تأثيرات المهجر والمدرسة الرومانسية عشق الأرض الدرويشي علوان السلمان يقول وردزورث (الشاعر هو صخرة الدفاع عن الطبيعة البشرية فهو المدافع والمحافظ الذي يحمل معه الى كل مكان العلاقات والحب .. يصنع الشاعر التحاما عن طريق العاطفة والمعرفة بين اطراف هذه الامبراطورية الواسعة من المجتمع البشري حيثما هي ممتدة فوق كل الدنيا وفوق كل زمان ..) ومحمود درويش الشاعر الذي اوقف ابداعه وحياته دفاعا عن المعذبين في الارض .. وعن الحب والحرية .. ذلك الفلسطيني الذي ينتمي الى الانسانية اكثر مما ينتمي الى رقعة معينة من الارض ..انه كما يقول برنادشو ( لسنا مواطنين داخل حدودنا فقط ..ولكننا ورثة لكل الارض ) .. ومحمود درويش واحد من اولئك الشعراء الذين حققوا ذواتهم ليس في الكلمة بل وفي الحب الذي منحوه للآخرين عبر القضية .. فالشعر عنده ليس تعبيرا عن الهموم الذاتية وانما تطغى قضية الجماعة حيث يذوب الخاص بالعام والذاتي في الموضوعي .. لقد ارتبط شعره بالواقع النضالي للانسان ارتباطا عضويا متماسكا .. لاتستعيري من مناديلي اناشيد الوداد ارجوك لفيها ضمادا حول جرح في بلادي/المجموعة الكاملة/ص309 محمود درويش الذي انسحب بساط الارض من تحت قدميه وقريته (البروة) يتذكر كيف ايقظته امه فوجد نفسه يعدو بين التلال والوديان يطارده رصاص لايفهم معناه وبعد ليلة من التشرد وجد نفسه في لبنان.. فكانت تلك الليلة بالنسبة للشاعر بداية مرحلة التكوين النفسي.. ثم يعود الفتى الى قريته بعد تحريرها وقد تغير اهلها وكل شيء فاستحالت الى رموز وهنا بدأت مرحلة التكوين الفني .. واصدار الشاعر اول مجاميعه الشعرية ( عصافير بلا اجنحة) عام 1960 … والذي تلته مرحلة الاعتقالات والسجون فكانت المرحلة الاولى عام 1961 وقد عبر عن هذه التجربة السجنية قائلا ( ان السجن الاول مثل الحب الاول لاينسى).. واعتقل ثانية عام 1965 بسبب سفره من حيفا الى القدس بدون تصريح وكتب في هذه المرة معظم قصائد ديوانه ( عاشق من فلسطين) .. وفي عام 1967 حامت حوله شبهة النشاط المعادي لاسرائيل وتم اعتقاله وعن هذا يقول (كنت مستريح النفس في هذا السجن .. فقد كان الواقع خارج السجن مؤلما بعد الهزيمة .. وفي مثل هذه الظروف يبدو السجن مريحا للنفس الى ابعد الحدود) وبعد اطلاق سراحه عمل في جريدة الاتحاد ومجلة الجديد ..وكانت مجاميعه الشعرية تتوالى فكان ( اوراق الزيتون) و(آخر الليل) و( يوميات جرح فلسطيني ) و( حبيبتي تنهض من نومها) و( محاولة رقم 67 ) و (اعراس) و( احبك او لا احبك) و( احمد الزعتر ) … يقول محمود درويش حول بداياته الشعرية (لا اذكر متى بدأت بالضبط محاولة كتابة الشعر ..ولا اذكر الحافز المباشر لكتابة القصيدة الاولى..وان كنت اذكر اني حاولت في سن مبكرة كتابة قصيدة طويلة عن عودتي الى الوطن .. حذوت فيها حذو المعلقات فأثارت سخريةالكبار ودهشة الصغار..) هذا يعني ان بداية الشاعر كانت تقليدالشعر الكلاسيكي .. بحكم مطالعاته واتساع معرفته اللغوية ومعرفة الموسيقى الشعرية .. ثم كانت مرحلة ( الثوري الحالم) كما يسميها الشاعر.. والتي خضع فيها لتأثير شعراء المهجر وشعراء المدرسة الرومانسية مما جعل شعره اكثر رقة واغنى حلما .. فهو يرفض الواقع الذي يعيشه ويتحدث عن واقع آخر لكنه لا يحدد الرفض ولا التمني.. وفي المرحلة الجديدة من شعره نلتقي بعدد من الخصائص الفنية البارزة منها : انه يجأ الى الرمز والاساطير وفي هذا يقول (الرمز عندي كما اراه ليس مبهما ..