قصة قصيرة
عقب سكارة – عادل كاطع العكيلي
في الخمسين من العمر أو اكثر بسنوات، ضعيف البنية كأنه قصبة تهتز في مهب الريح، سيكارته بيده لا تفارقه، كانت محياه تنبئ بالبؤس والعبوس، واقفاً في مكانه متململاً مترنماً، يتوقع الناظر إليه سقوطه في أية لحظة، مكانه واضح منذ أسبوع كأنه نصب الجندي المجهول، وهو يطالع الرائحين والغادين منتصباً أمام دائرة تعويض المتضررين من العمليات الإرهابية في شارع الرشيد والقريبة من جسر السنك، يقف أمام العمارة المقابلة لتلك الدائرة التي احاطت ببابها الكتل الكونكريتية، يتوسط بابها رجلا أمن ببزاتهم العسكرية وهما يتفحصان الواقفين أمام تلك الدائرة المعنية بتعويض أهالي ضحايا التفجيرات أو القتل العشوائي، واقفاً قبالة الدائرة بوجوم وقنوط، بمعطفه الرث وبنطلونه النيلي الذي تآكلت اطرافه من العوز، ينظر بعينين حزينتين الى تلك البناية الشاخصة امامه في صبيحة كل يوم وقبل حضور العاملين فيها بساعات يرجو الحصول على تعويض عن فقدان ولده البكرمحترقاً مع أصدقائه في تلك الحادثة المشؤومة في منطقة الكرادة داخل، حين انفجرت سيارة مفخخة قبل منتصف الليل أحالت تلك العمارة ومن فيها الى أشلاء محترقة لم يميز بين افرادها الذين قضوا نحبهم، ولم يتعرف على جثة ولده إلا من خلال فحص الحمض النووي.تنهّد حين تذكر ولده وراحت الدموع تنهمل من عينيه في مشهد لم يمرّ به حين كان يرزح في غياهب السجون في زمن النظام السابق، فقد أُودع في إحدى زنزانات الأمن العامة في منطقة البلديات إثر وشاية كاذبة، وقد دونت أيام الاعتقال تحت أسماله البالية آثاراً للتعذيب مدونة لعصور من الظلم والجور والقهر، فالسياط اللاذعة والندب قد توزعت على جسمه بوحشية، لكنّ ذلك كله لم يكسر عزيمته، إلا حينما فقد ولده البكر(حسن) في تلك الحادثة التي اقضت مضجعه وكسرت ظهره، فتحت الدائرة ابوابها في الثامنة صباحاً، حتى ذهب ليستعلم عن مصير معاملته وما آلت إليه إجراءات التعويض سائلاً تلك الموظفة القابعة خلف الحاسوب.
– ما مصير معاملتي رجاءٌ.
– عم…إن الوقت ما زال مبكراً لإنجاز معاملة ولدك فذلك يحتاج إلى أكثر من شهر.
– لقد أنهكت المراجعة قواي .
– عليك ان تراجع بعد بضعة أسابيع. حمل نفسهُ وعاد إلى بيته أو بالأحرى إلى غرفته المتهاوية التي استأجرها منذ عامين في إحدى المناطق الفقيرة في منطقة الزعفرانية، كانت تلك الغرفة قد اقتطعت من إحدى المنازل وكان لها باب الى الخارج وسقف من (العكادة) كان شباكها قد صفقة الرياح ما في داخل الغرفة لأن نافذتها حشّيت بقطع من النايلون والكارتون المقوى للحماية من البرد بعد أن تكسر زجاجها، كانت الغرفة خاليه إلآ من اجسادهم وبعض الأفرشة البالية وبعض آنيات معدنية مجعدة، وكانت أرضية الغرفة مليئة بالحفر ولم يكن فيها غير خزانة متكسرة جمع فيها الحاجيات التي لا أهميه لها من ادوية وبعض الخرق البالية التي يلبسها يومياً، كان سقف الغرفة قد تآكل من الأعلى حتى راح ينشر عليهم ما تبقى من الجص، أولاده الأربعة الصغار كانوا يتباكون ويتأففون وأمهم قد سمّرت عينيها على زوجها حين دخل غرفته، وقد لاحظته قد جاء بُخفّي حُنين يجر خطاه ثم جلس في زاوية من زاويا الغرفة وقد تهاوى على الأرض جثة هامدة، فلم تكلمه حتى تعالى صوت أطفالهم من شدة الجوع، فأسرعت وجاءت ببعض بقايا فتاة الخبز والقليل من الرز وما تخلف من عشاء الليلة الماضية وقد تكاثر عليه الجميع فعملت الأيادي وراحت تلتهم ما وقعت أعينهم عليه وأتو على كل ما تبقى، حتى انسحبوا وعيونهم ما زالت ترنوا إلى وعاء الطعام، سألته زوجته بوجوم:
– ما هي أخبار المعاملة.
– لا جديد فقد اعطوني موعداً جديداً لإكمال الإجراءات.
– متى تكتمل قد ضاع ولدنا بسبب هذه التناحرات السياسية بينهم فما ذنبنا ندفع الثمن من دم أبنائنا.
– لاحول ولا قوة الا بالله، لا تزيدي مواجعي!
– لقد كان الوحيد لنا وانت رجلٌ تقدمت بك العمر فمن يعيننا بعد الآن!؟ راح يدير وجهه في الغرفة يبحث عن سيكارة ربما تكون قد سقطت منه أو نسيها في معطفه، فقد نفد سكائره ولم يجد شيئاً، وأصبح الصداع يزداد شيئاً فشيئاً حتى تذكر انه قد رمى في الصباح عقب سيكارة في باب الغرفة ركض الى الباب مسرعاً علهُ يجده، فهدأت أوجاعه في الحال وهو يعود الى غرفته بعقب السيكارة يبحث عن عود ثقاب بعد أن استشعر أنه قد عاد منتصراً ولو في هذه المرة الوحيدة في حياته وهو يمج ذلك العقب بفمهِ بلذةٍ لا تعادلها لذة الفاتحين.
– العكادة: نوع من السقوف للمنازل اشتهر في العراق في القرن الماضي لغلاء سقوف المنازل بالخرسانة الاسمنتية.
– بغداد