عادلة تفرضها الطبيعة البشرية . ص / 167 ) وتتفاعل إيحاءات القوة والضعف في الرمزين لصوغ خطاب فضائحي غاية من التهيج والاستفزاز ( كن رحيماً مع كوبي وأنت تدير ملعقتك فيه . ص / 167 ) . وبذلك صارت كل تلك الحجب اللسانية والأدوات البلاغية تصوغ خطابين ، الأول فضائحي تديره سلافة لتأجيج العواطف ودفعها باتجاه تحطيم المحددات السلوكية والنواظم القيمية ، في مقابل خطاب آخر متحفظ يديره أبو منير ، ويدفع يائساً باتجاه تجريد تلك الأدوات البلاغية من قوتها التأثيرية المستمدة من طاقات الغياب ، وذلك بردها إلى صيغها الإستعمالية النمطية من أجل إعادة الإعتبار السابق للمحددات والنواظم التي كانت تضبط التوازن في العلاقة بينهما قبل ان يُفرّط هو ذاته بذلك التوازن ، ويخل بالعلاقة الموقرة بينهما عندما مهد لسلافة أن تتجاوز المحددات وتخرق المحرمات . بيد أن الموازنة ما بين فعالية الخطابين تشير إلى أرجحية الخطاب الفضائحي ، وتهافت الخطاب المتحفظ ، ولذلك عاد خطاب سلافة وهي في القاهرة يُقلق أبا منير ، ولعل ذلك القلق هو العقاب النفسي الذي يستحقه عن استهانته بحالة مرضية يتطلب علاجها المزيد من الجدية والحرص .
ومع قرب انتهاء الرواية تكون أغلب عقدها قد حلّت :
– قُتل ( داخل ) إبن خالة سلافة إثر فضيحة أخلاقية مزلزلة . وبمقتله لم يعد من مبرر لوجود منير في القاهرة ، لذلك قرر هو وزوجته سلافة العودة للعراق .
– خروج نصير من السجن الذي أودع فيه إثر تظاهرة شبابية للمطالبة بفرص عمل .
– إنتهاء العلاقة السرية ما بين عبد الوهاب معروف ( أبي منير ) وعشيقته بعد عودة زوجها مريضاً من مكان إقامته في الخليج .
القضية الوحيدة التي يبدو أنها ستظل معلقة هي العلاقة الملتبسة ما بين سلافة وأبي منير ، وهي علاقة معرضة للتصاعد في ضوء قرار سلافة العودة من القاهرة إلى بغداد .