ان من الحكمة اكتشافه بسرعة .. وهو اولا واخيرا بديل للتعبير المباشر ..) وهناك سبب يدفع الشاعر للرمز ذلك هو محاولة التعبيرعن تجاربه بعيدا عن سطوة الرقابة ..مع العلم ان الرمز عنده ليس معقدا ولا مغلقا امام الفهم .. وجدوا في صدره قنديل ورد.. وقمر وهو ملقى ميتا فوق الحجر/ المجموعة الكاملة /ص536 فالشاعر مرتبط بالجماهير وهو يريد لشعره ان يصل اليها ومن هنا حرص على الوضوح في اطار رموزه وحرصه على ان تكون بعيدةعن التعقيد الفني .. فهو يقول : قصائدنا بلا لون .. بلا طعم ..بلا صوت اذا لم تحمل المصباح من بيت الى بيت وان لم يفهم (البسطا) معانيها فأولى ان نذريها ونخلد نحن للصمت/ المجموعة الكاملة/ ص198 ويقول: اجمل الاشعار ما يحفظه عن ظهر قلب..كل قاريء فاذا لم يشرب الناس اناشيدك شرب قل انا وحدي خاطئ/ المجموعة الكاملة /ص238 فالرمز عند الشاعر شفاف خال من التعقيد ..ذو صور انسانية عميقة.. فالرمز الذي اطلقه درويش على حبيبته (الارض) كتفاحة في قوله : أتفاحتي يااحب حرام يباح اذا فهمت مقلتاك شرودي وصمتي انا .. عجبا .. كيف تشكو الرياح بقائي لديك؟ وانت .. خلود النبيذ بصوتي وطعم الاساطير والارض / المجموعة الكاملة / 317 يعني ان التفاحة اصل الحياة ..ذلك انها كانت السبب في سقوط آدم الى الارض وبالتالي كانت السبب في الحياة الآدمية .. ذلك يعني ان حبيبته (الارض) هي اصل كل شيء لديه .. ومما ميز القصيدة الدرويشية اعتمادها الحوارية فالشاعر يقول (انني مشبع بالرغبة في كتابة مسرحية شعرية ) ففي قصيدته (الجسر) نجد صورة الشيخ وابنته والجندي والحوار بينهم : قال الشيخ منتعشا : وكم من منزل في الارض يألفه الفتى قالت: ولكن المنازل ياابي اطلال فأجاب: تبنيها يدان / المجموعة الكاملة / ص455 لقد اكثر الشاعر من استخدام صور الحياة اليومية في شعره وهذا يكشف عن مدى ارتباط الشاعر بالناس البسطاء والكادحين والارض كاستخدام الزيتون والتبغ والشاي والقمح … انا نحب الورد لكنا نحب القمح اكثر ونحب عطر الورد لكن السنابل منه اطهر/ المجموعة الكاملة ص177 وهنا تعبير عن ترابط الطبيعة بالانسان وتأكيده على العنصر الانساني في الطبيعة حيث يقول : اذا خسرت الصديقة فقدت طعم السنابل / المجموعة الكاملة / ص 497 فوجود الانسان هو الذي يعطي للطبيعة قيمتها ومعناها وطعمها .. حتى انه عندما سئل مرة الشاعر الفرنسي اراغون متى ينشأ الشعر ؟ اجاب على هذا السؤال بقوله : اعتقد عن نفسي ان الشعر يبدأ عندما يفهم بطرق ليست بالضرورة طرق الفهم العادية .. ان الشعر يوصلني الى الواقع بطريقة مباشرة والانفعال الشعري علاقة المعرفة التي تم الوصول اليها لا العكس .. ان الغناء يستيقظ بالذات عندما تكتمل المطابقة بين الشكل والمضمون ..) ومحمود درويش شاعر عاطفي عبقري اتاح فرصة للتعبير عن افضل ما في النفس وقد اتاحت هذه العبقرية للشاعر فرصة للابتكار والتعبير والكشف عن مصير الانسان .. فالحب عنده يرتبط بالمعرفة.. كون الرؤيا الشعرية عنده ليست عاطفية ولكنها وعي عميق متسلح به الشاعر في وجه الاحداث … وللمرأة في شعره اثر فاعل من الناحية المعنوية والسياسية والفنية..انها المبدأ الخلاق في حقيقتها الكاملة كأمرأة وامرأة ثورية اجمل الفرسان في الليل .. يحجون اليك بشهيد وشهيدة / المجموعة الكاملة / ص90 فالشاعر يتآمر على الصورة الشعرية .. فهو لايلجأ الى استخدام ادوات التشبيه الا نادرا.. فالصورة تؤكد نفسها بوجودها لا باستخدام الشاعر لادوات التشبيه من اجل تغريبها عن ذهن المتلقي .. فهو يرى ان موضوعه قابل للتصوير من جميع الجهات.. فيتدفق مع قصيدته دون ان يلهث وراء صورة او يتوقف عند معنى ..اذ ان صوره تنطلق في بنائها من صراع صورة زائد صورة مضادة تنتج منها صورة جديدة كقوله: عيناك شوكة في القلب توجعني واعبدها واحميها من الريح / المجموعة الكاملة /ص253 فالصورة هنا .. الارض لها عيون جميلة(صورة الجمال) العيون شوكة (صورة الالم ) ومع هذا فهي الحبيبة .. فالحب عند درويش ليس موقفا رومانتيكيا يلجأ اليه الشاعر في زمن الغربة ولكنه اصالة نضالية تزود الشاعر بروح المقاومة فالحبيبة الارض لا تأسر الشاعر في حدودها ولكنها تفتح له الافاق والحدود .. فالارض هي مصدر الحب عند الشاعر وطريقته في الحب اشبه ما تكون بطرق الصوفيين في العبادة .. وها هو يتلذذ بالاحتراق على صليب حبه .. احبك .. كوني صليبي وما شئت كوني وكالشمس ذوبي بقلبي ولا ترحميني / المجموعة الكاملة / ص479 انه يذكرنا باراغون ـ الزا .. بين حبه لالزا وحب فرنسا.. فيتألق وجهها وسط الملحمة التي صاغها فعكست عيونها العلم الفرنسي والرمز الفرنسي والالم الفرنسي.. ويذكرنا بما قاله واعطاه للارض الفرنسية ايام الحرب العالمية الثانية زمن الاحتلال النازي .. حيث يقول : فرنسا تحت اقدامنا فرقة باليه انها ترفض اقدامنا شيئا فشيئا سأصرخ … سأصرخ.. شفتاك هي الكأس الذي طالما رشفت منه الحب المديد .. ودرويش يقول : قلسطينية الكلمات والصمت فلسطينية الصوت فلسطينية الميلاد والموت/المجموعة الكاملة /ص260 فالشاعر لم يجعل حبه ملاذا يهرب فيه من الواقع .. بل جعل من حبه دفقة لغنائه المتصاعد ..فهو يبحث عن حنان يعوض به ألم الغربة فانتصبت الارض( أما) تغمره بالحنان .. فهو يقول: (لقد استبدلنا امهاتنا بجذوع الزيتون كي لانصبح غرباء).. فالعاطفة عنده ليست مجردة .. بل انها ترتبط كل الارتباط بالقضية التي يعيش معها في كل لحظة وهي قضية الوطن ..فهو لايجرد العاطفة او ينعزل بها عن قضيته ..لذا نجد شعره مرتبطا بها ..فالمواصفات التي اطلقها درويش على الشاعر وعلى الارض هي : الشاعر ……..كلماته رقة وعاطفة اضافة الى انه قابل للانفجار.. الارض ……..وطن ـ حلم ـ سجين ـ مبعثر ـ محاصر.. الارض ……..أم ـ شهيدة ـ حزينة ـ حنونة ـ محترقة .. الارض ……..حبيبة عيونها شوكة ـ تفاحة ـ قضية .. ودرويش في بنائه الشعري يعتمد الحركة التوافقية .. فهو يبتعد جسديا عن الارض ويقترب نفسيا منها .. فتبقى هي الموضوع الاساس الذي يطغي على تفكيره واحاسيسه بالرغم من انه لم يترك ارضه الا مرغما .. لقد وصل الشاعر في التعبير الفني عن تجربته الى درجة عالية من الاحساس العميق .. فالكل عنده واحد لايتجزأ .. اذ الكل جرح يحارب.. هذه الارض التي تمتص جلد الشهداء تعد الصيف بقمح وكواكب فاعبديها .. نحن في احشائها ملح وماء وعلى احضانها جرح يحارب ../ المجموعة الكاملة/ص389 وبذلك نجد الترابط الجدلي بين الحبيبة والارض الوطن ..فالارض ليست لوحة جمالية يغنيها الشاعر وعلاقته بها علاقة صوفي يكتسب اهميته من خلال كون الارض وطنا يناضل الشاعر في سبيله وهو يرتقي سلم الابداع الى درجة عالية من القدرة الفنية .. اذ يربط الشاعر بين الحب والوطن بصور اعمق واجمل ويتجاوز التأثير العاطفي والموسيقي لكي يصبح الشعر عنده قادرا على تغبير العالم بفعل تأثيره على المخيلة واستعادة الحيوية.. ونعبر في الطريق مكبلين… كأننا اسرى يدي لم ادري ام يدك احتست وجعا من الاخرى / المجموعة الكاملة /ص323 فالشعر العاطفي عند درويش كثيرا ما يمتزج امتزاجا عميقا بالطبيعة وعناصرها ( المطر والاشجار والانهار ) وهي تشارك مباركة هذا الهوى الحزين وصوتك كان يا ما كان يأتيني من الابار احيانا واحيانا ينقطه لي المطر نقيا هكذا كالنار .. كالاشجار كالاشعار ينهمر .. / المجموعة الكاملة / ص554 وللعيون عند الشاعر تشكلا مهما ..اذ انها تتكرر في قصائده كثيرا وهو يتوقف امامها ويخاطبها ويستمع اليها ويستوحي منها قطرات من العاطفة العميقة النقية.. وكثيرا ما كان ينظر من خلالها وطنه وحريته والانسانية.. فلسطينية العينين والوشم فلسطينية الاسم… فلسطينية الاحلام والهم / المجموعة الكاملة / ص660 وقوله : انا آت الى ظل عينيك ..آت محمود درويش في موقفه الانساني متفتحا على الانسانية بقلب مفعم بالحب بالرغم من انه شديد الارتباط بالارض ( الوطن) ( الحبيبة) الا ان هذا لايحبسه في اطار الوطنية الضيقة ولكنه يفتح آفاقه صوب الانسانية..بشعر يتميز بتماسكه القوي في معماريته الهندسية المدروسة بدقة والمشبعة بغنائية عذبة وواقعية يلفهاالرمز المعمق للمعنى والشمول الانساني عبر صوت متفرد يولد الحب عنده وسط قضية يلتصق بها .. باعترافه حين قال: ( اريد ان اكسر الحائط الذي يفصل بين العاشقين والشارع )..فكانت قصائده متميزة بالبساطة والشفافية مع واقعية في المضامين وكثافة في الكلمات والصور المموسقة والمغتنية بالحلمية الواعية ..وغنائية قدمها على صفحات دفتر حبه الذي اتسع الارض كلها والانسانية من خلال التفاصيل التي بنى عليها حتى وصل في بنائها قمة الهرم المعماري فكان خلودا ونقشا في الذاكرة.. وما قول الدكتور احسان عباس الا تأكيدا لما طرحناه اذ يقول : ( لم يعد محمود درويش يكتفي بكثافة اللفظة واستدارتها .. وزخم الصورة وتلأ لئهافي ضوء ساطع وتدرج تصاعدي وحنين غامر .. بل اصبحت القصيدة فروعا ممتدة هنا وهناك .. وفي امتدادها ونموها الذي يعجز القاريء احيانا عن ان يشملها بنظرة كلية ..او يضمـــــها كـــــأنهــــــا بــــاقة واحـــــــدة).